هناك مثلٌ روسيٌّ يقول: (الغراب المسنّ لا ينّعب خطأً) !
وحتى لو أحسنّا الظنّ بالغراب، فإنَّ بعض الحوادث كنعيب الغراب في التراث الشعبي ، تعطيك مؤشراً واضحاً على أنَّ شيئاً سيّئاً سوف يحصل ، وأنَّ الانهيارات الكبيرة ،هي نتيجة انهياراتٍ صغيرةٍ كثيرةٍ .
إلتقيتُ أحد المسؤولين الإعلاميين في مديرية المرور ضحى يوم الأحد الموافق ٢٠٠٣/٩/١٤ م في غرفة القسم الثقافي في جريدة (التآخي).
كان برتبة (عميد) في الشرطة ، وهوعنصرٌ أساسيٌّ في إعداد برنامج تلفزيوني ناجحٍ عن (المرور) يُبث كل جمعة من تلفزيون العراق الذي عمل به منذ سنة ١٩٧٦.
و لأنَّ الحديث ذو مرورٍ، وسياراتٍ ، سألته عن جهودهم لإسترجاع سيارة الناقد حسب الله يحيى الكرونا البيضاء موديل سنة ١٩٨٠ م (لاحظ تشابه اسم السيارة مع جائحة كورونا !) التي جرى تسليبها في أثناء إيقافها قرب سوق في بغداد الجديدة في حادثةٍ سبق أن نوَّهتُ عنها في مقالٍ سابقٍ ، أجابني : لا تُصدّق أن شرطة المرور تكتشف سرقةً ، أو تلقي القبض على سارقٍ إلا بالمصادفة.
أضاف : إنَّ الشخص الذي تُسرق سيارته ، ليس أمامه من سبيلٍ سوى متابعة قضيته بنفسه ، ( ماحك جلدك مثل ظفرك) ، فإذا وجد سيارته المسروقة بحوزة شخصٍ آخر، فعليه ـ إن تمكن ـ أن يأخذها منه !
قال هذا الكلام حين قصّ عليه مَنْ سُلبت منه السيارة حكاية المطاردة الفاشلة التي قام بها بعد أيامٍ من سرقتها في أحد شوارع بغداد.. قال أزل حسب الله : كان السير بطيئاً حين لمحتُ سيارتنا المسروقة يقودها رجلٌ في الثلاثين من العمر فطلبتُ من السائق الأجير أن يسرع للحاق بالسائق الثلاثيني(يذكرني بالعدوان الثلاثيني !) ، فما أصعب أن ترى حقّك السليب في يد الغير، ولكنَّ السائق المطارد ما أن رآنا نتبعه ، حتى اضطرب اضطراباً شديداً ، واستنفد كلّ طاقته للهرب بأقصى سرعةٍ ، فكانت مطاردتنا له تشبه المطاردات في أفلام الأكشن، لكنَّها لم تزدنا إلا مشقةً، وحسرةً ، وفي النهاية أفلت السائق، أو تلاشى حسب الجملة الشهيرة في فلم (الرسالة) !
علَّق عميد المرور قائلاً: أرجّحُ أن يكون هذا السائق الذي فرَّ منكم ليس السارق الحقيقي ، وإنّما هو حائزٌ جديدٌ للسيارة المسروقة إشتراها من أحد السرّاق !
وفيما يشبه رمي شخصٍ غافلٍ بكتلةٍ من الثلج أضاف السيد العميد : إنَّ سيارتي (الأولدز موبيل) التابعة لمديرية المرور، سُرقت من سائقي من دون أن نستطيع العثور عليها !
وعلى طريقة بعض القنوات الفضائية التي تتفنّن في تنمية الخبر الصغير بالعودة إلى الماضي، واضافة أفعال مثل (يذكر)، أو ( تجدر الإشارة ) أقول : يُذكر أن سيارة الناقد حسب الله يحيى ( الكرونا البيضاء ـ موديل ١٩٨٠ م) قد جرى تسليبها وضح النهار ضحى يوم الثلاثاء الموافق ٢٠٠٣/٧/٢٩ م في أثناء توقف إبنه (أزل حسب الله الجبوري) ، ومنتسبين إثنين من منتسبي جريدة (التآخي) قرب الأسواق لشراء بعض المواد الكهربائية ، وإذا بعصابةٍ محترفة تشبه عصابة (أبو جحيل) في مسلسل (ذئاب الليل) تفتح باب السيارة بأقل من دقيقةٌ، وتشغّلها ، وتهرب بها.
