18 ديسمبر، 2024 8:33 م

بداية المؤامرة على العراق

بداية المؤامرة على العراق

– تمهيد
قامت دولة العراق بعد إنفصالها عن الدولة العثمانية عام 1921، وبعد سنة من أول معارضة شعبية عارمة عُرفت بثورة العشرين. وكانت قد تزامنت معها حركة الشيخ محمود الحفيد، كأول معارضة كردية عام 1919-1931، ثم تلتها حركة التمرد الأشوري، أو ما عُرف حينها بثورة التياريين عام 1930-1933.
وقد فُسِّرت كل حركات المعارضة هذه بأنها ضد سياسة الاحتلال البريطاني في العراق. بينما لم يشهد التاريخ معارضة أو ثورة عراقية ضد الدولة العثمانية التي حكمت المنطقة طيلة 400 سنة بأسم الإسلام إمتداداً لسلسلة خلفاء للرسول العربي، وطاعة لأولي الأمر.
وبعد قيام الحكم الوطني في العراق، ونتيجة لإستقرار الأوضاع بصورة عامة، ولقمع السلطات لأي معارضة بصورة خاصة، فَلَم تقم معارضة حقيقية للحكم في العراق، بإستثناء بعض الحركات الإنقلابية التي قام بها عدد من ضباط الجيش العراقي، ولكن حركة التمرد الكردي عادت ثانية بعد عودة مصطفي البارزاني من منفاه في الإتحاد السوفييتي عام 1958. وظلت المعارضة الوحيدة التي شغلت الحكومات المتعاقبة منذ عام 1961 وحتى عام 1970.

لماذا لم تقم المعارضة في العهد العثماني؟
والسؤال الذي يثار بهذا الصدد، وهو لماذا لم يثُر العراقيون على الحكم العثماني رغم أوضاعهم المزرية وضعف الخدمات وتخلفها طيلة أربعة قرون؟
يمكن إرجاع ذلك إلى عدّة عوامل، أهمها: –
العامل الديني: فقد كان يُنظر إلى السلطان العثماني على إنه خليفة المسلمين وولي أمرهم، ويجب طاعته وعدم الخروج عليه.
قساوة العثمانيين وقمعهم لكل من يعارضهم، وقد بدا ذلك واضحاً من قمع الأكراد والأرمن.
إعتماد العثمانيين أسلوب “الحكم السائب” -على حد تعبير الدكتور علي الوردي- الذي يرى إن إلعراقيين -وخاصة الشيعة- لم يثوروا على العثمانيين، بحسب تفسيره، بسبب ” أن الشيعة لا يميلون الخضوع للقانون، ويحبذون أن يعيشوا حياتهم الخاصة التي إعتادوا عليها، حتى لو كانت في نظر الأخرين فوضى … وكل ما يطمحون إليه هو نظام حكم يجارهم في عاداتهم هذه، وهم لا يبالون إذ ذاك أن يكون الحاكم مسلماً أو كافراً، نجفياً، أو غير نجفي، سُنياً كان، أو شيعياً. ولهذا كانوا راضين عن الحكم التركي قبل الحرب، فلَم يثوروا عليه؛ وقد إتّبَع الأتراك نظام “الحكم السائب”، إذ هي إعتادت أن تترك الناس يفعلون ما يشاؤون ولا تتدخل في شؤونهم إلاّ فيما يخص جباية الضرائب … وقد أعتاد العراقيون على هذه الحياة وألفوها حتى أصبحت في نظرهم كإنما هي الحياة الطبيعية التي لا يمكن أن يكون هناك شيء أخر غيرها. ويقول الكابتن البريطاني لايل: ” إن الطبيعة الفوضوية المشاغبة التي إتصف بها أهل العراق معروفة تماما لدى المطّلعين على شؤون الشرق الأوسط من الساسة الأوربيين وإن عدم رغبة العراقيين فينا ليس بالأمر الجديد فهُم لا يحبون أي شكل من أشكال الحكومة يمنعهم من مواصلة غرائزهم الموروثة في التمرد على القانون وإقتراف الجرائم العنيفة”.
ضعف الوعي الشعبي بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.

