23 ديسمبر، 2024 10:26 ص

بداية حياة .. مشاهد حية من أمس قريب

بداية حياة .. مشاهد حية من أمس قريب

” أن هذه المذكرات اعترافاتنا كل مساء “
الاخوة غونكور
”  بداية حياة “.. كتاب صدر أخيرا عن دار جامعة الصدر الدينية في النجف الاشرف وهو عبارة عن قصص وذكريات حول اهم المحطات التي توقفت عندها ذاكرة المؤلف الشيخ علي خليفة جابر خلال فترة تصدي السيد الشهيد الصدر (قد) للمرجعية ومرحلة ما بعد استشهاده وقيادة المرجع اليعقوبي للمشروع الرسالي وكذلك حفلت مدونة ” بداية حياة ” على مشاهد حافلة بالاحداث من مسيرة جامعة الصدر الدينية هذا الصرح الحوزوي الاكاديمي العملاق الذي كان بذرته صدرية ونمائه يعقوبيا ، بالإضافة الى ذلك لم يهمل الشيخ خليفة في ما تبقى من ذكرياته ان يؤرخ لتاريخ بعض العوائل الرسالية التي كان لها دور بارز في الحركة الاسلامية في العراق خلال العقود الثلاث الاخيرة من تاريخ العراق المعاصر ونقل لنا ايضا في بعض أضاءته لمحة عن انتفاضة (17) اذار وبعض احداثها ورموزها وما تلاها من حصار ومعاناة وتشريد لعوائل المنتفضين من قبل شراذم البعث وأجهزته القمعية ..

والشيخ علي خليفة جابر من مواليد 1967م ومحل ولادته كان عاصمة العراق الجنوبية البصرة ثغر الجنوب الملتهب دائما بالاحداث ، والمحور الرئيسي في الانتفاضات التي شهدها العراق آبان حكم جلاوزة البعث العربي الاشتراكي ، اما بالنسبة لدراسته بشقيها الاكاديمي والحوزوي فلقد اكمل دراسته اكاديميا في المعهد الطبي ونال فيه شهادة الدبلوم في القسم الوقائي ..

اما دراسته الحوزوية فلقد تشرف بدخول جامعة الصدر الدينية في العام 1997م واكمل مراحل الجامعة الدراسية الثمان ثم درس الكفاية عند الشيخ اليعقوبي ودرس المكاسب بعد ذلك عند الشيخ الشهيد حسين الحارثي قبل ان يلتحق بعد ذلك في درس البحث الخارج عند جملة من العلماء في النجف الاشرف منهم : الشيخ اليعقوبي ( الذي لا زال مستمرا بالدراسة عنده ) ، الشيخ الفياض، السيد علي اكبر الحائري ، الشيخ هادي ال راضي ، ويشغل المؤلف حاليا منصب مدير جامعة الصدر الدينية في النجف الاشرف بالوكالة ، وللمؤلف علي خليفة جابر بعض الكتب المطبوعة كـ (غدير الصدر) ، (سلسلة سياحة في فكر المرجعية) ، (بداية حياة ) والبعض الاخر لا يزال مخطوطا .

 

وبالحديث عن ادب المذكرات فأن للزمان دوراً مؤثراً ومحورياً دائماً في أبراز قيمة المدونة التاريخية ، وتتناسب قيمة تلك المدونات على الصعيد العلمي والاجتماعي والثقافي طرديا مع ارهاصات تلك الزمنية وما اتسمت به من احداث ووقائع وشخصيات عايشها وشهدها الكاتب .

وكذلك يمثل المكان عنصرا رئيسياً في تقييم المذكرات لأن بعض تلك المدونات التاريخية اقتصرت قيمتها كمنجز تاريخي وثقافي على نفس البلدة التي كانت محورا لسير أحداثها وبمعنى أخر انها لا تخرج من محلية الموضوعة والتاريخ .

ولذلك تكمن غاية الابداع والتأثير في أدب المذكرات عندما تجتمع في المدونة التاريخية ميزة اجتماع عنصري الزمان والمكان المؤثرتين في أبراز خصوصية المذكرات وما حفلت بها من ذكريات تمثل شهادة حية على تاريخ تحول بفعل فاعل الى كتاب لا يستساغ فتح صفحاته ومطالعتها من قبل (اللاعبين الكبار) لان ذلك بحسب معتقداتهم البالية بمثابة نبش لقبور الموتى وشعارهم في غلق ملفات الماضي ما جرى على لسان الشاعر الامريكي هنري لونجفيلو ( دع الماضي يدفُنُ موتاه).

وربما نجد العذر لبعض هؤلاء خصوصا الذين لم يعاصروا مسار الاحداث في سنوات المحنة التي مر بها العراق ابان حكم البعث وزمرته المجرمة لان هؤلاء (البعض) فاقد لإرهاصات تلك المحنة وسنواتها العجاف وبالتالي فأن فاقد الشيء لا يعطيه قيمته او أن تفاعلهم السلبي مع المذكرات التاريخية يرجع الى انهم لم يكونوا جزءا من ذلك التاريخ وبالتالي لا نجد وصفا للحالة ابلغ من وصف ت.س اليوت    (لا يشعر الانسان بأهمية الاحداث اذا لم يتعرض لها في يوم من الايام) .

الا ان البعض الاخر من الذين يقلقهم فتح صفحات التاريخ ربما كانت لهم بصمات مؤثرة في صناعة تاريخ المحنة سواء بالسلب وهو الاعم الاغلب ام العكس وربما لم يدر بخلد هؤلاء ان حاضرهم عبارة عن صورة طبقة الاصل عن ماضيهم          لأن النص القرآني واضح في تفسير هذه الظاهرة ( أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ولذلك يباغت جبران خليل جبران هؤلاء المنزعجين والقلقين في نفس الوقت من نبش صفحات التاريخ بأنهم سوف يكونوا محاصرين دائما بممارساتهم وافعالهم السلبية ويعبر عن ذلك بقوله (ما تنكره في الماضي قد ينتظرك في الحاضر) .

ولذلك كانت اهم تجربتين لتدوين تاريخ حقبة الشهيد الصدر (قدس سره) وخليفته المرشح الوحيد لقيادة الحوزة من بعده الشيخ اليعقوبي (دام ظله) هي السفرين التاريخيين الرائعين ( السفير الخامس وقيادة الحركة الاسلامية في العراق من 1980-2003) للشيخين عباس الزيدي وعبد الهادي الزيدي ، والاهمية التي اكتسبهما هذين السفرين التاريخين يتأتى من كونهما كتبا اعتمادا على احداثا ومواقفا عاصرها الشيخين بل وكانا جزء من تاريخها وهذا هو الفرق بين تاريخ الزيديان وغيرهما ممن كان توثيقه اعتمادا على مصادر تفتقر الى الدقة والموضوعية في تسجيل احداث تاريخ الحركة الاسلامية بالعراق في عقدي الثمانينات والتسعينيات القرن الماضي وبداية الالفية الثالثة .

” بداية الحياة ” هو التجربة الاولى للشيخ علي خليفة في أطار التدوين التاريخي او ما يعرف بفن المذكرات الا ان هذه التجربة بالتأكيد لن تكون الاخيرة كذلك لأن الرجل في ختام سفره التأريخي وبعد أن اختصر سفره بأنه ( قصص وأحداث اختزلتها دون ادعاء ومبالغة ) يكشف عن نيته ان يميط اللثام في المستقبل عن احداث اخرى وقصص أخرى ربما تكون حافلة باثارة وتشويق اكثر مما حفل به “بداية الحياة ” ويعلل خليفة الاسباب والموانع لبعض مما لم يدونه في كتابه بـهمسته في ختام مدخل الكتاب بقوله : ( مراعيا بعض الامور الضاغطة والتي اختصرها بـ(التقية) والت منعتني من ذكر كل شيء ) ، اذن لقد وضعنا علي خليفة في حالة ترقب لجديده وللمزيد من تلك ” البدايات ” التي سجلت منعطفات كثيرة ومثيرة وخطيرة من تاريخ الحركة الاسلامية في العراق عموما والنجف الاشرف والبصرة خصوصا لما مثلته هاتين المدينتين من محورين بارزين في مدونة علي خليفة واحداثها الشيقة .

محتويات الكتاب لم تكن على شكل فصول او ابواب وانما كانت عبارة عن مشاهد متفرقة جمع بينها ذاكرة المؤلف التي ربما لم تسعفه احيانا في تذكر بعض الاحداث وربما تحفظ احيانا يراع المؤلف في الاسهاب ببعض التفاصيل ، بدأ المؤلف كتابه مع بداياته الاولى عند التحاقه بالدراسة الدينية عبر جامعة الصدر الدينية في أوج الحركة الرسالية الشهيد الصدر الثاني (قد) على صعيدي الحوزة والمجتمع ، وسجل المؤلف خلال بدايته اهم الاحداث التي رافقت تسجيله في الجامعة وبعض المواقف التي مر بها اثناء الشروع بالتقديم والمقابلة وبعد ذلك اعلان النتائج ومن ثم عرض المؤلف لحادثة استشهاد السيد الصدر الثاني (قد) وبعض الوقائع التي عايشها عن قرب والتي حفلت هي الاخرى بالعديد من الاحداث والمواقف من قبل شخصيات عدة ، ثم تحول بعد البداية الى سجن ابو غريب وخلال الفترة التي تلت الشهيد الصدر الثاني (قد) وزيارته لبعض الاصدقاء والاقارب الذي اعتقلوا اثر انتفاضة 17 اذار في البصرة ، وفي معركة الاقفال ينتقل المؤلف الى جامعة الصدر الدينية وبعض الاحداث التي عايشها عن قرب منذ دخوله والى مرحلة تسلم الشيخ اليعقوبي لزمام الادارة فيها وبتوجيه من الشهيد الصدر(قد) وما شهدته من تطور على صعيد النظام العام والمناهج الدراسية ثم عرج المؤلف على بعض الاحداث العصيبة التي مرت بها الجامعة ابان معركة سقوط الحكم البعثي وارهاصات دخول الاحتلال الامريكي للنجف وختم ذكرياته ببعض المحاولات الفاشلة لبعض الجهات للسيطرة على الجامعة من خلال ممارسات استفزازية كان منها (معركة القفل) .

وانتقلت ذاكرة المؤلف بعد ذلك الى البصرة واحداث انتفاضة 17 اذار مع شيء من الاختصار لاهم محطاتها منذ لحظات التخطيط فالتنفيذ ثم قمعها من قبل الحكم البعثي واهم الاحداث التي اعقبت فشل الانتفاضة والتي كان ضحيتها عائلة المؤلف وبعض العوائل الاخرى وعدد كبير من الشخصيات الرسالية المؤمنة التي لاقت الجور والبطش من الحكم الظالم وذهب ضحيتها ما بين شهيد ومعتقل وطريد المئات من الشباب البصري الرسالي الصدري.

وحفل الكتاب ايضا بالحديث عن عائلة المؤلف وبعض العوائل والافراد الذين كانوا قريبين من محيطها الاجتماعي وتفاصيل لرحلة العذاب التي مروا بها ابتداءً من هدم دار العائلة واعتقال عدد من افرادها والمحاولة الفاشلة للمؤلف وبعض اخوانه واصدقائه بالفرار الى الجمهورية الاسلامية وبعد ذلك المطاردة التي تعرضت لها اسرة المؤلف والتي لم تنتهي الا بسقوط نظام البعث المجرم .

