لسنا بحاجة إلى التّذكير بالأطماع الغربيّة الإستعماريّة في المنطقة العربيّة، فهي معروفة منذ أكثر من ألف عام، فالفرنجة غزو بلاد الشّام في القرن الحادي عشر الميلادي، واحتلّوها بسهولة بسبب تعاون ملوك الطوائف معهم، حتى وصلوا القدس واحتلوها عام 1099، وقتلوا مواطنيها كافّة وهم يحتمون في المسجد الأقصى، وحتّى في العهد العثماني لم تسلم المنطقة العربيّة منهم، فالفرنسيون استولوا على مصر بقيادة نابليون، واتّجه شمالا حتّى هزم عند أسوار عكا في شمال فلسطين، بينما بنى الإيطاليّون نفوذهم في ليبيا، وأثناء الحرب الكونيّة الأولى وفي العام 1916 وقعت بريطانيا وفرنسا بمعرفة روسيا القيصرية اتّفاقيّة سايكس بيكو، لتتقاسم فرنسا وبريطانيا بلاد الشام والعراق التي كانت تخضع للسّيادة العثمانيّة، مقابل اطلاق يد روسيا في غرب آسيا، وقد فضحت ثورة أكتوبر البلشفية في روسيا هذه الاتّفاقيّة. ومعروف أنّ العرب تحالفوا مع بريطانيا ضدّ العثمانيّين، حتّى أنّ الجنرال البريطاني لورنس “العرب”قائد الجيوش البريطانيّة في الشّرق الأوسط، كتب في كتابه”أعمدة الحكمة السّبعة” أنّ الجيوش البريطانيّة عبرت قناة السويس باتّجاه فلسطين، ووصل الجنرال اللنبي نهر الأردنّ، ولم ترق نقطة دم انجليزية واحدة، وكانت الخسائر في الأرواح من العرب ومن المستعمرات”الهند والسّنغال”.
وفي الثّاني من نوفمبر 1917 أصدرت بريطانيا وعد بلفور الذي ينصّ على “منح اليهود وطنا قوميّا في فلسطين.”وانتهت الحرب بهزيمة العثمانيين، وتقاسمت بريطانيا وفرنسا العالم العربيّ، واستثني من الاحتلال ما يعرف اليوم بالسّعوديّة، لوجود الأماكن المقدّسة الإسلاميّة فيها، والباقي صحاري رملية قاحلة-لم يكن البترول قد اكتشف فيها-وشمال اليمن لأنّ البريطانيين لم يستطيعوا احتلاله بسبب وعورة المنطقة ومقاومة اليمنيين للغزو.
وقبل انسحابهم المستعمرين العسكريّ الشّكلي من المنطقة استطاعوا ترسيخ تقسيم المنطقة إلى أقاليم، لمنع توحيد العرب ولمنعهم من إقامة دولتهم القوميّة، وبعد أن تركوا مشاكل حدوديّة، لتبقى النّزاعات قائمة بين العرب أنفسهم، وبين بعض جيرانهم أيضا، فقد أعطت فرنسا لواء الإسكندرونة شمال سوريّا لتركيّا، وفصلت لبنان عن سوريّا ووضعت للبنان دستورا طائفيّا يمنع استقرار هذا البلد، وأعطت بريطانيا منطقة عربستان لإيران، وفصلت الكويت عن العراق، وأقامت اسرائيل عام 1948 على أرض فلسطين لمنع التّواصل بين العرب في الشّمال الإفريقي وبين المشرق العربي، ولتبقى حارسا للمصالح الغربيّة في المنطقة، بعد أن جعلوا منها ترسانة عسكريّة تتفوّق على دول المنطقة مجتمعة، ولتبقي العرب في حرب دائمة. ووضعت فرنسا طنجة شمال المغرب تحت السّيطرة الإسبانيّة.
وفي العام 1956 شنت بريطانيا وفرنسا واسرائيل عدوانهم الثلاثي على مصر، وفي العام 1958 زوّدت فرنسا اسرائيل بمفاعل نوويّ لتصبح الدّولة النّوويّة الوحيدة في المنطقة.
وفي العام 1967 هاجمت اسرائيل مصر والأردن وسوريا، وبطائرات الميراج فرنسيّة الصّنع، وبالأسلحة البريطانيّة احتلّت اسرائيل ما تبقّى من فلسطين”الضّفة الغربيّة بجوهرتها القدس وقطاع غزّة”، وصحراء سيناء المصريّة ومرتفعات الجولان السّوريّة المحتلّة.
وتوالت الحروب والنّزاعات بعد أن دخلت أمريكا -التي خرجت من الحرب الكونيّة الثّانية منتصرة- المنطقة التي لم تعرف الإستقرار منذ الحرب الكونيّة الأولى وحتّى يومنا هذا.