معارضة أعداء صدام
بدأت المعارضة تظهر للوجود بعد بروز صدام حسين كمتنفذ رئيسي في السلطة منذ عام 1970، فقد حاول القضاء على المعارضة بوسائل ومعالجات غير محسوبة، فقرّب الأكراد وأغراهم بالحكم الذاتي 1970، ثم ضربهم عام 1975 بالإتفاق مع شاه إيران على إتفاقية الجزائر. ثم تودّد للشيوعيين وضمهم في الجبهة الوطنية والقومية القدمية عام 1972، ثم ضربهم عام 1975، وإنفك عقد الجبهة عام 1979. ثم ضرب المؤسسة العسكرية العراقية الرصينة، عندما منح نفسه رتبة (مهيب) وهي أعلى رتبة عسكرية حتى الوقت الحاضر، ولم يحصل عليها أي شخص أخر من الذين جاءوا بعده، وهذا ما أدى إلى تذمر العديد من الضباط السابقين، وإلتجأ الكثير منهم إلى سوريا، وبدأوا معاضته من هناك. كما حاول صدام كسب المسيحيين، فأصدر قانون منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية عام 1972 ، وجرى التضييق عليهم أيضاً في عام 1979. ثم كسب صدام أعداء جدد عند وصول الخميني إلى السلطة في إيران عام 1979، فقرر ترحيل قرابة 60 ألف عراقي من أصول إيرانية إلى إيران مع بدء الحرب العراقية الإيرانية عام 1980.
هذه كانت المجموعات المعارضة لصدام حسين والتي لم تكن تفرق بين الدولة والحكومة، كما إن صدام ربط الدولة بشخصه، مما قاد إلى سقوطها بسقوطه.

معارضة مشتتة … وتجنيد أجنبي
ظلّ المعارضون العراقيون تائهون في بلدان العداوات للعراق، وهي سوريا البعثية، وإيران الفارسية، وليبيا التوتاليتارية، ليستقر الكثير منهم لاحقاً في بريطانيا، حاضنة التطرف في العالم، يتنقلون فيما بينها، ولا أحد يصغي لهم، ويعاملوهم مضيفيهم بإحتقار واضح، وقد عانوا الخوف من خشية تسليمهم إلى السلطات العراقية، أو أن تلاحقهم المخابرات العراقية فتغتالهم هناك، كما عانوا الحرمان من التعليم والحياة الحرة الكريمة، وبقوا على تحصيلهم الدراسي الذي إكتسبوه في العراق. لذا عاشوا حياة التقشف والبؤس، وكانوا لا يعلمون ما سيؤول إليه مصيرهم المظلم دون أن يبدو أي ضوء في نهاية نفق اللجوء.
وجاء تغيير النظام في إيران من النظام الملكي الشاهنشاهي إلى النظام الإسلامي الشيعي في 11 شباط/فبراير عام 1979 بمثابة طوق نجاة يرمى لهم في بحر اللجوء المتلاطم.
بقي اللاجئون العراقيون هناك ليشهدوا أكبر تحول سياسي جذري هزّ منطقة الشرق الأوسط، وسيبقى عامل عدم إستقرارها لأكثر من 40 سنة قادمة، دون أن يتوقع أي أحد منهم ذلك، ألا وهو سيطرة الخميني وتياره الديني المتشدد على إيران. وعلى غرار حزب البعث في إنتشاره القومي (العروبي) للأقطار العربية، فإن هذا النظام الإسلامي بشَّر بإنتشاره المذهبي (الشيعي) حصراً وفقاً لمفهوم تصدير الثورة الإسلامية الذي تبنَّاه الخميني.
هذا الشعور بالإنفراج المشوب بالحذر ساد جميع الفصائل العراقية المعارضة لحكم صدام حسين، وأحيا الأمل فيهم، ولاح نور في نفق معاناتهم الطويل. وفي مقدمة هؤلاء -بالطبع- المجموعات الإسلامية الشيعية الصغيرة الملتفة حول مراجع دينية شيعية هربت من العراق، أبرزها عائلة الحكيم ، وعلى رأسهم محمد باقر الحكيم ، وإخوانه مهدي الحكيم ، وعبد العزيز الحكيم. وكذلك عائلة الصدر، ولكن بدرجة أقل، نظراً لأصولهم العراقية، بعكس عائلة الحكيم وأصولها من أصفهان بإيران، ولإكتواءهم بنار التطرف الخميني منذ البداية. فقد أعدم محمد باقر الصدر عام 1980، وقتل محمد محمد صادق الصدر عام 1999 ، وكلاهما أيدا ثورة الخميني. كما إن أصابع الإتهام في إختفاء الإمام موسى الصدر مؤسس حركة أمل في لبنان، تشير إلى الدور الإيراني في الطلب من معمر القذافي بقتله، لعدم تناغمه مع التوجهات الشيعية الفارسية المتنامية.

