المقدمة
أفرزت الظروف السياسية والنزاعات التي عاش تحت وطأتها المجتمع العراقي أوضاعا اجتماعية متردية كان لها انعكاساتها الخطيرة على الفئات العمرية المختلفة من العراقيين، وكان للأطفال بشكل خاص نصيب كبير من المعاناة في بيئة يتزايد فيها إحساسهم بالخطر وتتعدد فيها عوامل التهديد ذات الارتباط المباشر وغير المباشر بهذه الفئة . ولعل اخطر مانتج عن هذه الأوضاع الاجتماعية، ظاهرة أطفال الشارع التي اتسع نطاقها بشكل واضح اثر العمليات العسكرية بعد عام 2003 . وتواجه هذه الفئة التي تنعدم أية إحصائيات دقيقة عن حجمها، أنواعا مختلفة من المخاطر والصعوبات ابتداء من الاستغلال الجنسي والجسدي والحرمان من الحاجات الأساسية التي تشكل النواة الأولى لنمو شخصية الإنسان، وانتهاء بتعاطي المخدرات الذي منح ظاهرة أطفال الشارع في العراق خصوصية جعل من قضية تأهيلهم أمرا محفوفا بالصعوبات خصوصا مع عدم توفر دراسات كافية عن هذه الظاهرة وانعدام بيئة إحصائية دقيقة تسهل عمل الباحثين في هذا المجال فضلا عن افتقار العراق إلى تجارب جادة في التعاطي مع الأطفال المهددين بالخطر. وتضع المنظمات الإنسانية الداعمة لبرامج تأهيل الأطفال المهددين بالخطر بموقف حرج بسبب صعوبة التعامل مع هذه الفئة وغياب الخبرات.
بعد هذه المقدمة يهمنا أن نعرف من هو طفل الشارع ؟ وهل هناك أنواع منهم ؟ وكيفية التعامل معهم؟.
من هو طفل الشارع؟
هو كل طفل لا يعيش في كنف عائلته ويتخذ من الشارع والطرقات والأماكن المهجورة مقرا له.
ينقسم أطفال الشارع إلى عدة أنواع :-
1- الطفل المنقطع نهائيا عن عائلته ويتخذ من الشارع مأوى له لعدة أسباب منها:-
أ- التفكك الأسري الناتج عن طلاق والديه أو وفاة احدهما أو كلاهما فيجد أن زوجة الأب لا تريده أو تعامله بقسوة فينفر منها وينطبق ذلك على زوج الأم فيصبح الشارع هو السبيل الوحيد لخلاصه.
ب- الفقر الشديد والعوز المادي الذي تعاني منه العائلة وعدم توفر ابسط مستلزمات ديمومة الحياة لذا يترك الطفل العائلة ويلجأ إلى الشارع.
ج- العمل المبكر الذي يساعد على اختلاط الطفل بنماذج من الأطفال غير الأسوياء يكونون سببا في انحراف الطفل.
د- الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي تعرض لها البلد والمؤثرة على بنية المجتمع.
هـ- الممارسات الجنسية غير الشرعية التي ينتج عنها أطفال مهمشون لا يعرفون نسبهم الحقيقي ويقذفون إلى الشارع بعد الانتهاء من لذة النشوة الجنسية (أطفال غير شرعيين).
2- الأطفال الذين يعملون طوال اليوم، ومعظمهم يعمل في جمع القناني الفارغة للمشروبات الغازية والكحولية أو جمع القمامة، وقد يعود إلى بيته في المساء حيث يقضي معظم النهار خارج البيت وبعيدا عن أي مراقبة من قبل العائلة فيفعل ما يشاء.
3- الطفل المنقطع عن زيارة أهله لسببين:-
أ- يعمل في جمع القناني الفارغة والقمامة إلا انه يقضي عدة أيام في محاولة لجمع اكبر كمية منها. وهذا النوع يعمل على شكل مجاميع وفي بعض الأحيان يكونون على صلة قرابة مثلا إخوة أو أولاد عم أو من نفس المنطقة.
