23 ديسمبر، 2024 6:11 ص

بدايات ألإسلام -2: السريانية والقرآن

بدايات ألإسلام -2: السريانية والقرآن

في المداخلة الرابعة التي تحمل عنوان “آثار الحروف السريانية الآرامية في المخطوطات القرآنية الأولية بالحرفين الكوفي والحجازي”، يحاول كريستوف لوكسنبرغ أن يثبت أن جملة من نسخ المخطوطات القرآنية الأولى ذات علاقة وثيقة بنماذج أصلية من الكتابة السريانية. أما الأدلة التي يقدمها للبرهنة على هذه الفرضية فتظل تفتقر إلى القدرة على الإقناع.

وهكذا فإن قراءته لكلمة “شيء” مثلا، على أنها “شأن” بحكم عملية قلب لفظي يجريه على حرف “الياء” بحيث يتمثل له أنها ليست شيئا آخر غير “نون” سريانية، لا يمكن إلا أن تدعو إلى الشك في مدى ما يمكن أن تنطوي عليه حقا من مصداقية. ذلك أن أخذ عبارة “شأن” على أنها “شيء” أو “شيء ما” يظل أمرا لا يسوّغه الفهم السليم، شأنه شأن جملة “لله القدرة في كل شأن” التي تؤدي معنى أقل شمولا بكثير من مقولة “ولله الأمر في كل شيء”.

وليس من باب الصدفة المجانية أن نرى دائرة مدلولات عبارة “شيء” وقد اتسعت في العديد من اللهجات العربية المحلية لتتحول إلى صيغة للمجهول والتعميم و صيغة للاستفهام في عبارات: “شيء ما” و “أي شيء”. كما أن بعض التخمينات العشوائية مثل اعتبار لام التوكيد ( َلـ)، وكذلك لا النافية على ما يبدو، من المشتقات التي تعود إلى اللغة السريانية رغم ما تؤكده شتى فروع العلوم اللغوية من عكس ذلك، مثل هذه التخمينات تدعو إلى الشك بجدية في مقدرات لوكسنبرغ في مجال علوم اللغات الساميّة.

وفي أكثر من موقع يحصل للقارئ انطباع بأن ما يخلص إليه من ملاحظات لا تأتي في الحقيقة نتيجة قراءة جديدة، بل على العكس من ذلك، أن النص يُتأول على نحو يجعله ينقاد إلى الخلاصات المرغوبة. وأكثر ما يجلب الانتباه على نحو خاص في هذا كله هو العودة بهذه الطريقة إلى الاستناد على كتابات تقليدية آرامية، كما لو أن اللهجات الآرامية المختلفة متماثلة دون فوارق فيما بينها. وبالتالي فإن وجود قرآن بدئي باللغة السريانية يظل أمرا لا يمكن اعتباره قابلا للإثبات بهذه الطريقة.

 

وقائع لغوية:

 

شعور مشابه بأن الاستعمالات ذات النوايا المضمرة لوقائع لغوية بنفس الطريقة التي تجعلها تكون سندا يدعم رأيا جاهزا في ذهن الكاتب، هو ما يتكون لدى المرء عند قراءة المساهمة السابعة من هذا الكتاب (“سبل جديدة في البحوث القرآنية”) لماركوس غروس.

يحاجج غروس بأن النصوص المتوارثة بطريقة التناقل الشفوي في اللغة العربية لا يمكن الرجوع بها إلى متن أصلي واحد، لكنه في ما يتعلق بالقرآن يؤكد على أن النصوص المتنوعة تعود في الحقيقة إلى تحريفات قرائية لأصل موحد لهيكل نصي (أو رسم بمعنى الأثر المتبقي من الشيء).

صحيح أن هناك عددا كبيرا من التنويعات النصية التي ترتكز بمختلف تصويتاتها وطرقها المتنوعة في نطق الحروف المصمتة، على أساس موحد، لكن هناك أيضا –وهذا ما يُسكت عنه في هذه الدراسة- تنويعات كثيرة تستدعي رسما مختلفا. وعلاوة على ذلك فإنه يصعب تحديد ما إذا لم يكن هناك عدد من القراءات المنحدرة عن رسم واحد، والتي لم تحقق ظهورها كوسائل ثانوية للتفسير إلا بعد تأسس نظام القواعد اللغوية.

.

تنوع الوسائل الأسلوبية في القرآن:

 

ويدعي غروس في موقع لاحق بأنه من المتعذر موضوعيا وجود متعة جمالية حقيقية في النصوص القرآنية، وفي المقابل يظل مدبرا عن الاستناد إلى عدد من الأعمال الجديدة في حقل العلوم الأدبية، والتي كشفت عن استراتيجيات تركيبية ثرية وكذلك عن الوظيفة السيمنطيقية لتنوع الوسائل الأسلوبية في القرآن (عمل نيل روبنسون “اكتشاف القرآن” على سبيل المثال.