حزب الدعوة الإسلامية
اجتمع الأعضاء المؤسسون للحزب في سنة 1957، وتأسست النواة الأولى لحزب الدعوة الإسلامية على صيغة هيئة مؤلفة من 8 أعضاء، وكان لـمحمد باقر الصدر دور رئيسي في لجنة قيادة الحزب الذي تشكل لخلق حالة توازن فكري مع الشيوعية والعلمانية والقومية العربية وغيرها من الأفكار المادية، كما كان لمحمد حسين فضل الله تأثرًا كبيرًا بفكره وعقلانيته وتدينه.
في عام 1975 قامت الحكومة العراقية بحظر أحد الطقوس الدينية الشيعية وهو المسيرة من النجف إلى كربلاء والذي كان يطلق عليه اسم “مراد الراس”. وفي عام 1977 قام حزب الدعوة وكتحد منه للحكومة العراقية بتنظيم هذا الطقس الديني الشيعي فحصلت في ذلك العام أي 1977 ما يطلق عليه حزب الدعوة “انتفاضة صفر الجريئة” حيث قتل في هذه الانتفاضة عناصر قيادية من حزب البعث.
أما حزب الدعوة فأن الكثير من قيادته إيرانية الجنسية والهوى مثل مرتضى العسكري (زعيم الحزب في مرحلته الثالثة.. في تاريخ حزب الدعوة) ومحمد مهدى الآصفي (حاليا يمثل ولى الفقيه في العراق بعد أن كان الأمين العام لحزب الدعوة قبل تسليمها لإبراهيم الجعفري وعلى زندي (الأديب) وغيرهم كثير)، فقد تهيأت للدعاة معسكر الأهواز وانطلاق العمليات العسكرية التي قتلت الآلاف من الأبرياء من الحدود الإيرانية العراقية فقد اشتركت في عمليات الداخل وكذلك الكثير من عمليات الحرب بين العراق وإيران فضلا عن مكاتب سورية ومسؤولها نوري كامل المالكي، فضلا عن مكاتب وبيوت وجوازات تهيؤها أجهزة المخابرات الإيرانية والسورية وغيرهما. لكن مشكلتين أساسيتين أضعفت الدعاة أولاهما أن المسؤولين على معسكر الأهواز وغيره كحسين بركة الشامي وتورطهم في تسليم ما يسمى بالمجاهدين بصفقات مشبوهة وقصة أبى حوراء واتضاح عمالة قيادات الدعوة لأجهزة المخابرات العالمية من خلال وثائق خصوصا السفارة الأمريكية في طهران وأجهزة السافاك مما أدى على التحجير على مرتضى العسكري (الذي كان يقود الحملة السيئة ضد المفكر الاجتماعي على شريعتي) ولجوء حسين الشامي وإبراهيم الجعفري وغيرهم إلى لندن وغير ذلك من قضايا يخاف الدعاة كشفها ويهددون ناشرها.
بعد انطلاق الثورة الإسلامية في إيران أعلن حزب الدعوة الوقوف إلى جانبها فقامت الحكومة العراقية في 31 مارس 1980 بإصدار قرار نص على إعدام كل من ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية، وكان في طليعة من أعدم بهذا القرار محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى في 8 أبريل 1980.
بعد ذلك قام الحزب في عام 1981م بإنشاء معسكر الصدر في الأهواز بإيران وهو نواة لعمل عسكري بهدف إسقاط صدام حسين. وهي البداية الفعلية لحزب الدعوة بنسخته الفارسية الصرفة حتى يومنا هذا.

المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق
أنشأ هذا المجلس عام 1982، أي بعد سنتين من قيام الحرب العراقية – الإيرانية، بإدارة إيرانية ليتولاها لاحقاً محمد باقر الحكيم، حتى إغتياله بعبوة ناسفة زرعت في سيارته عام 2003، الذي لعباً دوراً قذراً في تعذيب الأسرى العراقيين في إيران، وما زالت عائلته تكمل هذا الدور التخريبي لهذه العائلة الأصفهانية (عائلة الحكيم) حتى يومنا هذا، وقد تولى رئاسة الحزب من بعده أخوه عبد العزيز الحكيم الذي إغتصب دار طارق عزيز منذ عام 2003، كما فعل أخوه عندما إغتصب دار تاجر إيراني معارض طيلة 21 سنة، والذي توفي عام 2009 إثر مرض عضال، وتولاها بعده أبن أخيه عمار الحكيم، وما زال حتى الآن.
ولدينا شهادتين موثوقتين عن خفايا أسرار وتفاصيل وتوجهات هذا الحزب.

