لها…..
على كثرة العطل والمناسبات، لم يمنحوك يوما خاصا بك بل جعلوه أحد ثلاث مناسبات. ربما يمكن الجمع بين عيد الشجرة وعيد الام، فكلاهما رمز العطاء والخير، أما العلاقة بين عيدك وعيد النوروز فهذا ما لم أفهمه. ألهذا السبب صار عيد الأم في بعض بلدان العالم في العاشر من آذار؟ لا أظن.. فليس كل العالم يحتفل بالنوروز.
هل بخلوا عليك بيوم خاص، أي عيد أفضل من عيدك؟ أعياد التحرير والوفاء والعمال والجنود، أم أعياد رمضان والاضحى والقيامة وغيرها؟ ألست من بدأ التاريخ بهمسة في أذن آدم، ألست أول من حملت وانجبت لتبدأ الخليقة؟ أم انك حقا خرجت من ضلع آدم، فصرت جزءا منه، لذا صار عيدك جزءا من يوم؟
هل تكفي كلمات العشق، الحزن، الفرح، الرثاء والمديح لنبش الذاكرة؟ مازلت استشعر حرارة يدك وهي تحتضن يدي الصغيرة في يومي الاول في المدرسة التي اقتلعتني من أحضانك. كم كنت خائفة.. كان خجلك يزيد من خوفي واحساسي بالغربة. بدا النهار طويلا في ذلك اليوم، توقف نبضي ونفسي وأنا اسمر عيناي على معلمتي أبحث فيها عن شيئ يشبهك لأنك قلت لي بأن المعلمة هي أم أيضا، لكني يومها أدركت بأن الامهات لايتكررن.
تتشابه بعض أيام العمر وتختلف، لكن جميعها كان يبدأ بصوتك الحنون يوقظني.. وينتصف نهارها بمرآى وجهك المحاط بهالة التعب القدسية وقد زادت حبات العرق لمعانه، فتكبر بي لهفة لاحتضانك، لكنها تضيع وسط لغط الاخوة والاخوات وهم يقصون عليك اخبار يومهم الدراسي بانتظار الطعام. لم أكن واثقة من أنك تصغين برغم ايحائك لهم بذلك. لم أكن أتكلم كثيرا، ربما لأني كنت أسمع صراخ قدميك التي تئن من جولة مكوكية طيلة النهار والليل في أرجاء البيت لرعاية ثمانية اولاد.
تربكني الذكريات وأتيه في تسلسلها. يتقدم بعضها وتتراجع أخرى خجلا، بعضها صار جرحا وآخر حلما. صورتك تبكين بصمت لتواسي دموعي يوم عدت باكية في احد الامتحانات الوزارية. صوتك الذي تراقص طربا وانت تخبرين كل من نلتقيه بأن ابنتك التحقت بالجامعة؟ شهقة حزن وخنوع أمام صوت الوالد الهادر يوم طرق البخت بابي: مازالت صغيرة، لم أشبع منها بعد. شفتاك تتمتم بالدعوات لنا ترافقها رائحة البخور والحرمل بعد صلاة الغروب. نذور تغسل همومك على أبواب وشبابيك الاولياء.
هل تغير الزمن، أم ان الامهات أيضا يخضعن لقياسات الحضارة والظروف السياسية والاجتماعية؟ كانت أمي تشبه أغلب الامهات العراقيات. نساء مغلوبات على أمرهن، لا يملكن سوى الدموع للتعبير عن أحزانهن أمام السادة الرجال حتى ارتبطت صورة الام العراقية ب (المهضومة). امرأة لا تملك عنوانا وظيفيا او موقعا الكترونيا او رصيدا.. واحيانا لا تملك حتى صديقات او حياة خاصة بها، لم يكن لديها سوى (نحن) اولادها، لتضع فيهم كل ماتملك من حب وحنان فتدافع عنهم كقطة شرسة ترى في صغارها كل حسنات الدنيا وتصر على انهم لم ولن يرتكبوا خطأ.
مهما اختلف الزمن والتاريخ تظل الام هي الأم، لكن رائحة أمهات ذلك الزمان تشبه رائحة الارض. فمن صدروهن تفوح رائحة حليب لا تنضب. تهاوت جذوعهن مبكرا وانحنت ظهورهن تحت ثقل احزان الغائبين. مازالت الامهات انهارا للعطاء، لكن الحب خضع ايضا للبرمجة وشخصت الحسابات والمشاغل والقلق والتوتر لتغلف العواطف بالسليفون، فدب البرد في الغرف المنفصلة ليزرع غربة هي جزء من قسوة زمن اسقط من على تقويمه أي تاريخ للفرح.
لا أجد ما أقوله لك في عيدك.. فبعد خمس سنوات على رحيلك تحن صبخة روحي الى صوتك الباكي على صدى قرقعة الاواني (غريبة من بعد عينج ييمه).. غريبة يا أمي والدرب موحش ، أتوق الى رائحة صدرك تمتص حرارة دموعي وتهدهد جراحي.
تجرحني ذكرى ذلك اليوم. كم تلهفت لضم رأسك الى صدري، لكن حظر التجوال كان اقسى فلم يسمح لي برؤية نور وجهك.. بل ترك لي صورة جسدك ملفوفا بكفن. كل ما حلمت به أن اقبل يدك. واليوم لم يتبق لي سوى ان اقبل تراب قبرك ، وأغبط كل من استطاع ان يقبل يد أمه في عيدها.
[email protected]