للحجاج بن يوسف الثقفي عبارة تحمل عمقا كبيرا في مقولته ( لو فرحة الإياب لعذبت أعدائيَ بالسفر ) ، ولكن يبدو أن هذه العبارة لن تشمل المعلمين الذين امضوا خدمتهم نُحات لحفر الحرف ومشتقاته في عقول خام بريئة حملتها رؤوس اطفال مناطق الاهوار ، فقد كان الإياب بالنسبة لهم حزن أنهم سيعودون الى البراغيث والحرمس ولسع البعوض في العنق ( حصريا ) وقد ترك مواسم قبلات النساء البلغاريات على ساحل فارنا والهمس البولوني على سرير عذب في شقق وارشو أو عناق ( مخدات ) بودابست أو لذة ( حلقوم ) اسطنبول الأحمر.
كل تلك المواسم الصيفية التي تخالف ما كان يصرح فيه الدكتاتور القاسي ( الحجاج ) ، يدرجها المعلمون قصصا في شتاء الاهوار بعد أن ينتهي دوام المدرسة فيتسابقون على التباري والزهو في ( دون جوانية ) ذلك السفر ، فيما يحاول البعض ان يسجلوا تلك الايام السندبادية قصصا ذات عطر ايروتيكي لا يزعجها شيء سوى تذكر لسع ( براغيث قطار طوروس )
وحين لا أصدق قصة أن تكون هناك براغيث في عربات قطار الشرق السريع الذي يسجل تواريخاً مهمة عن آخر ازمنة السلطنة العثمانية في العراق ، أضحك واقول ربما بسبب اللون الاسود والقاتم بين لون عربات القطار والبراغيث تكون حميمية اللسع هو ما يزعج الركاب عندما يبدأ الإحساس بوجودها حالما يدخل القطار مدينة (غازي عنتابا) التركية. أضحك أنا ولا اصدق حكايات البراغيث في قطار كان واحد من الاساطير الالمانية في الشرق العربي والذي نسجت فيه الروائية اجاثا كريستي أهم رواياتها البوليسية ( جريمة في قطار الشرق السريع ) ، والذي بنى عليه السلطان عبد الحميد آمالا كبيره في نقل السلطنة الى قلب اوربا من اجل الحضارة والحداثة ،لهذا اعلن عدم تصديقي بوجود براغيث في القطار الذي تبدأ أحلامه من البصرة وتنتهي بمحطة شمال باريس ( نورد باريس ).
قلت : لدي نية للسفر في العام القادم ، وسيكون القطار واسطتي لأرى اوربا التي احلم بالتجوال على ارصفة ليلها وسأرى أن كانت هناك براغيث ، وهذا يعني أن ليل الاهوار لا يفارقنا حتى في القطار .
ضحك احدهم وقال : حين تسافر لاتدعْ أمكَ تعملْ لكَ ( كليجة في الطريق ) لأن معظم الذين يشاركوك غرفة القطار لديهم صررا منها والجميع يقول لكَ : تفضل ، ويصر أن تأكل معه .وأعتقد أن جوع المسافرين يبدا عند دخول الاراضي التركية ، وفي تقديري ان البراغيث المختبئة في المزارع على جانبي السكة تشم رائحة الجوز والتمر و( اللب غراش المبروش ) داخل الكليجة فتشتهي وتهاجم العربات.
ضحكنا لهذا التفسير السريالي ، ولكني اعلنت اني لن اصدق قصة وجود براغيث في قطار ، وقلت هناك فقط رائحة القهوة في مطعم القطار وعبوس قاطع التذاكر ( التيتي ) والنوافذ الزجاجية العريضة التي تتأمل فيها الحقول والجبال والمدن التي تمتد الى جانب السكة الحديدية .
قالوا : ستذهب وسترى .
وهكذا قطعت بطاقتي من المحطة العالمية في بغداد في أول سفرات الذهاب الى ابعد من قرى الاهوار ،مغادرا شرح فصول كتاب الجغرافية الى متعة جغرافية الاجفان الحقيقية وهي تتمنى بالتقاط صورة رومانسية جنب قطة فرنسا برجيت باردو ، وزيارة الكنيسة البيزنطية فيا صوفيا في منطقة سلطان احمد بإسطنبول ، وربما يصادفني تمثالا للينين أو ماركس في دولة اشتراكية فألتقط معه امنية التصوير الى جانب رجال احلامنا اليسارية في الليل الذي لم يمنعنا فيه البعوض من قراءة الكتب التي تطبعها من اجلنا دار نوفيستي الروسية.
وهاهو القطار يغادر اراضي الموصل ويدخل ديار حلب ثم بلاد السلطان سليمان .
ومثل الذي ينتظر موعدا غراميا كنت انتظر البراغيث ، وعندما اقترب القطار من عينتاب تهيئت لها لاكتشف صدق او كذب اصدقائي .
لكنني لم احس بشيء حتى بعد مغادرتنا المدينة ، فقلت : مع نفسي أنهم يكذبون ، دقائق حتى صرخت فتاة بغدادية جميلة :ما هذا اكاد اموت من لسع البراغيث ، اين نحن في غابة .؟
ضحكت ، واقتنعت ان البراغيث موجودة ولكني بسبب تعودي على لسعها في ليالي الاهوار لمْ اشعر بلسعها .