شهادة شاهد شيعي
يعد الباحث نبيل الحيدري المختص في الشأن الشيعي، من أبرز من إنتقد ممارسات الأحزاب الشيعية التي نشأت في إيران، وقد كتب يقول: –
” بعد مجيء الثورة الإيرانية كانت القضية العراقية من اهتمام المسؤولين الإيرانيين على أعلى المستويات من قيادتها التي لجأت إلى العراق في 14 عاما وحتى مراجعها الذين درسوا في حوزات العراق من الكاظمية وكربلاء وسامراء والنجف وغيرها حتى تزوج البعض من العوائل العراقية المعروفة بطيبتها فضلا عن تأثير وأهمية العراق وعمقه العربي… كان مكتب حركات التحرر التابع للشيخ المنتظري فيه فرع (مكتب العراق) الذي سيطر عليه وعلى الإذاعة آنذاك الخط الشيرازي ومنظمة العمل الإسلامي للمدرسي.
محمد باقر الحكيم كان مترددا في المجيء لإيران باعتبار العلاقة التاريخية بين الشاه وآل الحكيم خصوصا المرجع محسن الحكيم. لقد دخلت على إحدى قياداتهم الخلفية فرأيت صورة الشاه كبيرة خلفه في مكتبه. قلت له: (لقد سقط الشاه) أجابني (سيعود قريبا الوفي الكريم). عرف آل الحكيم بالعلاقة التاريخية والإستراتيجية بالحكام كالشاه وهاهي الرسائل المتبادلة والمبالغ الضخمة واضحة، كما اشتهرت علاقتهم بالتجار الفجار والمترفين والبرجوازيين وبعدهم عن الفقراء والمحرومين وزواجاتهم وبيوتهم وترفهم كالطواغيت.
بعد تردد طويل خوفا من الإنتقام والقتل فكر باقر الحكيم في لبنان أو غيره لكن الإشارات والرسائل من طهران كانت هي الأقوى لدرجة (القرار الصعب دون بديل مناسب) كما قال لي. علما أن الحكيم هو الرجل الثاني في المرحلة الأولى من الدعوة وقد خرج عام 1960 بعد طلب أستاذه الصدر كما شرحت سابقا. حزب الدعوة الذي كشفت بعض أسراره وفساده أراد رمزا لمشكلة القيادة والزعامة المزمنة للدعاة فاستقبل الحكيم كزعيم وتهيأت الجماهير العراقية وغيرها في وقت مشحون عاطفيا زمن اشتعال الحرب بين العراق وإيران وتهجير صدام للآلاف إلى إيران، كان الدعاة وغيرهم من العراقيين والإيرانيين إستقبلوا باقر الحكيم كزعيم وقائد ورمز وهم يرددون بالآلاف (يا حكيم سير سير كلنا جنودك للتحرير).
حتى توهم البعض في مرحلات معينة أن محمد باقر الحكيم هو زعيم حزب الدعوة خطأً في فترة كانت الصراعات على أشدها بين الحكيم والدعوة وأخذ الإيرانيين معسكر الأهواز من حزب الدعوة إلى الحكيم وكذلك دعم مؤسساته مثل (مؤسسة الشهيد الصدر) ومجلسه الأعلى فضلا عن تسليمه الأسرى العراقيين بيد صدر الدين القبانجي مسؤول حزب الله الإيراني فرع العراق.
كانت الحكومة الإيرانية قد أعطت باقر الحكيم بيتا عظيما في طهران. الظاهر كان بيتا لتاجر لم يؤيد الحكومة الإيرانية مما جعلها تصادره كما صادرت آلاف البيوت والممتلكات لمن يعارضها بحجة محاربة الله ورسوله. هكذا يستخف ما يسمى بالحكم الإلهي بمصادرة حقوق الناس وأموالهم لكن الله تعالى برئ ممن يتحرك ظلما بنفسه. دعاني باقر الحكيم إلى بيته مرة فتفاجأت بكونه بيتاً جباراً طاغوتياً فسألته عن ذلك مستغربا (إن بيت على بن أبى طالب كان بسيطاً) وأجابني (إنه بيت لأحد معارضي الحكومة الإسلامية وقد لجأ إلى دول الكفر) فقلت له (وهل يجوز الصلاة في مكان مغصوب لا يرضى صاحبه) فنظر إليّ نظرة متعجب قائلا (لم يسألني أحد هذا السؤال من قبل) قلت له (لأن حاشيتك ممن لا يعترض عليك أبدا كما أنه لا يعرض الحقائق. أخرج بنفسك لترى الحقائق ومحنة العراقيين ومعاناتهم في إيران).

