23 ديسمبر، 2024 8:19 ص

بدون مونتاج … ببراءة الطفولة تناغي أخيها الشهيد

بدون مونتاج … ببراءة الطفولة تناغي أخيها الشهيد

لم تكن جلستها مفتعلة لحدث عابر طرأ عليها أو حالة إنفعال مؤقتة فهي لا تمتلك مخزون مسبق عن مجريات الأحداث ولم يتبادر إلى ذهنها أن العالم من حولها أكثر تعقيداً مما تتصوره في مخيلتها فحياتها لا تتعدى ببساطتها أن تكون إلا بمثل عمرها وفقرها ولم يتسنى لمثلها أن ترتسم لديها آفاق أبعد من ناظريها وخطوط لمستقبلها المجهول وما تخفيه لها الأيام من زيادة محسوسة لحالة الفقر المدقع والعوز الذي سيرافق حياتها فتتحول معاناتها لسهام متشظية في كل صوب وغضب فكري يتيح لها الشجب والإستنكار لما يحدث والقيام بثورة .
برائتها أوسع من عظم الصدمة وأكبر من صعوبة الموقف وأعمق من هول المصيبة تلك هي الطفلة العصماء بما تحمله من عاطفة جياشة تجاه أخيها الذي لا يكبرها إلا بأعوام قليلة والذي طالته على حين غفلة من زمن الخيلاء وبأيادي الغدر والإستهتار لتطرحه صريعاً مضرجاً بدماءه القانية وتتوقف حياته البريئة دون ذنب إقترفه أو جريرة عوقب عليها .
لم تعرف طفلة الناصرية أن أخيها ( أسعد سالم ) الذي خرج مع جموع الشباب من هم بمثل عمره ومن يكبرونه إلى ساحات التظاهر مطالباً بحقوقه وحقوق إخته المسلوبة عنوة من شراذم القوم الذين عاثوا في الأرض فساداً ودمروا البلاد والعباد بلا وازع للإنسانية أو ذرة من أخلاق أو صحوة من ضمير فمثلهم في سلب الخيرات ونهب الثروات كمثل جهنم ( هل إمتلئت ؟ وتقول هل من مزيد) ولم يخطر في بال تلك الطفلة أن أخيها خرج ولن يعود .
من المفارقات أن أخ الطفلة إسمه أسعد ولم يسعد بحياته قط ولم يشم عبق السعادة أو يتحسسها يوماً ولم ترافقه لا في يقظته ولا في الأحلام ، كما وأن إسم والده ( سالم ) فلم يسلم ولده اليافع من غدر الغادرين وكيد الفاجرين وإجرام المارقين .
إستشهد الشاب أسعد سالم وذهبت دماءه أدراج الرياح مثله كمثل المئات بل الآلاف من الشهداء المغدورين ممن سبقوه في هذا البلد ، ولم يحصل من مكتسبات تذكر أو يشار لها بالبنان لا في حياته ولا بعد شهادته إلا على حيز محدود جداً جداً في الفضاء لتعليق صورته اليتيمة في أعلى سارية عمود إنارة في شارع مخاذي لمنطقة سكناه فهذا كل ميراثه الذي تركه لإخته الصغرى التي يصعب عليها إحتضان صورة أخيها الشهيد وتلثمه وتناغيه لصعوبة تسلق ذلك العمود .
حبها لأخيها وتعلقها به وإشتياقها إليه وفقدانها له جعلت براءتها تهبها قوة طفولية وشجاعة لنفسها متحدية كل الظروف المحيطة بها من قساوة الأجواء الباردة والخوف من الوحدة وظلمة الليالي .
في كل يوم من بعد شهادة أسعد وحين يسدل الظلام أستاره معلناً عن قدوم الليل وإلى أن تغمض عيناها في وسط الطريق ، تجلس هذه الطفلة على قطعة من بلوك في وسط الطريق عند الجزرة الوسطية للشارع وتحت عمود الإنارة الذي يسند صورة أخيها الشهيد ، ترتدي ثياب بالية باكية عليها قبل عينيها على حالة البؤس والشقاء و التي لا تقي ملابسها من برد الشتاء إلا بما يسترها ، وتوقد بضعاً من الشموع المتاحة لديها وكأنها تناغي روح أخاها في العلياء أن أنزل من أعلى السارية وإجلس معي كما كنا قبل أيام قلائل قبل أن تغادرنا وتحكي لي عن بلادنا العراق الكبير الذي لا نملك شبراً من أرضه وخيراته الوفيرة المحرومين منها اليوم كما حرمت من قبل على أبائنا وأمهاتنا وأجدادنا ، وعن بطولات الشعب في السابق واللاحق وإنتفاضاته المتكررة لنيل الحرية والحصول على إستحقاقاته في الحياة الحرة الكريمة ودور السلطات الظالمة المتعاقبة على حكم العراق والقهر والظلم والإضطهاد الذي طال عائلتنا وكل العوائل حولنا ودور السراق والفاسدين من أبناء جلدتنا الذين أذاقونا الأمرين ، وإن كنت يا أخي لا أستوعب بفكري الطفولي ما تقول فيكفي أني أعرف أنك شهيد …