ب- أو قد يترك الطفل الدار لعدة أيام بسبب مشكلة معينة، ويعود بعد فترة من الزمن إلى البيت . وقد يتعود على ذلك فنجده كلما صادفته مشكلة يهرب من الدار ويلجأ إلى الشارع ، وهناك يمارس كل شيء على حريته . وبعد أن يشبع رغباته يعود إلى الدار.
صفات أطفال الشارع:-
1- الإدمان : يعاني جميع أطفال الشارع من حالة الإدمان وتشمل (السكائر، استنشاق المذيبات مثل الثنر أو استنشاق اللاصق مثل السكوتين ) .وقد تصل إلى تناول حد الكحول عندما تتوفر لديهم مبالغ كبيرة من النقود.
2- العدوانية : يمتازون بعدوانية كبيرة قد تصل إلى حد القتل أحيانا وتأتيهم هذه الصفة من خلال بقائهم في الشارع لفترات طويلة مما يعرضهم لمواقف كثيرة تتطلب منهم العدوانية والشراسة في مواجهتها.
3- الشذوذ الجنسي : قد تكون هذه الحالة تنطبق على معظمهم إن لم نقل جميعهم وقد تكون( سالبا أو موجبا). وسببها أنهم قد خرجوا إلى الشارع في عمر مبكر مما عرضهم إلى الاستغلال من قبل أحداث من الشارع أيضا . ويشمل هذا الاستغلال عدة أشكال منها ممارسة الجنس (اللواط) معهم بالإكراه أو بإرادتهم وكذلك حملهم على السرقة لمصلحتهم والاستجداء وأمور أخرى.
4- الذكاء: إن بقائهم في الشارع لسنيين عديدة جعلهم يسبقون أعمارهم بكثير، مما أهلهم ليكونوا محتالين من الدرجة الأولى بحيث أنهم يتلونون حسب الحاجة.
5- التسلط (البقاء للأقوى): نجدهم يعيشون وفق هذا القانون، أي السلطة للأقوى، ويكون باقي المجموعة تابعين له ويأتمرون بأمره وقد يجلس وهم قومون بكل شيء من السرقة والاستجداء وتوفير الطعام وحتى غسل ملابسه.
تقع مسؤولية أطفال الشارع على :-
1- الأسرة : فهي تعاني من عدة مشاكل أهمها:
أ- الفقر: تعاني من الفقر لدرجة أنها لا تستطيع أن ترعى أطفالها لذا يلجأ الطفل
إلى الشارع.
ب- التخلف : حيث أنها لا تستطيع أن توفر لهم جوا مناسبا يؤهلهم للبقاء ضمن
محيط الأسرة.
ج- التفكك الأسري : سببه زواج الأب أو الأم أو وفاة احدهما أو كلاهما ونفور
الطفل من زوجة الأب أو زوج الأم بسبب قسوتهم ومعاملتهم السيئة له.
2- المدرسة : تفتقد لعدد من المقومات الأساسية التي تحول دون ترك الأطفال للدراسة ومن أهم هذه المقومات :-
أ- عدم وجود معلمين أكفاء يستطيعون جذب الطفل إلى المدرسة وتحبيبه بها.
ب- عدم وجود مناهج جيدة تسهل عملية تعليمهم.
ج- عدم وجود وسائل ترفيهية ضمن خطط المدرسة السنوية مثل :(نشاطات ترفيهية مدرسية، مهرجانات فنية، نشاطات لا صفيه، سفرات رفيهية، زيارات ميدانية) .
د- عدم متابعة الطلاب المتسربين من المدرسة بصورة جيدة.
3- المجتمع : حيث ينظر نظرة سلبية إلى فئات أطفال الشارع، وهذه النظرة تتضمن الاحتقار والتهميش الاجتماعي والاقتصادي عن الأدوار الفاعلة في المجتمع.
4- مؤسسات الدولة : تتحمل مؤسسات الدولة العبء الأكبر ويتلخص ذلك بما يلي:-
أ- إهمال العوائل الفقيرة وعدم محاولة إيجاد الحلول لانتشالهم من وضعهم المأساوي.
ب- الإهمال في توفير الخدمات الأساسية (الصحية،الطبية،الخدمية،….الخ).