تأسس (مكتب العراق) ثم (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) في 17 تشرين الثاني عام 1982 برعاية مباشرة من أجهزة المخابرات الإيرانية حيث يشرف جهاز إيراني بحت يسمى(بشتبانى) فضلا عن ممثل الولي الفقيه الذي كان أحيانا على خامنئي نفسه (ولى الفقيه المعاصر) الذي قد يرفض حتى الورقة البسيطة لإذلال العراقيين وطريقة تعامل غير أخلاقية كان يشكو منها الحكيم نفسه مرارا، وهي طبيعة مزمنة للإيرانيين بسبب عقدة النقص عندهم من الشخصية العراقية. علما أنه ليس من حق العراقي في إيران أن يعمل أو يتزوج أو أي حق آخر.. كانت محنة كبيرة وعظيمة لآلاف العراقيين في دولة تدعى الإسلام بالاسم فقط وتطبق أعلى أنواع العنف والدكتاتورية والعنصرية والبعد عن حقوق الإنسان، فيكفي أن تهين المقابل بتسميته عراقي وتعنى وقتها في العرف الفارسي صدامي برؤيتهم. نعم حاول الإيرانيون إستغلال العراقيين كثيرا مثل محاولة تجنيدهم وتجنيد الأسرى العراقيين لما سموهم التائبين لمحاربة إخوتهم العراقيين في حرب أراد النظام الإيراني إطالتها خوفا من ثورة شعوبه المتعددة القوميات في الداخل لكنهم يمكن أن يتحدوا عند الأزمات الخارجية مما يسهل تصفية خصومهم الإيرانيين في الداخل واتهامهم بالعمالة للخارج كما فعل النظام الإيراني مع الشيوعيين ومجاهدي خلق وفدائيين إسلام وغيرهم في تصفيات وإعدامات واعتقالات رهيبة حتى أنها تنكرت للكثير من القوى والتيارات والشخصيات التي اشتركت معها في إسقاط الشاه لكنها استفردت في القرار وصفت خصومها بحجة أنهم أعداء لولاية الفقيه.

كان حزب الدعوة يمتلك معسكر الأهواز وقوات الشهيد الصدر وجريدة الجهاد، أما الحكيم فقد فتح مكتب الشهيد الصدر وجريدة لواء الصدر فضلا عن تأسيس لواء بدر واسمه الحقيقي (سباه نوه بدر) وإدخال الأسرى العراقيين فيه كمقاتلين للخروج من جحيم الأسر والتعذيب والإذلال وسوف أكتب عما جرى لهم من الويلات تحت رحمة الطغاة في الحلقات القادمة.

