23 ديسمبر، 2024 10:55 ص

كم يلزمنا من العقلِ كي نصنعَ الحياة؟ التفاهةُ في السؤال تشي بابتعادنا عن الحياة، إلا ما تقتضيه سنن البيولوجيا. فثمة فرق كبير بين أن نعيش الحياة وأن ننزفها، أو نعيشها غرائزيّاً، مستسلمين لمنطق خلايانا الصارم الذي ينتصر للحياة بقوّة.
  نقرُّ في مجالسنا، حين يكون السيّد المهيمن هو “الكلام”، أن آن الأوان لننتصر للحياة، وأن ما يفعله الكثير منّا خطأ جسيم، ويأخذنا “الكلام” الذي نُعجب بتنميقه وببلاغته وعدد الكلمات التي لا نعرف معناها فيه، ونندهشُ لأننا محاطون بهذا العدد الوافر من المتفقين معنا “كلاميّاً” على شيء في زمن التشظي والفرقة، لكن الدهشة تزايلنا عند أول خلاف “عمليّ”.
   نتكلّمُ، ونعلّمُ أطفالنا ترديدَ ما نقول من كلمات قدسيّة، نحشوها كل ما تيقّنا من تبدّده وضياعه عمليّاً، من قبيل حبّ الوطن والناس، واحترام القانون والسنن التي لا غنى للحياة عنها، ثم لا يرفُّ لنا جفن حين يلقي أطفالنا القبض علينا متلبسين بخلافها.
     أما ما يثملنا من كلام فهو ذاك الذي يعرفه الجميع ويطرب له، الخاص بعقد مقارنة بين شكل الحياة هنا، والحياة في أي بلد آخر، لاسيما ايران التي يعود الناس منها وكأنهم عائدون من زيارة قصيرة للجنة. نتفق على أن ما “هناك” جميل وصحيح كلاميّاً، ونختلف فيه عمليّاً.         
    نكثر من “الكلام” حتى لم نعد سوى ظاهرة صوتيّة، على حدّ وصف أحد الضالعين بفهمنا. نختزلُ الحياة به، فصارت حاجتنا إلى اللسان والشفتين أكثر من حاجتنا إلى الأذرع، وكأننا نؤمن أن الأرض يعمّرها عبادُ الله المتكلمين. فلم تعد بنا حاجة إلى أن نقرن الكلام بالعمل، امتثالاً لسطوة الكلام وتفضيلاً له وإعلاءً لشأنه.
        مهرجاناتنا، ندواتنا، لقاءاتنا، وجلُّ أنشطتنا، إن لم تكن كلّها، كلامٌ.. يشذُّ البعض منها فيحتاج إلى قليل من نشاط أذرعنا، لا لشيء إلا لتوضيح “الكلام” وزيادة بيانه ووقعه، كأن نبسطُ كفوفنا أمام وجوهنا حين نقرأ الفاتحة.
     شيوع “الكلام” بيننا لا يعني أننا أسياده، فمعظمه هذر وكذب وادعاء، حتى الشعر الذي نظنُ أننا أبطاله، ركبَ الموجة وانحازَ إلى إرضاء كسلنا حين اختار طائعاً ألاّ يثوّرُ فينا طاقة، ولا يستنهضُ إرادة، فغاصَ في اللّجيّ من الذات وأعرضَ عن حاكميّة الذائقة، فقال اتبعوني، بدلاً من أن يتّبعَ هو هاجسَ الحياة لدينا.
    ما تقرأه الآن، صديقي القارئ، “كلامٌ” لا يشذُّ كثيراً عن اتباعِ بني قومي في التكاسل والتراخي، لكنَّ ما يشفعُ له ولي محاولته وضعَ اليد على الجرح، ولو بـ”الكلام”!
[email protected]