وقد إستقبل الناقد حسب الله يحيى وقتها خبر السرقة بهدوءٍ ، ولم يعلّق بشيءٍ ، مع أن سيارته، كما يقال يده، ورجله، علماً أن ثمنها يقدر بثلاثة ملايين دينار عراقي ( ١٥٠٠ دولار أمريكي حسب سعر الصرف وقتها )
ومما زاد الطين بلةً ، أنَّ أحد رجال المخابرات السابقين في النظام السابق أوصل رسالة تهديدٍ إلى يحيى بأن يكفّ عن مهاجمة البعثيين ،وأزلام النظام البائد في مقالاته ، وغلَّف مرارة التهديد بحلاوة النصيحة ، وبوصفه صديقه ، ومن أهل الموصل ـ مدينة يحيى ـ وختم كلامه بالقول : إنَّ دمه هدرٌ !
الكاتب،والمناضل محمد الملا عبد الكريم المدرس( ١٩٣١ م ـ ٢٠١٧ م) أبدى تشاؤمه من عودة البعثيين ، وذلك يوم الأحد الموافق ٢٠٠٤/٥/٣٠ م في الغرفة نفسها التي استقبلت بها المسؤول الإعلامي في مديرية المرور .
المدرس يعتقد أنَّ البعثيين قد يعودون من دون البعث ، وقد يعود البعث من دون البعثيين ، كذلك قد يعود صدام بنسخةٍ أخرى ! ( هل هذه حزورة ؟) .
فيما يتّصل بالموضوع، وفي يوم السبت الموافق ٢٠٠٣/٨/٢ م ( بعد ثلاثة عشر عاماً من غزو دولة الكويت) بثّت قناة الجزيرة الفضائية شريطاً صوتيّاً منسوباً للرئيس المخلوع، توحي لهجته الواثقة بأنَّه مازال يمارس صلاحياته كرئيسٍ لجمهورية العراق، يقول فيه : إنَّه قرّر إعتبار كلّ سيارة حكومية يستخدمها موظفو الدولة هديةً لهم، ويستثنى من ذلك رئيس الجمهورية ، ونائبه ، وأعضاء مجلس قيادة الثورة !
برغم كلّ قسوة النظام المبيد، والبائد لم تفلح قراراته في الحدّ من ظاهرة تسليب السيارات، أو الأفراد، وكان الراكب ، والسائق يتبادلان نظرات الريبة من خلال المرآة ، ويحاول كل منهما أن يقرأ ما يجول بذهن الآخر.
لكنَّ أهم سرقة يصعب استردادها:هي سرقة الثقة من النفوس ، ويخطئ من يظن أنَّ ظاهرة التسليب ، أو النهب، أو (الحوسمة) برزت بعد سنة ٢٠٠٣ م إنَّما هي موجودة منذ سنوات حكم الدولة العثمانية، ومايسمّى بالفرهود خاصةً أيام الأعياد ، ثمَّ فرهدة اليهود في الأربعينيات، وفرهدة إيران في الثمانينيات، وفرهدة الكويت في التسعينيات، وفرهود الحواسم في بدء الألفية الثالثة بعد الميلاد الذي صارت فيه الشخصية العراقية توصم بـ(علي بابا) !
ولابدَّ من ذكر مثلٍ شاع في سنوات الحصار في التسعينيات، وهو (انضربت بوري) للدلالة على وقوع الضحية ، وهو مأخوذٌ من تعمّد بعض الفلاحين بيع بضاعته الفاسدة من خلال وضع أنبوبٍ عريضٍ وسط كل صندوق ، أو كيس ، ثمَّ يملأونه بالفاكهة الرديئة ، أو المنتوج القديم ثمَّ يضعون حوله المحاصيل الزراعية الجيدة ، ويسحبون الأنبوب لتكون البضاعة الجيدة فوق الرديئة ، ويسوقونها ، وحين تصل إلى المشتري بالجملة ،ويكتشف الخدعة يصيح: (انضربت بوري )!!