ايضا ضمت ثنايا صفحات الكتاب العديد من المشاهد والذكريات الاخرى والتي حفلت بالمواقف على صعيد الافراد والحوزة الرسالية الناطقة وهي ذكريات ومشاهد ذات نكهة خاصة لدى اتباع هذه المدرسة على وجه الخصوص بالاضافة الى انها عبارة عن ارشيف تاريخي نادر قدمه المؤلف لمصدر يرجع اليه من يحاول سبر اغوار الماضي القريب

وبالعودة الى الكتاب فأن من مميزات كتاب ” بداية الحياة ” انه كان عبارة عن مذكرات جامعة بعد ان اشتملت اسفارها تقريبا على جميع أنماط وأشكال ادب كتابة المذكرات( التاريخية – الوثائقية – الشخصية ) وهذه الحسنة تحسب للكاتب الذي يخوض تجربته الاولى في مجال الكتابة التاريخية والتي يمكن ان نقيمها بدرجة جيد جدا على اقل تقدير وربما تكون الملاحظات التي سجلنها على الكاتب ليس ذات أثر كبير في نمطية الكتاب والحبكة السردية ومنها عدم وجود تنسيق موضوعي لمحتويات الكتاب من حيث الزمان والمكان او تخصيص الكاتب وتركيزه الاكبر كان على الحوادث الشخصية بالمؤلف وتغييب الكتاب لمواقف مهمة من تاريخ المرجعين الشهيد الصدر والشيخ اليعقوبي كان المؤلف فيها بكل تأكيد من المعاصرين وعن قرب بالاضافة ايضا الى افتقاد الكتاب الى الصور والوثائق التي هي جزء مهم لمثل هذا الجنس الادبي من الكتابة ، وربما نجد العذر للمؤلف في ان بعض هذه النقاط افتقدها الكتاب لاسباب بين بعضها الكاتب كما سبق ان بينا في اعلاه مثل تحفظ الكاتب عن ذكر مواقف واحداث لها خصوصيات لا يمكن الافصاح عنها في الوقت الحالي وكذلك موضوع الوثائق والصور افاض بها الكاتب بصورة مسهبة في كتابه (غدير الصدر) .. الخ .

” بداية حياة ” محاولة جميلة وبارعة وجريئة لكاتب شجاع وبارع عرفته قبل (10) سنوات من خلال ما كان ينشره من مقالات ودراسات بأسمه الصريح تارة وباسماء أخرى وهذا السر ربما سأكون أول من يذيعه من خلال هذه القراءة المستعجلة لسفر الشيخ علي خليفة جابر واتمنى ان يسامحني عليه لأنني ايضا لا اريد ان ابخس حقه وأغض النظر عن تلك المقالات والدراسات التي كانت مصدر الهام في الكثير من مقالاتي آنذاك لما يمتلكه الرجل من ثقافة عامة اغبطه عليها بالاضافة الى رشاقة قلمه غير المعهودة بالنسبة لنظرائه في السلك الحوزوي الذي يندر فيه الكتاب والمؤلفين كما يندر فيه المراجع والمجتهدين هذا طبعا على صعيد الحوزة النجفية التي من المفروض ان تنفك قيود الجمود فيها بعد كل المخاضات العسيرة التي شهدتها طوال السنوات الثلاثين الماضية .

“بداية حياة ” صور ومشاهد حقيقية من زمن المحنة والوجع العراقي ومصدر تاريخي اخر يمتاز بانه محلي ومن رحم المعاناة وفي صلب الحركة والعمل الرسالي وليس عبارة عن مذكرات تجارية فارغة تطبع في لندن لتعكس ابتذال ورفاهية بعض الاذناب والذيول المتخمة من موائد الحوزة التقليدية وبرانياتها التي تطبع بملايين الدولارات قصص الف ليلة وليلة العلاجية ..

وختاما لا يسعني الا ان اختم بالقول المشهور ” قل لي ماذا تتذكر أقل لك من انت “