من وعد بلفور إلى وعود ترامب
يجدر التّذكير هنا أنّ بريطانيا عندما أصدر وزير خارجيّتها “وعد بلفور” كانت الدّولة الأعظم في العالم، ويبدو أنّ وعد بلفور وبريطانيا قد استنفذ مهمّاته، وجاء بديله بالدّولة الأعظم أمريكا وبرئيسها ترامب. فأمركيا بدأت حربها المفتوحة على العالم العربيّ بعد احتلال عام 1967، وبدأت بتسليح اسرائيل بآخر ما أنتجته الصّناعات العسكريّة الأمريكيّة، ودعمت اسرائيل لترسيخ احتلالها للأراضي العربيّة، وموّلت الإستيطان اليهودي في هذه الأراضي، وبعد انهيار الاتّحاد السّوفييتي ومجموعة الدّول الإشتراكيّة بدأت بشيطنة الإسلام والمسلمين، وفي العام 2003 احتلّت العراق ودمّرته وقتلت وشرّدت شعبه، وهدمت الدّولة العراقيّة، وقسّمت العراق طائفيّا؛ ليبقى يعاني حتى يومنا هذا، وفي العام 2006 قسّمت السّودان، وفي العام 2010 استغلّت هي وحلفاؤها ثورة الشّعوب العربيّة، وأسقطت مع حلفائها في “النّاتو” نظام القّذافي، وأدخلت ليبيا في حرب أهليّة لا تزال نيرانها مستعرة حتّى يومنا هذا، وأنشأت تنظيمات إرهابيّة تتدثّر بعباءة الدّين لتشنّ بواسطتها وبتمويل من كنوزها الإستراتيجيّة في المنطقة العربيّة حربها على سوريا، وهي لا تزال حتّى يومنا هذا تحتلّ منابع البترول السّوري في شمال سوريّا هي وحليفتها في حلف النّاتو تركيّا، وحاصرت سوريّا، وضيّقت اقتصاديّا على لبنان في محاولة منها للقضاء على حزب الله اللبناني، بعد أن فشلت اسرائيل في ذلك في حربها على لبنان عام 2006، وكلّ ذلك يصبّ في خانة تنفيذ المشروع الأمريكيّ “الشّرق الأوسط الجديد” لإعادة تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفيّة متناحرة. وفي نفس السّياق شُنّت حرب بالوكالة على اليمن للسيطرة على مضيق باب المندب والملاحة في البحر الأحمر.
وعندما وصل ترامب عام 2016 إلى سدّة الحكم في أمريكا، كشف عن وجه أمريكا الحقيقي في عدائها للعرب، وابتزّ الدّول العربيّة ماليا، وحلب منها تريليونات الدّولارات، بعد أن استولى على منابع النّفط. ولم يكتف بذلك بل بدأ بتنفيذ تصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ، لتكون اسرائيل البديل لأمريكا وحلفائها في السّيطرة على المنطقة، فحاصر منظّمة التّحرير والسّلطة الفلسطينيّة، واعترف في 6 ديسمبر 2017 بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقبل بإملاءات اليمين المتّطرف في اسرائيل بقيادة نتنياهو، وأصدر ما يسمّى “صفقة القرن” في 28 يناير 2020، في مخالفة واضحة للقانون الدّولي ولقرارات الشّرعيّة الدّوليّة، حيث منح أراضي الضّفة الغربيّة لإسرائيل، وكأنّها ملك خاصّ له، وأتبعها باعتراف إدارته بالسّيادة الإسرائيليّة على مرتفعات الجولان السّوريّة المحتلّة، وقطع التّموين عن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيّين لتصفية قضيّة اللاجئين وشطب حقّ العودة كما نصّت عليه قرارات الشّرعيّة الدّوليّة.
ترامب والمتصهينون العرب
ووسط هذه الأجواء، ووسط الحرب الإعلاميّة على الفلسطينيّين قضيّة وشعبا وقيادة، وصهينة أنظمة عربيّة صنيعة لأمريكا، فرض عليهم التّطبيع مع اسرائيل بشكل علنيّ بعد أن كان في الخفاء، فقامت الإمارات والبحرين والسّودان والمغرب حتّى الآن بالتّطبيع مع اسرائيل، بل وصل الأمر “بأمير المؤمنين” في المغرب، رئيس لجنة القدس وكما ذكرت صحيفة “اسرائيل اليوم” بفرض الصّهيونيّة في المنهاج الدّراسي للصّفّ الابتدائيّ السّادس!
ويلاحظ أنّ الأنظمة العربيّة الفاعلة مثل مصر والسّعوديّة ما أن يعلن ترامب ونتانياهو عن التّطبيع بين دولة عربيّة واسرائيل، حتّى يتسابقون إلى التّرحيب بهذه الخطوة معتبرينها قرارا سياديّا! فعن أيّ سيادة يتحدّثون؟
ويلاحظ أنّ ” وعد بلفور” الذي أدخل المنطقة في حروب زادت عن المئة عام، فإنّ وعود ترامب ستدخلها في حروب وصراعات لمئة عام أخرى. والحديث يطول.