أما عن فكرته القائلة بأن طريقة رسم الحروف القديمة في النصوص القرآنية تجعله بحكم الافتقار إلى الدقة ضربا من الكتابة السرية، فتبدو غريبة بالنظر إلى واقع الأمر الذي يتمثل في أن النصوص السابقة على ظهور الإسلام والمكتوبة بالحرف العربي، وبالرغم من طابعها الدنيوي المؤكد، تحمل نفس السمات من حيث افتقارها إلى الوضوح في ما يتعلق برسم الحروف.

 

المصطفى والمحمد:

 

كما أن الأطروحة المركزية التي تتكرر العديد من المرات في هذا الكتاب، و تفيد بأن محمدا ليس بإسم علم بل مُسنَدا (نعت صفة) داخل لغة المسيحولوجيا، تتضح بالنهاية كمقولة ليس لها ما يدعمها بجدية.

وهكذا يرى بوب في الإسم مجرد استعارة لغوية من الأوغاريتية بمعنى “المختار” و”المصطفى”. وكبرهان على هذا المدلول الذي يمنحه للعبارة يستخدم ترجمة للجذر اللغوي الأوغاريتي ( m.h.m.d م ح م د) بمعنى “the best, choicest” (الأفضل، المنتقى) التي لا علاقة لها البتة بمفهوم “المصطفى”! بينما يرى أوهليش بديلا لذلك في كلمة من السريانية هي mahmed أي “المحمود” التي تمت قراءتها “محماد” (mehmad) في اللغة العربية حسب زعمه. لكن الواقع يثبت بأن هذا الجذر hmd لا دليل على وجوده البتة في اللغة السريانية؛ أي أن كلمة أوليش السريانية هذه لا وجود لها أصلا.

أما المعنى الذي ينطوي عليه هذا الجذر في اللغة الساميّة لمناطق الشمال الغربي: أي “يشتهي” فهو ما يذكره غروس، غير أنه يقدم هذا الجذر، وبطريقة مزورة، كعبارة موجودة في اللغة السريانية وذلك باعتماده اشتقاقا مزورا لإسم مفعول غير موجود. وهكذا فإن احتجاجه بوجود اشتقاق من السريانية لعبارة mahmad في اللغة العبرية، و ما معناه “موضوع للشهوة”، يظل بدوره دون أساس.

 

محمد قبل الإسلام:

 

في اللغات السامية الجنوبية فقط، أي في العربية وعربية المناطق الجنوبية، يكون للجذر اللفظي حمد معنى “الحمْد، والشكر”. وفي هذه اللغات عرفت العبارة استعمالات اشتقاقية في عملية تركيب الأسماء. وإسم م. ح. م. د قد وجد في المدونات الصفائية والسبئية من عصور ما قبل الإسلام. وكإسم علم لا غبار عليه نعثر على إسم محمد مخطوطا على مسكوكات العملة العربية الساسانية من سنوات 686 و701 ميلادي، أي في فترة متزامنة مع نقوشات قبة الصخرة التي يزعم لوكسنبرغ، في قراءته الجديدة في كتاب آخر، بأنه وجد فيها الدليل على المُسند المسيحولوجي.

وعلى أية حال فإنه يتعذر العثور على موقع، سواء هنا أو في أي مكان آخر، ترد فيه أي مطابقة لعيسى المسيح (بنعت أو صفة) مع محمد، أو يرد فيه ذكر إسمه مع كلمة محمد في نفس الجملة. وبالتالي فإن قراءة لوكسنبرغ لا تقيم أي دليل على هذا الزعم. ومن ناحية أخرى نجد أن نص الشهادتين يرد مخطوطا بلغتين على برديّ يوناني. وفي هذه المخطوطة يظهر إسم mamet الذي يعرّف ك (apostolos theo  حواريّ الله)، أي ما معناه رسول الله. وبالتالي فإنه من الصعب أن نرى في هذا شيئا آخر غير إسم علَم.

هكذا يكون هذا الكتاب الذي نحن بصدده قد أخفق في تحقيق المطمح الذي وضعه لنفسه في إنارة البدايات المعتمة للإسلام. وإن النقد الصائب الذي ظل يوجه إلى القراءات المحرفة، وعلى وجه الخصوص القراءات المحرفة للمصادر التي قام بها كتاب مسيحيون معاصرون إلى حد الآن وفقا لرؤية القراءة الإسلامية التقليدية ستبدو مثل المزحة مقارنة بمقاربات هؤلاء الكتاب التي لا تقل انحيازا في طريقة استخدامها للمصادر وقراءتها المحرفة وفقا لما تقتضيه نظرياتهم الخاصة. وستظل فرضية عيسى المحمد بمعنى “المصطفى” أو “المحمود”، مؤقتا موضوعا ضالا تماما للشهوة التحربفية.

في ألمقالة القادمة سنتناول ” نصان يهوديان حول بدايات ألإسلام “.

ألمصادر:
– الإسلام المبكر”، دار نشر شيلر برلين 2007 – مقالة بقلم دانيل بيرنشتيل – ترجمة علي مصباح.

– نصان يهوديان حول بدايات ألإسلام – إعداد نبيل فياض.