هناك مثلٌ عربيٌّ يقول: ( رحنا بهم شتماً، وراحوا بالإبل) يُضرب لمن لا حيلة له حين يؤخذ حقه الا بالشتم، وأصل المثل :(أوْسَعْتُهُمْ سَبّاً وَأَوْدَوْا بالإبل) كما ورد في كتاب (مجمع الأمثال) للميداني، وقصته أنَّ رَجُلاً من العرب سُرقت إبله ، فلما ذهب السراق، صَعِدَ تلاً وجعل يشتمهم، فلما رجعَ إلى قومه سألوه عن الإبل فَقَالَ :(أوْسَعْتُهُمْ سَبّاً وَأَوْدَوْا بالإبل).
حين يصدر أمرٌ إداريٌّ بعقوبة قطع الراتب يكون وقعها على رأس المصحّح كالصاعقة لأنَّه يجاهد من أجل تحسين دخله، فتأتي العقوبة لتشاركه رغيفه، وتأكل من رزقه، ولعلمه بلا جدوى الاعتراض، لأنَّ قطع الراتب ماضٍ، وأنَّ العقوبة لن تُلغى بأي حالٍ من الأحوال؛ فرئيس التحريرلا يتراجع عن قراراته، ولو كانت خاطئةً، فتكون ردة فعل الشخص المعاقَب أمّا أن يتجرع الألم، ويصبر، وأمّا أن ينهال بالسب والشتم على رئيس التحرير، أو يلعن مهنة التصحّيح !
كنا نعمل في جريدة (العراق) بنظام الوجبات فالوجبة الصباحية يبدأ دوامها من الساعة الثامنة صباحاً، وحتى الساعة الثانية بعد الظهر، ثمَّ تتلوها الوجبة الوسطية التي تنتهي في الساعة الثامنة مساء، وتتداخل معها وجبةٌ يبدأ دوامها الساعة الخامسة مساء، وحتى الساعة العاشرة مساء، وهناك وجبةٌ أخيرةٌ تبدأ من الساعة الثامنة مساء، وحتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وفي الحالات الاعتيادية ينتهي العمل في منتصف الليل بعد إلاشعار الذي يأتي من وكالة الأنباء العراقية (واع) بختام البث.
أما في الحالات غير الاعتيادية، وحين تنفتح شهية القائد الضرورة، أو نجله عدي فمن الممكن أن يمتد العمل حتى مطلع الفجر، كما حصل في بعض الليالي حين اضطر المصمم علي عباس (أبو ألحان) إلى تغيير ماكيت الجريدة كلها، وحجم الحروف لاستيعاب حديث القائد الذي طغى على كل صفحات الجريدة !
جربّتُ الدوام في ثلاث وجبات، وهي وجبات الثانية بعد الظهر، والخامسة مساءً، والثامنة مساءً، واستقر بي المقام في الوجبة الأخيرة أي وجبة الساعة الثامنة مساء.
كنتُ محظوظاً في عملي بهذه الوجبة مع شخصيةٍ رائعةٍ هو الصحفي جاسم محمد سالم (أبو سرمد)، سكرتير التحرير، ومسؤول الصفحة الأولى.
يتعامل مع الأخبار، والنشاطات الطارئة بهدوءٍ وحكمةٍ، وعنّده حلٌ لكل مشكلةٍ، ويتغلب على ازعاجات العمل بضحكته الطويلة المتصلة الساخرة !
كان وجوده بيننا ضرورياً، ويشكل مع مدير القسم الفني علي عباس ثنائياً جميلاً يبددان بقفشاتهما جو القتامة الذي كنّا نعيشه يومياً.
كان جاسم محمد سالم صحفياً محترفاً تعلمتُ منه مهارة اختزال العناوين، ومما يذكر أنَّ عنواناً له حقق فيه ضربةً صحفيةً عند سقوط الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو في ١٩٨٩/١٢/٢٥م قبل احتفاله بميلاده الواحد والسبعين، بعد أن حكم رومانيا ٢٤ سنة، وقد أعدمه الجيش ـ الذي أيد الانتفاضة الشعبية ـ مع زوجته (إلينا) رمياً بالرصاص أمام أنظار المصورين بعد ساعتين من محاكمته بتهم ارتكاب جرائم ضد الدولة، والإبادة الجماعية وتدمير الاقتصاد الروماني.
