18 ديسمبر، 2024 9:56 م

بثينيات الشاعر العراقي المغترب هادي حسن حمودي

بثينيات الشاعر العراقي المغترب هادي حسن حمودي

بدءا يجب أن أعترف بأنّي لست معنيا أن تكون تسمية بثينة حقيقة أم رمزا. فأنا أتعرّفه من خلال التأليف والشعر. ثم لأني معنِيّ باستنطاق الشعر، ولست معنيّا باستنطاق الشاعر لأنّ الشعر هو الذات الحقيقية للشاعر ولأنّ جمال الحقيقة يكشفه الشعر.
كما لا يعنينِي أن يكون إلهام الشاعر قد خرج من جبّة القرن الأول، أم من عشاق العصر العباسي، أم من فساتين الأزمنة الحديثة، أم لا يكون..
كما لا يعنينِي ان تخرج ( بثينة) من أقصى الفجر أم تخرج من قصائد الليل أو الويل.
يعنينِي الشعر الذي يسارقنِي النظر والعِبَر والعبرات، في تركيبته، وفي بنائه، في جماله الصاعق، أو برده الصاقع.. يعنينِي أن أنظر في شعر يبدعه شاعره، بمنطق عصره، وتضاريس المكان.
وفرق بين أن أضع الشاعر في قفص من علاقة التوازي أو التّضادّ، وبين أن تتفجّر القصيدة بين يديّ، كشظايا المرايا، كاشفة عن الزئبق، والزّنبق، وانفجارات دهشات الأسرار، وما أراد الشاعر وما لم يُرِدْ.
فرق بين جمود التنظير القاتل للإبداع، وبين الإبداع القاتل للتنظير.
كما لا يهمنِي أن أكون مصيبا، بمقدار ما يهمنِي أن أكون صادقا، في الرؤية والتحليل، والتعبير. أعنِي ما قاله الأستاذ الشاعر هادي حسن حمودي يوما (إن على الناقد أن يكون صادقا مع القيم الفنّيّة التي يمليها عليه النّصّ نفسه، لا أن يكون مستعيرا منهجا، أو مقلّدا طريقة بحث وكلام، ولا أن يبتدع نظرية، في فن الفكر المتجلي في الأدب عموما والشعر خصوصا، لا تتلاءم مع جوهره وثيمته. وما الشّعر إلا الفكر وإلا الشعور وإلا الكشف عن الذات والخاص والعامّ).
فانا لم أعرف عاشقا، نظّر لعلاقة الحبّ والعشق، ولكنّي أعرف ملايين العشاق الذين استوحوا من الحبّ تفجيرات كينونة العشق. ولم أعرف عشقا من البحر الطويل، ولا المديد، ولا البسيط، ولا الكامل، ولا الوافر، ولا من قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر المشعور أو الشعر المنثور، ولكني عرفت العشق من البحر الحبيب، والبحر الخليل، وبحر التنهدات، وبحر الآمل والمأمول، وبحر القمر والضباب.. في الغياب وفي الإياب.
الرجل الذي نتكلم عليه الآن يرى القصيدة رحلة عذاب، ويرفض وصفه بأنه شاعر برغم تراث شعري مخطوط وديوان شعر منشور، وحجته في ذلك أنه لم ينظم على كل بحور الشعر ولا يستطيع أن يفعل ذلك، بل هو في لحظة من لحظات مجهولة القدوم تنثال عليه كلمات وتراكيب لغوية مع تفعيلاتها.
فأنا كلما رأيت عشق هادي حسن حمودي لبلده وأمته وكأنّه عاشق يهبّ قبيل الفجر يلوم العاشقين إنْ ناموا أو استناموا، حتّى أقرأ في دارات العيون جذوة آماله تُطفئها آلام طموحه وعقله المتوقد بالذكاء. إنه من أولئك الشعراء الذين يتجاوزون تخوم التاريخ وأزهار الدفلى، ويتجاورون مع الخلود وأشجار الصفصاف والنارنج.
فالعشق عنده عشقٌ.. للوطن وللحبيبة وللسلام ولمجتمع العشّاق المحبين المتوحدين في سيرورة التوجّد وصيرورة التمجّد.
وكأنّه أنشودة من أقصى الفجر تفضح عاشقا ما زال له في بحار العشق عَوم، برغم الهجر وبرغم البعد فإنه يصير أقرب حين يوجّه نحو مرايا بثينته سرب نوارس آلامه تطلع من آهاتها فتضيع الأماني في بحيرة قمرٍ سيّدٍ في إغفاءةٍ مستحيلةٍ وحين تنسى أصابعُ العاشقين مسّ السيف في اللهيب المتفجر فترحل في الصحراء وماء البحر تلتحف سماءً من النخل والورد لتقرأ مصيرها في نجمة تسقط من بين يديها كرمال تتسرب من بين أصابعها القابضة على جمرة الروح.
أُجزم أنّ ابن بغداد لم تطرأ في ذهنه عاشقة من أقصى الزمان اسمها بثينة حين يتغزل ببثينة البغدادية، ومنها إلى بغداده. ولا أنّه طالع قول المتنبي الرائع والأمّة آنذاك تفرض علمها على العالم، تحظى باحترامه واعترافه بالفضل السابغ العميم تظلل به الأجواء فيما بين المشرقَين والمغربَين، فإذا بالمتنبي المتفرد في سماء الشعر يوضّح لهم الفجيعة التي تفتح فاها كي يسقطوا فيها بالجهل والويل:
يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ (ديوان المتنبي 383 ط. عزام).
هكذا أجرؤ أن ألغي المسافات، وألغي المكنونات، وأطلع بوحدة الكائنات من وحدة الفجيعة الجامعة، ووحدة الألم الأزلي، والأمل الهزلي، والحبل السرّيّ، وتجمّد العمر في ليلة واحدة باردة، الى آخرها تبكي القصيدة في غزل شاعر عصيّ على الموج واسواق نخاسة الفكر، إذ تهبّ غزلياته من أقصى التاريخ الماضي والآتي لتحاور السلاسل والخناجر والتجمّد والتخلّف، فتتخلّق جغرافيات شعرية، دمعة من القلب إلى قدره المكتوب على جبينه من قبل الخلق يسكبها ابن بغداد الهادي على ضفاف آماله الحزينة قبل عقود من زمن العرب الذين ذووا وذوت أشعارهم التي كان لها طيب ورازقيّ ودفلى. وعلى حد قول ابن رشيق القيرواني بعد أن خرج الناس لصلاة الاستسقاء وكان في السماء غيم، فلما عادوا ما اكتفى الغيم بالانكشاف بل حمل الريحُ معه أسراب الجراد تأتي على ما تركه الجفاف، كما قال ابن رشيق القيرواني:
بينما نرتجي سحابة مُزْنٍ غشيَتنا سحابةٌ من جرادِ
(قُراضة الذهب، ابن رشيق القيرواني 50. ط. القاهرة 1926).