كانت قيادات (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) الأولى هي إيرانية صرفة كاملا أولا محمود الهاشمي الشاهرودي (رئيس القضاء الأعلى حاليا في إيران الذى يسرع في إمضاء الإعدامات الكثيرة لمن يعترض على الظلم والظالمين إرضاء لولي الفقيه وجبروتها) ثم على الحائري صهر على المشكيني (رئيس مجلس الخبراء الذى يختار ولى الفقيه) وكان الحكيم ناطقا رسميا في دوراته الأولى ولا يمتلك القرار الحاسم حيث كان المجلس يضم وقتها الحكيم والدعوة ومنظمة العمل الإسلامي وتيارات أخرى. أرادت بعض قيادات الدعوة استلام رئاسة المجلس لكنها متهمة في الكويت بتصريحها الإعلامي المعروف (الخميني حمار تمتطيه الشيوعية) فضلا عن اتهام القيادات العلمائية العليا بالماسونية من خلال الوثائق والمستندات مما حجبها عن القيادة رغم وجود شخصيات إيرانية الجنسية والهوى كفقيههم كاظم الحائري وقياداتهم من محمد مهدى الآصفي ومرتضى العسكري وكوادره كعلى زندي الأديب وموسى الخوئي وعماد الخوئي فضلا عن المرتبطين المعروفين بأجهزة المخابرات الإيرانية. كان الصراع بين باقر الحكيم ومحمود الهاشمي وكاظم الحائري على أشده للسيطرة على الزعامة في القضية العراقية.
شيئا فشيئا بدأ الحكيم يتولى رئاسة المجلس بعد عدة دورات ويجلب مؤيديه مثل أبى على المولى التركماني وصدر الدين القبانجي وعبد العزيز الحكيم وهمام حمودي وسامي البدري ومحمد الحيدري وأبو ميثم الخفاجي للإستحواذ على المجلس تماما مبعدا كل الخصوم مما أدى إلى خروج الكثير من التيارات الأخرى فضلا عما أشرنا إليه في الحلقة الأولى حول الشيرازيين وفضائح حزب الدعوة، وعندها بدأ المجلس يصير حكيمياً بامتياز مما يجعل القضية العراقية تدخل في مرحلة جديدة من الصراعات والأهواء.
وفي 17 تشرين الثاني 1982 أعلن عن تأسيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (تغيّرت تسميته إلى المجلس الأعلى الإسلامي العراقي لاحقاً) برعاية النظام الديني الجديد في إيران، وبرئاسة محمود الهاشمي شاهرودي (إيراني) لفترة قصيرة بحدود سنة واحدة، وهو التشكيل الذي كان يضم تنظيمات وقوى سياسية شيعية معارضة عدة (فهو لم يكن حزبا بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما إطار عام ومجلس يضم مختلف الأحزاب العراقية التي لجأت إلى إيران، من أهمها: حزب الدعوة بانشقاقاته فصائله المتنوعة، ومنظمة العمل الإسلامي، وحركة الجماهير المسلمة، وجماعة العلماء المجاهدين، وحركة المثقفين الرساليين، وحركة المجاهدين، وغيرها من القوى والحركات المعارضة الشيعية)، وذلك بدعمٍ وإشرافٍ مباشرين من الحكومة الإيرانية، ثم سُلِّمت رئاسة المجلس إلى السيد محمد باقر الحكيم واشترك المجلس إلى جانب الجيش الإيراني في حربه ضد العراق من خلال جناحه العسكري المسمى بفيلق بدر.
لقد كان المجلس الأعلى تعبيراً عن التقاء الإرادة الإيرانية مع الإرادة العراقية المعارضة، وذلك تحت قيادة الحرس الثوري الإسلامي الإيراني (Pasdaran)، الذي كان مهتما بتقديم الدعم للحركات والأحزاب العراقية بهدف إسقاط نظام صدام حسين من الداخل. وقد تطور المجلس الأعلى من تنظيم مقاتل يجمع الفصائل السياسية المتنوعة على هدف إسقاط نظام البعث، إلى ما هو عليه الآن، بتشكيلاته الثلاث ، التي تضم أكثر من خمسة عشر ألف منتسب، بحسب بعض التقديرات، وذلك برغم انسحاب الكثير من مكوناته (إذ انسحب حزب الدعوة ما عدا الدعوة تنظيم العراق، وحركة العمل الإسلامي وقوى أخرى)، وبرغم أن عملية تفكيك منتظرة بعد سقوط نظام صدام حسين كانت ستحدث. لكن شيئاً منها لم يتم، ربما لأن الإرادة الإيرانية التي أرادت تفكيك التنظيم بعيد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، قد أعادت حساباتها من جديد.

