المتابع للسّياسة الأمريكيّة بإداراتها المحتلفة والمتعاقبة حول القضّيّة الفلسطينيّة منذ نكبة الشّعب الفلسطينيّ الأولى عام 1948 وحتّى يومنا هذا، لا يحتاج إلى كثير من الذّكاء ليعلم مدى الإنحياز الأمريكي لإسرائيل في الأحوال كلّها، ومعاداتها العلنيّة لفلسطين وشعبها بشكل خاصّ وللأمّة العربيّة بشكل عامّ، فأمريكا ومن ورائها أتباعها الأوروبّيون يرون في اسرائيل قاعدتهم العسكريّة المتقدّمة لقهر شعوب ودول المنطقة، لذا فإنّهم لم يكتفوا بدعم اسرائيل لضمان تفوّقها العسكريّ على دول المنطقة مجتمعة، بل إنّهم غضّوا النّظر عنها ووفرّوا لها الحماية في خرقها للقانون الدّولي ولقرارات الشّرعيّة الدّوليّة، وفي عدم احترامها للوائح حقوق الإنسان، وفي عدم احترامها لكثير من الاتّفاقات الدّوليّة مثل اتّفاقات جنيف الرّابعة بخصوص الأراضي التي تقع تحت الاحتلال العسكريّ، بل إنّ أمريكا ترفض مجرّد التّحقيق مع قادة اسرائيليّين ارتكبوا جرائم حرب في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.
ووصل الإنحياز الأمريكي والأوروبّي مداه بغضّ النّظر عن امتلاك إسرائيل لأسلحة الدّمار الشّامل كالأسلحة النّوويّة والكيماويّة والفسفوريّة والصّواريخ البالستيّة، في حين قاموا باحتلال العراق وتدمير وهدم دولته وقتل وتشريد شعبه من خلال كذبة امتلاك العراق للأسلحة الكيماويّة. ويحاصرون إيران بحجّة أنّها تسعى لامتلاك السّلاح النّووي، وإسرائيل المدلّلة أمريكيّا وأوروبّيّا تواصل احتلال أراضي دولة فلسطين العتيدة، وهضبة الجولان السّوريّة المحتلة، ومزارع شبعا اللبنانيّة، في حين أنّ إيران لا تحتلّ أراضي الغير، وإن كانت تتنازع مع الإمارات على ملكيّة جزيرتين، وإذا كانت إيران تدعم قوى ثوريّة في المنطقة مثل حزب الله اللبناني وجماعة “أنصار الله” في اليمن، فإنّ اسرائيل المدلّلة دعمت الجماعات الإرهابيّة في العراق وسوريّا ومنها “جبهة النّصرة” الدّاعشيّة، ودعمت سابقا النّظام العنصري في جنوب افريقيا، وتدعم اثيوبيا في صراعها مع مصر والسّودان على مياه النّيل، ودعمت انشقاق جنوب السّودان، وتدعم الكثير من حركات التّمرد في دول أخرى.
القضيّة الفلسطينيّة بين ترامب وبايدن
مع أنّ أيّ رئيس أمريكي ينفّذ سياسة الدّولة الأمريكيّة العميقة، إلا أنّ هناك من يجيد إدارة الصّراعات كبايدن، وهناك من يعتمد على القّوة كترامب الذي يجهل السّياسة وفنونها، وبفكره المتصهين ارتضى أن يكون تابعا لرئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، فألغى الاتّفاق النّوويّ مع إيران لأنّ نتنياهو يعارضه، وطرح ما يسمّى “صفقة القرن” التي أملاها عليه نتنياهو، وأعلنها حربا مفتوحة على فلسطين وشعبها، وكذا على سوريّا وإيران واليمن وليبيا وغيرها، وفضح كنوزه الإستراتيجيّة في المنطقة عندما أمرهم بتطبيع العلاقات مع اسرائيل؛ لتصفيّة القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ، ولجعل اسرائيل سيّدة المنطقة وحارسة للمصالح الإمبرياليّة نيابة عن أمريكا. ولتجنيد العربان لمحاربة إيران جنبا إلى جنب مع اسرائيل، ومن المضحك المبكي أنّ أنظمة عربيّة تتخوّف من احتمال امتلاك إيران للسّلاح النّووي مستقبلا، بينما تصمت على السّلاح النّووي الإسرائيلي، الذي كان ولا يزال مصوّبا على عواصم ومدن عربيّة!
وجاء بايدن الأكثر حنكة وسياسة وإدارة من ترامب، وحاول من خلال خبرته السّياسيّة طويلة المدى كعضو في الكونغرس لعشرات السّنين وكنائب للرّئيس الأسبق أوباما، لتحسين وجه أمريكا أمام الرّأي العام الأمريكيّ بعد أن زاده ترامب قبحا وبشاعة. لكنّه لم يخرج أي بايدن من عمق السّياسة الأمريكيّة المتمثّلة بالدّعم المطلق لإسرائيل.
المفاوضات مع اسرائيل وسيلة وليست هدفا.
أعلن بايدن دعمه لحلّ الدّولتين، وإعادة المساعدة الأمريكيّة للسّلطة الفلسطينيّة ولوكالة غوث اللاجئين، وإعادة فتح مكتب منظّمة التّحرير في واشنطن، وإعادة فتح القنصليّة الأمريكيّة في القدس الشّرقيّة، ورحّبت السّلطة الفلسطينيّة بذلك واعتبرته بادرة خير للعودة إلى المفاوضات! وهنا يجب التّأكيد بأنّ هذا التغيير الشّكلي في السّياسة الأمريكيّة في عهد بايدن هو لمصلحة سرائيل قبل غيرها، فسياسة ترامب وحليفه نتنياهو لو نفّذت لأدخلت المنطقة في صراعات دامية طويلة المدى، ولن تجلب للمنطقة ودولها وشعوبها وإسرئيل ليست استثناء إلا الويلات.
فهل ستعود المفاوضات بطريقتها السّابقة والتي امتدت حوالي ثلاثة عقود منذ مؤتمر مدريد عام 1991 واتّفاقات أوسلو عام 1993، والتي لم تسفر إلا عن زيادة الإستيطان في الضّفّة الغربيّة وجوهرتها القدس، لفرض حقائق على الأرض تمنع إقامة الدّولة الفلسطينيّة. وهل أمريكا راعٍ محايد وموثوق لهذه المفاوضات؟
إنّ قيادة الشّعب الفلسطينيّ اتي اتّخذت المفاوضات نهجا استراتيجيّا مع اختلال موازين القوى، مطالبة بالإصرار على مؤتمر دوليّ، يعلن سلفا إصراره على تطبيق قرارات الشّرعيّة الدّوليّة، ويلزم اسرائيل بالإعتراف المسبق بحدود الدّولة الفلسطينيّة على الأراضي المحتلّة عام 1967 وفي مقدّمتها القدس، ووقف الإستيطان ، ووضع جدول زمنيّ للإنسحاب الإسرائيليّ غير المشروط من هذه الأراضي، وإلا سنبقى ندور في حلقات مفرغة ستكرّس الاحتلال الذي يعمل على كسب الوقت لتنفيذ خططه التّوسّعيّة.