****
قصيدتان أتوقف عندهما: الأولى يعود تاريخها إلى سبتمبر 1977 سافر في صيفة ذاك العام من الجزائر إلى باريس، وسافرت بثينته لزيارة أهلها، اتفقا على عودتهما مطلع سبتمبر، وكان لا يستطيع مرافقتها. لم تعد في الموعد المحدد، اشتد به القلق فكانت حائيته:
أدْلَج الليلُ وانطفى المصباحُ
لا مساءٌ يضمّنا، لا صباحُ
أيّها الليلُ أين صبحُك عنِّــي
إنّه الشوقُ والهوى اللّمّاحُ
قَدْ صَبَرْنا على الفِراقِ طويلا
هكذا قالتِ العيونُ الفِصاحُ
ساءلتني وللهوى همســـاتٌ
هل يُتاح اللقاء أم لا يُتــاحُ؟
فاستثار الفؤادَ حلوُ كَــــــلام
نثرت دُرَّهُ الشفاهُ الْمِـــلاحُ
قلتُ: أنتِ الحنينُ والأفـــراحُ
وزهورٌ وعِطْرُها الفَـــوّاحُ
فانشدي نَسمةَ الصباح مرارًا
هل يُراحُ الفؤادُ أم لا يُراحُ؟
ثم يجمع بين بثينة والوطن الذي كانت الدكتاتورية قد استلبته من أهله يعلن جاهزيته للالتحاق بها:
نَفِدَ الصّبرُ فلتهبَّ الرّيـــــاحُ
إذ شِراعي مُنَشَّرٌ ومُتـــــاحُ
فاهْرعي يا سفينُ نحو ديـــار
إنّ روحي إليهمُ ترتــــــاحُ
لا تُراعي من الليالي ظلامــا
إذ نُجومُ السّما لهنّ التمـاحُ
يا نُجومَ السّما أنيري بُحــورا
إنّما أنتِ في البحور اتّضاحُ
أوصلي للدّيار منِّي تحايــــا
واشتياقًا وما علينا جُنــــاحُ
حيّ أهلاً وشاطئا من عَبيـــرٍ
ونخيلا بظلّها يُـــــــستراحُ
خبّريهم عن الهوى واشتياقي
فلقاءُ القلوب حَتْمٌ مُتــــاحُ
والشيء بالشيء يذكر، فما إن يأت ذكر الوطن إلا وتتداعى صور الوجوه القباح:
غيرَ أنّ العَذولَ يَرْصُدُ خَطْوِي
فطريقي مُحاصَرٌ مُسْتباحُ
مُذْ نشرتُ الشِّراعَ فوقَ سفينِي
جابهتنِي سُيوفُهم والرِّماحُ
وخداعٌ من المواعيد يََهمـــــي
إنّه الغَدْرُ والوُجوهُ القِباحُ
ولسانٌ مُذَبْذَبٌ، وسليـــــــــطٌ
وفحيحٌ لحقدهم فضّـــــــاحُ
وهم أعداء الحب وأعداء كل ما هو خير وجميل في الحياة، غربان تنعق في مستنقعات الخديعة:
نحروا الحبّ واحتفَوا بكـــؤوسٍ
من دمانا وكم علينا اصطباحُ
قيّدونا، وللقيودِ صَليـــــــــــلٌ
ولجُرحي على القُيودِ جِمـاحُ
تلك الجراح المتمردة على القيود، تبني جسورا للحب:
حيث إنّ الجراحَ تبني جُسورا
فَغُـدُوٌّ إليكــــــــــمُ أو رواحُ
ضَمِّدي يا (بُثَينَ) منِّي جراحـا
بلْ دَعِيْها فَعَنْكِ تَحْلُو الجِراحُ
هو الحوار بين السيف والوردة، بين الغربة والتغرب والاغتراب من جهة والانتماء إلى الأهل والوطن من جهة أخرى. حزّ السيف تعالجه أوراق الورد، وحدّ السيف يغازل الوردة، مدافعا عنها، لا قاطعا لها. وهل يقوم حوار بين السيف والوردة؟ ذلك ما حاوله العراقي الجوال أن يجعل السيف عاشقا للوردة لا قاطعا لها. ولذلك كثر عنده استعمال لفظ الورد والورود والزهر والزهور. فهناك في أقصى القلب استوطنت ديار الأهل والأحباب. والعشق للوطن عند أستاذنا وشاعرنا ليس عشقا للأرض والجدران والآثار فحسب، بل هو عشق للغد الآتي بالعلم والعمل، لذلك كثر وقوفه على بوابات أمجاد الماضي واستشرافات المستقبل.
الذي يعنينِي أنّ الجامع بين قصائد أقصى الفجر هو الألم، والألم الذي لا أمل فيه، هو رفض اصطفاف الجمود والخمود فوق الفكر، وفوق العقل، وفوق الرأس، وبين الفكين المقلوعَي الأضراس، والمشقوقَي اللسان، والمقطوعين عن جمجمة الرأس المثقوبة بالخواء المتعرش على الرخاوة المستندة إلى الكسل والونَى والفشل.