رواية شاهد مسيحي
كتبَ أحد الشهود مستذكراً ذكرياته عن تلك الفترة، قائلا: في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنا نعمل مع المعارضة العراقية في سوريا ضد النظام الدكتاتوري في بغداد، وتحت قيادة اللواء الركن حسن مصطفي النقيب، وكنت آنذاك ممثل لحزب بيت نهرين الديمقراطي في دمشق، وفي سياق نشاطات حزبنا السياسية، قمت بزيارة الى ايران ولعدة مرات، وفي احدى هذه الزيارات كانت بتاريخ 1982، وبينما كنت في طهران ، ذهبت الى مؤسسة الصدر للاطلاع على لوائح الأسرى العراقيين الذين كانت قوائم أسمائهم تعلق في بناية مؤسسة الصدر التي كانت تضم مقر قيادة المجلس الإسلامي الأعلى برئاسة المرحوم آية الله محمد باقر الحكيم وفي تلك الأثناء التقيت مع بعض العناصر التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى، وطٌلب من عندي بصفتي ممثل للحزب تقديم الاعتراف، والتأييد للتشكيل السياسي الجديد الذي انبثق منه المجلس الإسلامي الأعلى باعتباره الممثل الشرعي، والوحيد للمعارضة الشيعية العراقية ضد النظام الدكتاتوري في بغداد، ولكن قبل تلبية طلبهم طالبتهم بتأمين مقابلة لي مع قيادة المجلس ولا سيما السيد محمد باقر الحكيم، للاطلاع على السياسة الجديدة لهذه الجبهة السياسية الجديدة، وفعلاً تم استصحابي الى الطابق الثاني من البناية والتقيت مع السيد أبو حيدر لترتيب المقابلة وبعد نصف ساعة تقريباً، دخلت الى مكتب السيد محمد باقر الحكيم وإستقبلني بحفاوة، وكان عدد من أعضاء قيادة المجلس الإسلامي الأعلى موجودين داخل المكتب، ومن ضمنهم السيد محمود الهاشمي الذي كان يرأس المجلس آنذاك، وهو رجل دين إيراني ولكنه سياسي محنك، وكذلك أتذكر الشيخ أبو علي وهو من أهالي تلعفر، والسيد أبو حيدر وأخرين، ودار بيننا حديث طويل مع السيد الحكيم، وبعضه كان اجتماعياً حيث تحدث عن العلاقة الودية التي كانت تربط المرحوم والده السيد محسن الحكيم مع المرحوم البطريرك مار بولص شيخو الذي هو من أقربائي، وبعدها عرضت عليهم بعض الأسئلة التي تتعلق بمستقبل شعبنا الأشوري الكلداني، وفجأة رفض هذه التسميات وقال نحن نتعامل معكم كمسيحين ليس إلا، لأننا لا نؤمن بالقومية لأي كان، لأن في الإسلام لا توجد قومية ولا فرق بين فارسي وعربي وتركماني وأخرين طالما هم مسلمين، والدليل على ذلك إن رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية حالياً هو السيد بني صدر وهو تركماني من تبريز وليس فارسي، ثم قلت له نحن في حزب بيت نهرين الديمقراطي نؤمن، ولنا أمل كبير بان النظام في بغداد سوف لن يدوم طويلاً وان البديل الوحيد لهذ النظام هو مجلسكم المؤقر بدعم ورعاية القيادة الإيرانية الحالية، فما هو موقفكم من شعبنا الأشوري الكلداني السرياني؟
ومرة أخرى قاطعني وقال إننا لا نحبذ أن نسمع مثل هذه الألفاظ والأفضل لك أن تستخدم تسمية المسيحين، وأضاف قائلاً اسمع مني جيدا، إننا لسنا سياسيين، يجب أن تعرف ذلك، إننا رجال دين، لا نكذب عليكم، ولا نبالغ في كلامنا، وليس عندنا تكتيك، أو ديالكتيك كما لدى غيرنا من أحزاب المعارضة العراقية ومنهم البعثين، والشيوعين، و الأحزاب الكردية، وغيرها، انهم يكذبون ويخدعون الأخرين عندما يكونون خارج السلطة، ولكن متى ما يستلموا الحكم فيعملون عكس الوعود التي قطعوها مع الأخرين، وهذا ليس نهجنا، وليست قيمنا وأخلاقنا، وهذا ما لمسناه منهم في الماضي القريب وان تجاربنا معهم في العراق ماثلة أمامنا منذ تموز عام 1958والى يومنا هذا أما نحن فنعاملكم بصراحة واحترام كمسيحين من أهل الكتاب وكما جاء في القرآن الكريم، وحسب فهمنا وتفسيرنا للآيات القرآنية إننا سوف لن نعاملكم كاليهود وان الحكومة العراقية الملكية آنذاك قامت بطرد اليهود وحجزت أموالهم المنقولة وغير المنقولة وإستولت على ممتلكاتهم وأصبحت ملك وقف للدولة العراقية، أما انتم سوف نطبق عليكم الشريعة الإسلامية ونضع أمامكم ثلاث خيارات، الخيار الأول وهو اعتناق الدين الإسلامي وحسب المذهب الشيعي الاثني عشري، والخيار الثاني وهو دفع الجزية، أما الخيار الثالث فهو مغادرة البلاد، ثم قاطعته وقلت له كيف يمكن أن تعاملوننا ذلك ونحن أهل البلد الأصليين ولنا دور رئيسي في بناء تاريخ وحضارة هذا البلد، وأثارنا في بابل ونينوى تشهد على ذلك، فرد عليَّ قائلاً: نعم انتم من أهل البلد الأصليين وشاركتم في بناء التاريخ وحضارة بلاد ما بين النهرين ولا احد ينكر عليكم ذلك ولكن، لكم عندنا خصوصية وليس كما فعلنا باليهود فإننا نسمح لكم في بيع ممتلكاتكم واستلام أثمانها لتساعدكم في مغادرة البلاد والسفر الى بقاع الدنيا الواسعة، وهذا هو موقفنا الإيجابي تجاهكم الآن ونحن خارج الحكم، وسوف يكون نفس الموقف في المستقبل القريب ونحن في دفة الحكم، وكل من يقول لكم غير ذلك فهوا يكذب عليكم أو يجاملكم، وعليكم أن تعرفوا جيداً أننا نقدم كل هذه التضحيات بأرواحنا وممتلكاتنا من اجل استلام الحكم في بغداد لتطبيق الشريعة الإسلامية في العراق ومن ثم لتصديرها الى دول الجوار كما أوصى بها الأمام الخميني، وحسب المذهب الشيعي، وبموجب نظام ولاية الفقيه، وكما هو قائم الآن في جمهورية ايران الإسلامية، ولا يمكن أن نحيد عن ذلك قيد أنملة، هذا هو موقفنا الآن وسوف يكون نفس الموقف في المستقبل القريب عند استلامنا للسلطة ،وسيبقى هكذا والى الأبد، حتى نحقق كافة أهدافنا.
وبعدها غادرت مكتب السيد وإستصحبني معه الشيخ أبو علي مسؤول الإعلام في المجلس آنذاك الى الطابق الأرضي، ودخلنا في غرفة كانت تضم جهاز إرسال لإذاعة المجلس، وأجرى معي مقابلة إذاعية مباشرة على الهواء حول موقفنا من التشكيل الجديد للأحزاب والمنظمات الشيعية التي انبثق عنها المجلس الإسلامي الأعلى للثورة العراقية في إيران.

خاتمة
بعد هذا الإستعراض الموجز لنشوء المعارضة العراقية -إن جاز التعبير- وكيف نمت، وما هي الأحداث التي مرّت بها، فإن شهادتي من عاصرها، تلقي الضوء على خفايا تفكيرها وخططها، ودور الأيادي الأجنبية في تشكيلها وحمايتها وصولا إلى تسليم الولايات المتحدة السلطة لها عام 2004، بعد إسقاط نظام صدام حسين، ونتيجة لأيدلوجياتها المتطرفة فقد فشلت في أدائها السياسي وإدارة الحكم طيلة 17 عاماً، وما جلبته جراء ذلك من خراب ودمار وقتل وقمع وتبديد الثروات وسرقة الأثار وهدم مؤسسات الدولة وتحطيم المرافق الأساسية في التعليم والصحة والصناعة والزراعة وغيرها، تقطع أي شك في وجود وعِظَم حجم المؤامرة على العراق. مما قاد إلى ظهور وعي عراقي شعبي جديد بدأته جماعات النخبة بالتحشيد لمقاطعة الانتخابات عام 2018، ثم إندلاع حركة الإحتجاجات الشعبية في الأول من أكتوبر عام 2019 وخاصة في المحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية، ومع تزايد الضغط الشعبي إزاء قمع الحكومة أدى إلى إستقالة حكومة عادل عبد المهدي في الأول من ديسمبر من ذات العام، مما يجعل نهاية هذا النظام الذي أقيم برعاية وحماية أجنبية إلى أن يشارف على نهايته. وما زالت هذه الأحزاب التي أنشأها نظام الخميني في إيران بعيد الحرب العراقية الإيرانية عام 1980 تمارس نفس الأساليب اللإجرامية في القتل والتفجير وتهديم الكنائس وإرغام السُنّة والأقليات من المسيحيين والأيزديين والصابئة على ترك مناطقهم والهجرة خارج العراق في كل مرافق الدولة (وبضمنهم كاتب هذا المقال) بدعم إيراني واضح بقيادة قاسم سليماني، وقد أدى هذا القمع إلى قتل 450 متظاهراً، وجرح نحو 20 ألف أخرين، وإعتقال الالآف من المحتجين، ولكن تبقى إرادة الشعوب هي الأقوى وهي مصدر كل السلطات. ولا بد أن تشرق شمس الحرية على أرض العراق قريباً.

د. رياض السندي
دكتوراه في القانون الدولي
كاليفورنيا في 15 ديسمبر 2019