جازفَ جاسم محمد سالم فوضع عنواناً رئيساً في الصفحة الأولى من جريدة (العراق) في اليوم التالي وبخطٍ عريضٍ هو (سقوط الإمبراطورية الرومانية)! وهو عنوان لافت جداً استعاره من الفلم الشهير (سقوط الإمبراطورية الرومانية) للمخرج أنطوني مان الذي أُنتج عام ١٩٦٤ م ومثله نجوم السينما العالمية ومنهم :ستيفن بويد، وصوفيا لورين وأليك جينيس ومير فيرير وعمر الشريف، وقد أشرف على الفلم المؤرخ المعروف (ويل ديورانت) صاحب كتابي (قصة الحضارة)، و(قصة الفلسفة)، وقد عدَّ الفلم من روائع السينما الكلاسيكية.
والأهم في عنوان جاسم محمد سالم هو أنَّ فيه
إسقاطاً على النظام الدكتاتوري!
كان أبو سرمد كريماً فيتعمد أخذنا إلى معمل البسكويت الذي يمتلكه في منطقة جميلة فيزودنا بالبسكويت طوال سنوات الحصار مع الفاكهة التي كان يشتريها لعائلته !
وكان بيته في منطقة الغزالية ببغداد مأوىً لنا في الليالي الحالكة حين تتعطل السيارة في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل في الطريق إلى منطقة الغزالية، فيضيّفنا حتى ينتهي السائق من تصليح السيارة.
كان المسؤول الأمني عن الجريدة ضابطاً كبيراً في منظومة الأمن هو العقيد عبد العزيز الراوي، وهو مدير الشعبة الخامسة في مديرية الأمن العامة، وكان يكتب عموداً أسبوعياً خفيفاً لطيفاً عنوانه (بالمقلوب) يتناول فيه بسخريةٍ بعض الظواهر السلبية، وأذكر نموذجاً لهذه الانتقادات حين انتقد خطيباً من خطباء يوم الجمعة شنَّ هجوماً على النساء، ولم يكن سبب الانتقاد هجومه هذا، ولكنّه كان يكرر الكلمات تكراراً مملاً فمثلاً يقول : النساء النساء النساء.. وهكذا، وبحذف تكرارات الخطيب لن يبقى من خطبته سوى جملٍ قصيرةٍ !
وفي الغالب يزور الراوي الجريدة بشكل شبه يومي بعد الساعة الثامنة مساءً، وحين يدخل إلى قسم التصحيح يبحث عن سجادةٍ ليؤدي عليها صلاة العشاء !
حين أعطيته سجادتي أول مرةٍ وعدني بإهداء القسم سجادةً جديدةً، تسلمتها منه في اليوم التالي من دون أن أخشى وجود لاقطةٍ فيها تلتقط أحاديثنا المتنوعة !
وبمناسبة الحديث عن سجادة الصلاة فقد اعتاد الحجاج والمعتمرون، وزوار العتبات المقدسة على إهداء مَنْ يزورهم سجادةً للصلاة، وغطاء للرأس، مع عينةٍ من ماء زمزم، وإذا كان الشخص اجتماعياً وله عددٌ من الأصدقاء والجيران من الحجاج والمعتمرين، والزائرين فانَّ حصيلته ستكون وافرة من السجادات، والهدايا التذكارية إلى درجة أن الشاعر عبد العال مأمون قال لي يوماً بعد موسم وفير
للحج : إنَّ لديه في بيته عدداً كثيراً من سجادات الصلاة، صينية المنشأ، تكفي لإقامة معرض لأنواع السجادات !!
الحديث عن الشاعر عبد العال مأمون ذو شجون فقد عرفته مطلع الثمانينيات شاباً مثقفاً مرحاً، ذا تعليقات لاذعة، ثمَّ نضجت تجربته الشعرية في التسعينيات، وفاجأني بمجموعته الشعرية التي تفيض عذوبةً : ( تأخرتِ فاستوحش الياسمين) منتصف التسعينيات، فلم أتأخر في الكتابة عنها في صفحة (النافذة الثقافية) لجريدة العراق، وحين تسلم مسؤولية إدارة جريدة (الاتجاه الثقافي) رئيساً لتحريرها سنة ٢٠٠٩م ناضل لتكون الجريدة المركزية لوزارة الثقافة سنة ٢٠٠٩م، وشهدت الجريدة في زمنه قمة توهجها حتى تقاعده سنة ٢٠١٦م
تعلمتُ من الشاعر،والصحفي والإنسان عبد العال مأمون أنَّ الموقف الإنساني أعلى قيمةً من المادة الصحفية، وأنَّ المرونة مطلوبةٌ في معالجة مشكلات العمل، وأنَّ البساطة في السلوك مع الناس، ومساعدتهم هي الرصيد الحقيقي للإنسان مهما كان موقعه الوظيفي أو الاجتماعي.