وتتجول المحنة القديمة الجديدة ما بين بغداد والجزائر إلى لندن وتونس فاذا بها سفينة حب تختلس سويعات الهناء بعيدا عن الرقيب، فيتشرب العمر أُنْسَه المضيء من أنامل الشعر وربيع من الزنبق والياسمين ومن أصدقاء الطفولة واليفاعة والشباب. وهكذا يتّكئ الشاعر على وتر الحب، ما بين غمضة عين سهرى ودمعة حرّى، ونفثة سكرى بقيم اليأس تتراءى وتترى، في قصيدته الرائية المنشور منها ستون بيتا بدأت في لندن واكتملت في شواطئ سوسة في تونس.
تبدا ببشرى اللقاء، بمن أسرته بالحب فصار أسير شوقه إليها، ثم اللقاء على شواطئ بحر، في مواجهة جدب الحياة:
قَرُبَ الوعدُ واسْتفاقَ السرورُ
إنّها آسري وإني الأسيرُ
واشتياقٌ إلى بُثَينَ تجلّى
إذ تناداني حبّها المسحورُ
والتقينا على شواطئ بحرِ
فاستنارتْ شواطئٌ وبُحورُ
مُذ أهلّت بُثينُ تسري الهُوَيْنَى
كبُدورٍ وأين منها البدورُ
وأضاء ابتسامُها كنجومٍ
فالمساءُ البهيُّ سَعْدٌ ونورُ
أسْكرتنِي برُضابٍ من لُماها
من هواها بلُماها أستجيرُ
ما أرق هذه الصورة، أناقة الحب التي تستجير من الهوى بالهوى ثم تحدي الموج إلى سفينة الحب:
ورأينا على المياه سفينا
قلت يا بُثْنُ هل إليها عُبورُ؟
وسَبَحْنا نعابث الموجَ مرحى
فمياهٌ تعلو وأخرى تَغورُ
فوصلنا والبدرُ يشرق نورا
إنّما البدرُ شأنُهُ التنويرُ
وارتقينا ظهر السَّفينِ ذراعًا
بذراعٍ وقد حوانا الحُبورُ
…….
ثم عُدنا وهَوانا لنا يحدو
يُبدعُ الشعرَ حبُّنا والشعورُ
في قصيد من الرحيق المصفّى
قد تحاماه أخطلٌ وجريرُ
ونستبين من خواتيم القصيدة أن الشاعر يسمو من علاقة التوازي والتضاد، إلى الآفاق المنفسحة على امتداد الزمان، منطلقا من طبيعة الحب للإنسانية المتوشجة بالحرية والعدالة:
وحّدوا الدَّربَ فالزّمانُ عسيرٌ
قد تَوَلاّهُ مُنْكَرٌ ونَكيرُ
وخُذوا الحبَّ والعلومَ بصبر
لا عدوّ يطولكم أو يُغيرُ
وإذا رامت الشعوبُ طموحا
رسم الدّهرُ مجدَها والعصورُ
فعبر أمواج البحر يتسكّع الحب في صحوة الشمس وضحوة النهار وسمر الليل يفتّش عن أُفق وحمامة، عن صقر يبحث عن يمامة، عن سيف يغازل الوردة، وعن وردة تغازل السيف.. أو عنهما وهما يتغازلان في إغفاءة شجرة الصفصاف والنارنج والليمون وأغصان الزيتون وغبش الضباب والفجر المطلّ على نهار جديد.. جديد.. في رحلة عبر الفكر، وعبر تضاريس الانتماء، يبحث عن شيء، قد لا يبين بوضوح ما بحث عنه المنتمون وكشفوه، ولكنه، شيء يرتبط بالحب، أم ترى انّ شاعرنا يبحث عن خرافات وأساطير دوّنها الانسان في مخزونه الفكريّ، ليستعين بها على تنظيم معجماته اللغوية، وسنّ قوانين تبيح له الاستمرار في لعبة الاقوياء المتصّفين بالقسوة والعنف والظلم مِمّن جرّد عليهم الدكتور هادي يراعة قلمه ونبضات قلبه، وبخاصة أنّه يعتبر القصيدة رحلة عذاب؟!
—-