التصريحات والمواقف الامريكية خلال إسيوعين من حكم ترامب أثارت الكثير من الدهشة والقلق داخل أمريكا وخارجها , الداخل الامريكي له حساباته المتعلقة بخسارة هيليري كلنتون الديمقراطية , والخارج الامريكي حساباته وجهاته متعددة بينها الاسلامي والقومي المتعلق بالحقد على جميع الإدارات الأمريكية بوصفها ضد ” الاسلام والعروبة ” فتلك الإدارات خصوصا من عهد بوش الأب قد حشدت الجيوش واحتلت كلا من العراق وإفغانستان , نتذكر كيف إن بوش الأب وضع العراق داخل “محور الشر” وفق نظريته المتطرفة وخلفياته اللاهوتية حين قال “بانني ذاهب الى العراق لمقاتلة ( ياجوج وماجوج ) الراقدين جنب مدينة بابل العراقية واللذين يسعيان لتشكيل جيش اسلامي من المتطرفين لتدمير اسرائيل والغرب ” بوش اجتاح العراق في ظل تلك الأوهام والنزعات اللاهوتية وتلبية لرغبة المحافظين الجدد الذين ظللوا الأمريكيين والعالم بشعار” أمريكا هي القوة العليا على الكوكب ولها السلطة ومن حقها رسم خارطة العالم ” ووفقها كان مشروع احتلال وتدمير العراق المركزالجيوسياسي الأول في الشرق ومن بعده يبنى هذا الشرق الجديد . لكن ذلك اليمين المتشدد غض الطرف عن إيران ,فإيران وامريكا يتماهيان بشعارين لاهوتين ( أمريكا الشيطان الأكبر وإيران محور الشر ) للتغطية فقط . وكشفت الحقائق بأن الاحتلال الأمريكي للعراق تم بتعاون وتنسيق مع ( ايران )
حسب التصريحات المنشورة من أحد أعمدة جناح اليمين الأمريكي ( خليل زادة ) الذي سبق له أن زود ( المجاهدين الأفغان ) بالسلاح لطرد قوات الاتحاد السوفييني من افغانستان ,وهو الذي سبق وأن وقع رسالة الى بوش الأب يطالبه فيها “بتقوية إيران لمنع العراق من أن يصبح بعد نهاية الحرب العراقية الايرانية قوة في الشرق الأوسط مما يشكل عقبة أمام سياسة أمريكا في المنطقة “. ولهذا فلم يكن من الغريب أن يأتي المحافظون الجدد بقوى الاسلام الشيعي المدعوم أمريكيا ليحكموا العراق منذ عام 2003 ومنعهم لأية قوة سياسية عراقية ليبرالية أن يكون لها دورها المؤثر في قيادة الحكم . وسهل اوباما خلال ثماني سنوات من حكمه ذلك المنهج رغم جسامة الكوارث والأزمات داخل العراق . ورغم ما قيل من تراجع لأدوار اليمين المتشدد داخل إدارة اوباما لكنه شجع التمدد الإيراني وكافأها بعد الاتفاق النووري . الصعقة التي أحدثتها قرارات ( ترامب) بمنع دخول مواطني سبع دول إسلامية بصورة مؤقتة لا تعيق سياسته الجديدة تجاه مراكز التوتر في المنطقة ( ايران وداعش ) وما حولهما . والمثير للدهشة سرعة انفجار المعركة السياسية والديبلوماسية بين طهران وواشنطن , وما تكشفه مواقف البيت الأبيض من أن بعض هذه الملفات هي موجودة من عهد أوباما لكنه لم يحركها مثل ملف العقوبات الاقتصادية ضد شركات وأشخاص في إيران والمناطق الحليفة لها . الحملات التصعيدية المتبادلة ,عبارة عن محاولات جس النبض بين