ج- عدو توفير مراكز ترفيهية في المناطق الفقيرة.
د- عدم توفير برامج إعلامية هادفة تساعد على توجيه وتوعية العوائل وإرشادها إلى الطريق الصحيح.
بعد عرض كل ما تقدم، ظهرت الحاجة – وخصوصا بعد انهيار النظام السابق وتدمير كل المؤسسات الخدمية والاجتماعية وانتفاء الخدمات التي كانت تقوم بها -إلى الاعتماد على المنظمات الإنسانية في محاولة للسيطرة على هذه الظاهرة وانتشال هذه الشريحة من المجتمع من هذا المستنقع الذي يخوضون فيه .
وفعلا عملت عدة منظمات في هذا المجال وتم فتح مجموعة من الدور لإيواهم، إلا إن بعضهم فشل في التعامل معهم والبعض الآخر نجح، وكان نجاحه نسبيا، والباقي نجح نجاحا جيدا جدا . وكل ذلك يعود إلى نوع الباحثين العاملين في هذه المنظمات والإمكانيات التي يمتلكها كل واحد فيهم، وكذلك يعود نجاح مثل هذه المشاريع إلى طريقة تعامل إدارة المشروع مع الكادر ومع الأطفال . ولأهمية ذلك نود أن نستعرض أهم الصفات الجيدة للباحث في هذا المجال وهي :-
1- إن أهم صفة يجب أن يتمتع بها الباحث هي حبه لعمله وأن يكون مستوعبا لحجم المشكلة التي يتعامل معها.
2- أن يكون على قدر كبير من المسؤولية ويحمل إنسانية عالية تؤهله للعمل في هذا المجال.
3- أن يكون صبورا وغير جزع، لأن العمل صعب ومتعب جدا ويحتاج في بعض الأحيان إلى تكرار المحاولة مع طفل معين إلى أكثر من مره وقد لا ينجح معه في الأخير.
4- أن يمتلك مواهب الاتصال مع الأطفال وإقامة علاقات حميمة ينتج عنها فهم لأعماق الطفل وتحبيبه للبقاء في دور الرعاية.
5- أن يكون مراقبا جيدا يستطيع من خلال ذلك تشخيص بعض الحالات أو التصرفات للأطفال من الممكن أن تكون نقطة الانطلاق بالنسبة له لتكوين علاقة معه أو إيجاد الحل لمشكلته.
6- يمتلك القدرة على تقمص عدة شخصيات في آن واحد، مثلا يكون صديقا حميما للطفل وأبا عطوفا عليه وأما حنونة، وينزل إلى مستوى الطفل.
7- يحاول إعادة الثقة للطفل بنفسه وبالمجتمع من حوله.
8- لا يقدم الحلول السريعة لمشاكل الطفل والتي قد يكون لها تأثيرا سلبيا على علاقته بالطفل مستقبلا.
9- أن يكون حريصا على أسرار الطفل الذي يأتمنه على مشكلة معينة أو سر يستودعه إياه، لأنه في حالة إفشاء أسرار الطفل فأنه يفقد ثقة الطفل به ولن يتعامل معه مستقبلا وقد يؤدي إلى نفوره منه إلى الأبد.
10- أن يمتلك المقدرة على التحليل النفسي للطفل من خلال تصرفاته وطريقة تعامله مع الآخرين.
11- يجب على الباحث عدم مواجهة الطفل بإعماله السيئة أثناء تواجده بالشارع وعدم تأنيبه أو لومه عليها لأن ذلك يجعله ينفر من الباحث.
12- يجب تدوين كل صغيرة وكبيرة تصدر عن الطفل، لأنه في لحظة قد يعترف الطفل أو يشير إلى المشكلة التي يعانيها وبدون شعور منه .
13- إعداد تقارير مستمرة عن الطفل وكذلك زيارة عائلته باستمرار وإعداد تقارير عنها وتشخيص العلة التي تحول دون دمج الطفل مع أسرته.
أهم المشاكل التي يواجهها الباحث :-
1- كذب الأطفال وعدم قولهم الحقيقة الكاملة عن حياتهم السابقة أو اسمهم الحقيقي أو محل سكنهم .