كان العقيد عبد العزيز الراوي يعاملنا بلطفٍ لكنَّه يختلي بالزميل أحمد العبيدي، ويظلان يتناجيان مدةً تثير التساؤلات !
لم نكن نعرف طبيعة هذه المناجاة إلا أنَّ علاقتهما ظلت مشوبةً بالريبة؛ لأنَّ الزميل أحمد العبيدي كان شيوعياً سابقاً، وقد فرَّ بنفسه بعد الانقلاب الدموي في الثامن من شباط سنة ١٩٦٣م، وحكى لي يوماً قصته في الهرب وقطع الصحراء مشياً على الأقدام، حتى كاد أن يهلك، فأنقذه رجلٌ بدويٌ آواه في خيمته، وزعم أنَّ الماء شحيحٌ عندهم، فلم يعطه سوى جرعة ماء، وبعد ساعتين سمح له بشرب الكمية التي يحتاجها مع الطعام الكثير فلما سأله العبيدي عن ذلك أجابه : لقد تعلمنا في الصحراء أنَّ من كان ظمآن، ويشرب الماء دفعةً واحدة فإنه يصاب بالعمى !
هذه المعلومة أفادتني في إفطار شهر رمضان، خاصةً في أيام الحر فلا أُسرف في شرب الماء عند الإفطار إلا بعد مدةٍ مناسبةٍ ، بل حتى خارج شهر رمضان عند الظمأ الشديد التزم بهذه النصيحة !
نجح أحمد العبيدي في السفر إلى إيران ثمَّ إلى روسيا، وقد عاد إلى العراق سنة ١٩٨٦م، معلناً توبته، عائداً إلى الصف الوطني !
من أساليب الملاحقة الأمنية أن التائب من الحزب المحظور يؤخذ منه تعهد بأن يكون وكيلاً أمنياً في محل عمله، وقد فُسرت علاقة الراوي بالعبيدي بهذا الإطار فالأخير مسؤول عنّا أمام الراوي !
كانت جريدة (العراق) مكاناً غير آمنٍ للأحاديث ذات الطبيعة الانتقادية لوجود كاميرات المراقبة في جميع الأقسام والغرف كما أن الحكايات متوفرة بسخاء أينما يخطو المرء، ويمكن الإصغاء إلى أي حديث يدور بين شخصين أو أكثر بوضوح، وكان هذا الأمر مثار رعبٍ دائمٍ لنا !
حدثني الكثير من الزملاء عن حكايات حصلت معهم جراء ما يترتب على الإنصات إلى أحاديثهم حتى تأكد لي ذلك في أحد المساءات حين كنتُ استذكر مع القاص عبد الستار البيضاني روايةً عراقيةً لكاتب مغمور يعيش في مصر تتحدث عن بائع للموت يزور مدينةً، ويوزع على الراغبين أدوات يتخلصون فيها من حياتهم كالحبل والشفرة والطلقة !
كنتُ مسترسلاً في الحديث مع البيضاني مسؤول النافذة الثقافية، وهو يرجح أن اسم كاتب الرواية ليس حقيقياً بل يمكن أن يكون مستعاراً، ولما انتبهتُ إلى تجاوزي الخطوط الحمر سارعت إلى وضع مجموعة من الكتب على سطح الحاكية التي هي جزء من الهاتف الداخلي.
ما هي إلا دقيقة حتى جاء إلينا راكضاً أحد عمال الخدمات المصريين ويدعى (سامي)، واقتحم غرفتنا مسرعاً، ومن دون كلام نحو الهاتف المغطى بالكتب، ثمَّ خرج ليبلغ رئيس التحرير بما صنعنا فكان وجه البيضاني مملوءاً بالدهشة والرعب !!
من هنا فلا نستغرب من إطلاق رئيس التحرير وصف (المتآمرين) على مجموعةٍ منا ـ كما نُقل لنا ـ بناءً على معرفته بطبيعة أحاديثنا أولاً بأول عن طريق التجسس !