الجانبين . طهران تعتقد إنها لا بد من ان تعرف وضعها ومكانتها الجديدة لدى ادارة ترامب , ومدى صحة دعواته الانتخابية بالتخلي عن الاتفاق النووي الايراني أو تحجيمه , وهي قلقة على ما حققته من نفوذ شامل في العراق وجزئي في كل من سوريا ولبنان وتراجع في اليمن . لأن جميع هذه المكاسب الاستراتيجية تحققت بعد الاجتياح العسكري الأمريكي للعراق عام 2003 مباشرة ,الذي تم بتنسيق ما بين إدارة بوش الإبن وحكومة طهران . في عهد أوباما تراجع دور المحافظين الجدد بسبب ما جنته أمريكا من هزيمة في العراق , واضطرار أوباما لسحب الجيش الأمريكي عام 2011 رغم بقاء الاتفاقية الأمنية , واحتلال “داعش ” لثلث أراضي العراق عام 2014 والذي كشف من بين ما كشفه ضخامة الفساد المالي والإداري سواء في الملايين التي انفقت على تدريب القوات المسلحة العراقية على أساليب مقاومة ” الارهاب ” وحرب الشوارع , وليس جيشا لحماية أسوار الوطن . مما جعل ( 300 ) داعشي يجتاحون أربع محافظات عراقية أولها الموصل خلال أيام قليلة .وقد طالب الرئيس ( ترامب) بمحاسبة واسترجاع الأموال المنهوبة من قبل الجنود الأمريكان في العراق . سياسة أوباما تجاه كل من إيران والعراق ظلت في إطار الحفاظ على الواقع الجديد ” هيمنة إيرانية كاملة على العراق ومنحها إمكانيات النفوذ في المنطقة , وغض الطرف عن سياسات الحكم في بغداد في التمييز الطائفي والفساد المالي والإداري وإشاعة الحقد والكراهية والثأر . ورغم إن شعارات الرئيس الجديد ( ترامب ) الموجهة نحو إيران ذات نبرة عالية والتهديد بالتصعيد السياسي , لكن ذلك لا يتطابق مع دعوته الرئيسية ” أمريكا أولا ” التي تستوجب الانكفاء الى الداخل الأمريكي والتعاطي مع المحيط الخارجي وفق مفهوم ” الصفقة ” وهذا يعني إن ارتكاز حجم انخراط أمريكا في قضايا العالم، ومنطقة الشرق الأوسط تحديدا، يرتبط بمقدار ما تحققه من منافع اقتصادية للولايات المتحدة، لكن ( ترامب ) اكتشف بعد إطلاعه على الملفات الخارجية الساخنة إن جهده الاستثنائي في محاربة ” داعش ” يدفعه الى الدخول بالملف الإيراني وهو ملف معقد لا يرتبط بالنووي مثلما كان يعتقد , وإنما بالانتقال السريع لإيران من دولة تقليدية تسعى للمحافظة على حقوق شعوبها في الأمن والحياة , الى قوة إقليمية وعالمية جديدة تنافس الكبار في مصالحهم , ومنطقة نفوذها في العراق والخليج حيث منابع النفط تصطدم بالاستراتيجية الأمريكية الأولى وهي النفط . ووجد فريق أوباما الرئاسي إن تراخي أوباما قد أضر بالمصالح الأمريكية العليا , ولعل مواصفات الطاقم الرئاسي ل(ترامب ) تعطي الانطباع بمقدمات للدخول في تحول جدي وكبير في سياسة واشنطن تجاه إيران والعراق والمنطقة . فغالبية هذا الطاقم من الصقور أبرزهم وزيرالدفاع (جيمس مايتس ) ومستشار الأمن القومي (مايكل فلين ) ومدير المخابرات ( مايك بومبيو ) وهؤلاء الثلاثة لهم مواقف معروفة ضد التشدد الاسلامي وضد إيران , أما وزير الخارجية فهو رجل الأعمال ( ريكس تيلرسون ) صديق الرئيس الروسي ( فلاديمير بوتين ) . قام الفريق بفحص استثنائي سريع لسياسات إيران إضافة الى ما تركته المخاوف الخليجية من تلك السياسة التي وضعت أمام الرئيس
الجديد من عدة زوايا تعيد الى الذاكرة مناخات الحرب العراقية الإيرانية ولكن اليوم من دون العراق السابق , فقد تغيرت الخرائط أصبح النظام في بغداد حليفا مواليا لطهران , بل هو رأس الرمح بوجه أمريكا إن حاولت ” المساس بالمصالح الايرانية , وهذا هو مصدر القوة التي تتحدث بها الديبلوماسية الايرانية بوجه ( ترامب) رغم الوجود العسكري الأمريكي المكثف في العراق على ضفاف الموصل التي لم تحسم معركتها بعد وفي منطقة كردستان الموالية والمتحالفة استراتيجيا مع واشنطن الجديدة . لقد قامت إيران باستعراض لقوتها العسكرية وهي محاولة لجس النبض الأمريكي الساخن الجديد . نشاطات عسكرية استفزازية في باب المندب , تجارب صاروخية بلاستية , كان الرد الأمريكي التحذيري سريعا وبنبرة حازمة من قبل مستشار الأمن القومي الأمريكي (مايكل فلين ) مع تعقيبات من قبل ترامب ذاته الذي هدد إيران بأن لا تلعب بالنار حيث ربط الوجود الإيراني بالعراق كجزء من سياستها المرفوضة من واشنطن ” لقد توسعت إيران كثيرا في العراق , مع إننا أنفقنا 3 ترليون دولار هناك ) ويأتي الاستهزاء بترامب سريعا من روحاني وولاياتي ووزير الخارجية الايرانية .كما اتخذت ادارة ( ترامب ) سلسلة عقوبات اقتصادية ضد مؤسسات وشخصيات مالية . رغم الاستعراضات الإيرانية لكنها تسعى في الباطن الى تهدئة واشنطن , خصوصاً في مسألة نفوذها الواسع في العراق وهو التهديد الأكبر , لكن الوضع العراقي معقد بسبب النفوذ الايراني وما حصل من تفكك في الحياة السياسية والاجتماعية العراقية , واحتمالات تقسيم هذا البلد طائفياً , تحوطات إيران تتطلب زايادة دعمها لذراعها العسكري وهو المليشيات التابعة لها , عن طريق اللعب بخرائط منطقة نينوى طائفياً ولوجستياً لكي تتقدم القوات الشعبوية نحو الرقة السورية بعد حسم معركة الموصل .
أما الأحزاب الحاكمة ببغداد فهي في غاية القلق على مصيرها , واحتمالات ضياع مركزية الحكم ,ومحاولات إعادة الانتاج السياسي للبيت الشيعي لن تقدم حلا امام إدارة ترامب بعد أن فشلت امام شعب العراق , فماذا سيقول سياسيوا بغداد لترامب : هل إن عمليات السرقة والنهب قد تمت على أيدي داعشيين أو سراق من المريخ ؟ أم سيقولون إنهم إسلاميون معتدلون , أو إنهم لا علاقة لهم بالجارة إيران وبسياساتها بالعراق والمنطقة , والتصريحات الأخيرة لوزير خارجية حكومة بغداد ( ابراهيم الجعفري ) ذهبت الى منحى آخر حين قال ” دولة عظمة تتحدث بلغة رعاة البقر وايران وقفت معنا بشكل مشّرف ” الملفات لدى ( ترامب ) ولدى طاقمه الجديد كثيرة وبالأرقام وسبق أن حفظها طاقم ( اوباما ) ولم يحركها ضد السلطة الحاكمة في العراق . أيام عصيبة تمر على إيران رغم مظهريتها الاستعراضية لأنها تعرف ما هي أمريكا , كما هي أيام عصيبة على جميع سياسيي بغداد , شعب العراق الصابر وحده الذي ينتظر الأيام المقبلة .