2- الإدمان الذي يجعل الطفل بسببه يهرب من الدور الإيوائية إلى الشارع لتناول المواد المحظورة داخل الدار.
3- العدوانية التي يتميز طفل الشارع بها لأنه يشعر بفقدان القيمة الإنسانية والاحتقار من قبل الآخرين، لذا فهو يمارس الاعتداء على الآخرين كوسيلة لاسترجاع قيمته والدفاع عن نفسه في حالة تعرضها للانتهاك والعنف.
4- عدم رغبة الطفل بالعودة إلى أسرته.
5- عدم رغبته بالتعلم أو الذهاب إلى المدرسة.
6- لا يريد الخضوع لقوانين الدار التي تحرمه من حقوقه التي كان يتمتع بها إثناء تواجده في الشارع.
7- الحنين إلى حياته السابقة في الشارع ومحاولة عكسها على حياته داخل الدار.
8- عدم تعاون مؤسسات الدولة مع هكذا مشاريع وإهمال هذه الشريحة من المجتمع وبالأخص وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
9- عدم زيارة ذوي الأطفال لأطفالهم أثناء فترة تواجدهم في الدور الإيوائية حتى بعد الاتصال بهم.
اهم المقترحات :-
وتشمل هذه المقترحات ثلاث محاور مهمة في حياة الطفل وهي :-
1- الأسرة :
أ- يجب حث الأطفال على التعلم ومتابعتهم متابعة مستمرة.
ب- عدم دفع الطفل إلى العمل في سن مبكرة.
ج- توفير جو من الدفء والحنان للطفل داخل البيت.
د- التعامل بود مع الأطفال وعدم القسوة عليهم.
هـ- حل المشاكل التي يعاني منها الطفل بصورة بسيطة وعدم إشعاره بالذنب دائما.
2- المدرسة :
أ- الاعتماد على مناهج دراسية مبسطة، هادفة وغير مسيسة.
ب- توفير تدريسيين ذو كفاءة عالية في التعامل مع الأطفال ويمتلكون القدرة على التحليل النفسي لهم.
ج- الاهتمام بالنشاطات اللاصفية (الرياضية،السفرات الترفيهية،المهرجانات والاحتفالات).
د- متابعة المتسربين من المدرسة متابعة جدية ومحاولة الاتصال بذويهم لمعرفة مشكلهم ومساعدتهم على حلها وعدم ترك الأمر بدون حل.
هـ- عقد اجتماعات دورية مع ذوي الطلبة للوقوف على أهم المشاكل التي يعاني منها كلا الطرفين ومحاولة تذليلها.
3- الدولة :
أ- القيام بعملية مسح ميداني للمناطق الفقيرة لإحصاء العوائل الفقيرة ومحاولة إيجاد فرص عمل لذويهم أو تخصيص رواتب شهرية لهم تساعدهم على تدبير أمورهم المعاشية وعدم دفع أطفالهم للعمل في سن مبكرة.
ب- فتح مراكز ترفيهية في المناطق الفقيرة.
ج- التعاون مع المنظمات الإنسانية غير الحكومية ودعمها من اجل انتشال هذه الشريحة من واقعها المرير.
د- توفير الخدمات الصحية للمناطق الفقيرة.
هـ- توعية الأسر وتثقيفها من خلال الإعلام في الوسائل المرئية والمسموعة وكذلك الصحف والمجلات وحثهم على عدم السماح لأطفالهم بالعمل مبكرا.
و- محاسبة مروجي المخدرات والمذيبات واللواصق الذين يتعاملون مع الأطفال بشدة .
ي- فتح أجنحة أو مستشفيات خاصة لعلاج الإدمان على إن تكون متكاملة من جميع النواحي من كوادر متخصصة وأدوية وغرف عزل وإلى غير ذلك من الأمور المهمة.
ز- وضع بنود قانونية صارمة على أرباب الأسر عند إعادة الطفل إليهم من قبل دور الإيواء.
* باحث نفسي / مدير البيت العراقي الآمن للأيتام