عشتُ مع (المتآمرين) سنوات الحنظل، ولابدَّ من ذكرهم.
أول هؤلاء هو اللغوي صلاح شهاب (أبو طموح) الذي تعرفتُ إليه منذ أول يوم عمل لي في الجريدة، واكب الجريدة من أول صدورها سنة ١٩٧٦م، ويعرف كل خباياها، وكان يندد بصراحة بالقرارات الإدارية الظالمة، وبالدكتاتورية العامة والخاصة، ولا يخشى شيئاً.
كان محبطاً من الأوضاع السياسية والاقتصادية ولا يفرح لأيّ تطور إيجابي على الصعيد الشخصي أو العام.
انضمَّ إلينا الباحث عبد الحاج حمود الكناني الذي كان يعمل نهاراً في مركز التخطيط الحضري والإقليمي، وكذلك في تحرير مجلة (الرواد).
أما الصحفي صاحب القلم الرشيق عبد الكاظم جاسم الطائي فقد جاءنا هديةً من مجلة ألف باء إذ يعمل هناك رئيس محررين على الأخبار المحلية، ثمَّ تحول إلى القسم الرياضي ليصبح اسمه كاظم الطائي !
وقد نقل الطائي سبب تحوله من صفحات الأخبار المحلية إلى صفحات الرياضة إلى صديق العمر الباحث عبد الكناني بأنَّه رأى في المنام رؤيا لأحد الصالحين يأمره بالانتقال من طابور إلى طابور لينجح في حياته، وهذا ما حصل !
ومع حرفيته الصحفية، واجادته الكتابة في كل حقول الصحافة فأنَّ عمل الطائي في الجريدة هو تدقيق الصفحتين الأولى والثانية، وهو يمارسه، بكل تفانٍ رغبةً منه بتحسين دخله لسبع سنوات عجافٍ.
كنتُ أراه غافياً على الصفحة كعصفورةٍ تحتضن صغارها !
مع كل تفانيه فإنه لم ينج من عقوبات قطع الراتب !
كم سعدنا بانضمام شخصٍ في غاية التهذيب والخلق الرفيع إلى قسمنا هو اللغوي عبد الحسين رشم الذي كان يعمل نهاراً مديراً لمدرسة (النيرات الابتدائية)، وفي الليل هو معنا.
كان كثير الصمت، وكثير العمل.
أما فاكهة القسم فهو الشاعر محمد رحيمة الطائي الذي يتغلب على أعسر المشكلات بالنكتة.
هو شاعرٌ شعبيٌّ عاشقٌ باستمرار، كان بيته في منطقة الأعظمية مقراً لجمعية الشعراء الشعبيين، ومضيفاً لنا طالما ضيَّفنا بمناسباتٍ مختلفةٍ بكرمٍ مبالغٍ فيه كأيّ طائيّ عتيدٍ !
عاصرنا القاص سعدي عوض الزيدي الذي كان يُدرّس اللغة العربية نهاراً، ويواصل مسيرته معنا في التصحيح ليلاً، وطوال وجوده معنا لم يتسلم أجوره في نهاية الشهر كاملاً إذ غالباً ما يقطعون منه ساعات تأخيره، أو العقوبات المتكررة بسبب الأخطاء الطباعية، لذا ترك الجريدة مرغماً برغم حاجته الشديدة للمال !
اكتمل عدد المتآمرين بانضمام الناقد بشير حاجم إلى الوجبة الليلية، وكانت إمكاناته وتصويباته أعلى من مستوى الكتاب الذين يصحح لهم.
ثقافته العالية،وشجاعته، وآراؤه الصريحة لم تسبب له المشكلات، لكنَّ تحوله من الاتجاه العلماني إلى التيار الديني جعله يخرج في تظاهرةٍ في منطقة الشعلة غربي بغداد احتجاجاً على اغتيال السيد محمّد محمّد صادق الصدر
(١٩٤٣م ـ١٩٩٩) في ١٩٩٩/٢/١٩ وكلفته تلك التظاهرة أن يُحكم بالسجن اثنتي عشرة سنة في سجن الأحكام الخاصة في سجن أبو غريب منذ سنة ١٩٩٩م، وحتى يوم ٢٠٠٣/٤/١٤ م أي بعد سقوط بغداد بخمسة أيام !
(السيرة مستمرةٌ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع)