23 ديسمبر، 2024 12:45 م

“بداية حياة” سفرٌ الى التسعينيات!

“بداية حياة” سفرٌ الى التسعينيات!

“أهل مكة ادرى بشعابها” والمعنى حسب ما يُروى هو أن مكة كانت –ولا زالت- واقعة في وسط الجبال وكان العرب من قديم العصور يسكنون حول الكعبة المعظمة بين شعاب هذه الجبال وما اكثر هذه الشعاب آنذاك.. فالشخص الغريب الذي يدخل مكة حاجاً او متاجراً لا يعرف مساكن العرب بين هذه الشعاب .. واذا مشى وحده بينها ضل وانقطع وهلك من العطش والجوع .. اما العربي من اهل مكة فهو لا يضل فيها لمعرفته بشعابها ومسالكها .. بل ان بهائمهم من الغنم والجمال اذا ذهبت الى المرعى في هذه الجبال .. لا تعرف كيف تعود وحدها بدون راع الى منازلها ومرابضها لذا قيل ان اهل مكة ادرى بشعابها.

المنطق الذي يحويه المثل ساعد على انتشاره الواسع عند العرب، وربما لدى باقي الحضارات امثالاً مشابهة له تلتقي عند نفس المعنى، المثل ينطبق على النجف الاشرف وحوزتها فإنّ من سلكوا مسلك الحوزة وارتبطوا بالنجف طلبة للعلم ادرى بالتفاصيل من غيرهم في الحوزات الاخرى .

فقد كانت انبعاثة حركة السيد الشهيد الصدر الثاني عام ١٩٩7م بانطلاق صلاة الجمعة اذ بدأت الحوزة تستعيد نشاطها الحركي بتجدد واختلاف، فركزت تلك الحركة التوعوية المباركة على نقاط القوة وعالجت نقاط الضعف الكثيرة ونزلت الى المجتمع بقوة حتى استطاعت ان تؤثر تأثيراً ملحوظاً مباركاً استمر الى يومنا هذا، لكن حركة السيد الصدر الثاني لم توثق بصورة صحيحة وموضوعية والسبب ان المؤسسات العليا اصبحت بيد اناس هم ليسوا اهلاً لإدارتها بل ورأينا طلبة علم يوثقون تلك الحقبة وهم لم يشهدوها اصلاً ولم يعايشوها ولم يتذوقوا اختلاط حلاوتها بمرارتها، لقد كثر اللغط في حركة السيد الشهيد كما حصل مع رسالة جده المصطفى ص التي حُرفت لولا تصدي الائمة الاطهار جيلاً بعد جيل للحفاظ عليها.

إن حركة الشهيد الصدر الثاني وعناصر نجاحها ومضامينها الصحيحة نجدها عند سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي الذي رافقه واستوعب مشروعه طيلة حركته الجهادية الاصلاحية فأهل مكة ادرى بشعابها، وليس الذين برزوا بعد سقوط النظام وسقوط الخوف والاعدامات والتحدّي والتخفّي، ففي مقدمة قناديل العارفين الذي وثّق مراسلات الشيخ اليعقوبي والسيد الصدر الثاني في الثمانينيات يذكر الشيخ اليعقوبي أنه لا أحد يستطيع معرفة أبعاد شخصية السيد الشهيد الصدر الثاني ومكنون سره وفلسفته في الحياة إلا بقراءة كتاب (قناديل العارفين)، والشيخ اليعقوبي بحكم موقعه الديني والاجتماعي الرفيعين لا يستطيع الافصاح عن الحقائق، فليس كل ما يعرف يقال، كما أنّ كتابه القيم -الشهيد الصدر كما اعرفه- هو الوافي والشافي لمن يريد معرفة شخص الصدر الثاني.

أما اوضاع حوزة النجف وما خفي منها في تلك الحقبة فقد كتبها فضيلة الشيخ علي خليفة دام مُوفقاً في كتابه المشوّق والرائع “بداية حياة، قصص وذكريات” الذي طبع مؤخراً، المؤلف عايش الأحداث في حركة الصدر الثاني قدس الله نفسه الزكية وعُرف عنه الدقة والورع في النقل ورواية الأحداث بتفاصيلها وبين الحقائق والوقائع بدقة، وقد كتب بشكل مشوّق على طريقة المذكرات والقصص دون التحرج من ذكر الاسماء وتبيان الحقيقة بعد طول الكتمان ليضع القارئ في محكمة الضمير حتى يعرف من هو الاحق في قيادة الحوزة بعد ذهاب صدرها.