للدكتور قاسم حسين صالح ، رأيٌّ وجيهٌ أورده في مقالٍ نشر في جريدة (المدى) يوم الخميس الموافق ٢٠١٣/٩/٥ م لخَّص فيه أسباب ظاهرة الفساد في العراق، وهو يرى أنَّها بدأت في الثمانينيات برشاوى الضباط لإبقاء الجنود في وحداتٍ معينةٍ، أو لاعطائهم إجازاتٍ، ثمَّ تطوّرت المسألة بعد سنة ٢٠٠٣م بالحواسم ، والنهب العام، ثمَّ (النوادم) وهم الذين لم يشتركوا في النهب ، وندموا ، ولم يجدوا رادعاً ، وكانوا متردّدين ، فصاروا من الحواسم في ما بعد !
ويستعمل الدكتور صالح مصطلح ( تعطيل الضمير) في هذه المرحلة ، ويرى أنَّه بظهور الكتل، والأحزاب التي تحمي الفاسدين ضمن سيكولوجية (الاحتماء) انتشر الفساد الذي لاتنفع معه دروسٌ أخلاقيةٌ، ولا سنّ قوانين ، ويستشهد بالتجربة السنغافورية في مكافحة الفساد بوصفها الدولة الأولى في خلوها من الفساد التي اعتمدت ستراتيجية فضح الفاسدين ، والتصدي لهم وفق آليات تستلزم صبراً ووقتاً طويلين.
إذن ماذا نتوقع من واقعٍ صحفي في بلدٍ فيه مثل هذه التناقضات ؟ وماهي انعكاسات ذلك على مهنةٍ مخترقةٍ يكثر فيها الوصوليون، والانتهازيون مثل مهنة الصحافة ، خاصةً أنَّ هناك صنفاً من البشر لا تتوفر عنده موهبةٌ سوى موهبة اقتناص الفرص ، والحصول على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المكاسب ، والامتيازات من دون تقديم شيءٍ ؟
هناك من يرى في مهنة الصحافة أنَّها مهنة من لا مهنة له، لكن الصحافة الحقيقية تحتاج من ممتهنها إلى مهاراتٍ قد لا تتوفر في مهنةٍ أخرى فهي تحتاج إلى تحصيلٍ دراسي جيدٍ في تخصص علمي أو أدبي مفيد ، وإلى ثقافةٍ عامةٍ في ميادين الفكر والادب ، والأهم من ذلك تتطلب مواصفات شخصية مثل حب المعرفة ، والفضول أحياناً ، والقلق المعرفي ، ودقة النظر، وشيء من الفراسة مع الصبر والاستعداد للتضحية بالوقت، والجهد ، والمال.
قد ينجح الغبي الذي يعمل في الصحافة وقد يصل الوصولي إلى أماكن، ومناصب لا يستطيع الصحفي الحقيقي أن يصل إليها لكنَّه مهما حصل على مكاسب ، ومغانم ، فإنَّه يظل يشعر بالحقارة ، والدناءة في نفسه، ويعرف بحسه الوصولي أنَّ هؤلاء الذين يقدرونه ، ويحترمونه إنّما يقدرونه قياساً إلى وضعه الحالي ، أمّا حين يجرَّد من ورقة توته التزلفيّة، فإنَّ حاله لا يختلف عن أيّ شخصٍ من فئة الحواسم ، أو النوادم !
ولعلَّ في هذا بعض الجزاء الدنيوي ، وفيه شيءٌ من العزاء لنا مقابل خسائرنا الكثيرة في (ماراثون) الصحافة التي يصفها بعضهم بأنَّها تورث المجد الزائف !
يحلو لي أحياناً وصف مهنتنا بأنها مهنة الحنظل ، والعسل
نتذوق الكثير من حنظل العمل ، والصد ، والجفاء ، والمشقة اللذيذة ، وتحمل ما لا يطاق ، وما لا يُتحمل ، من أجل عسلٍ قليلٍ قد يكون مغشوشاً في كثيرٍ من الأحيان !!
(السيرةُ مستمرةٌ ، شكراً لمن صبر معي .. يتبع)
شروح صور
١. الواقفون من اليمين إلى اليسار : عبد الحاج حمود الكناني ، علي جبار عطية ،عبد الحسين رشم
الجالسون : إبراهيم الفلاحي ، عقيل محمد مكي ، محسن حسين عناد في جريدة (العراق) منتصف التسعينيات.