23 ديسمبر، 2024 12:17 م

بازاروف – بطل رواية تورغينيف ( الاباء والبنون)

بازاروف – بطل رواية تورغينيف ( الاباء والبنون)

طلب احد الصحفيين الروس مرة من الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف ان يعطيه تعريفا للادب الروسي, فاجاب حمزاتوف قائلا – انه أدب ( الاباء والبنون) و ( الجريمة والعقاب ) و ( الحرب والسلم ). وهكذا تقف رواية تورغينيف ( الاباء والبنون) لحد الآن في طليعة هذا الادب ليس فقط من وجهة نظر حمزاتوف وحسب, وانما هي فعلا واحدة من شواهد الادب العالمي , لانها تتناول  الصراع الابدي والدائم بين الاجيال في المجتمعات الانسانية كافة.
بطل هذه الرواية التي صدرت عام 1862 هو – بازاروف ,والذي تتناوله مقالتنا هذه باعتباره ممثل الجيل الجديد , اي ال( بنون) في مسيرة الحياة والمجتمع, وهو الشخصية الرئيسة في رواية تورغينيف تلك , والتي يدور حولها الحديث في 26 فصلا من ال28 فصلا في الرواية.
 يشتق تورغينيف  لقب بطله من كلمة ( بازار), وهي مفردة فارسية الاصل دخلت الى اللغة الروسية من اللغة التتارية ومعناها ( السوق المغطى), والمعنى الثاني لها في الروسية هو – الصراخ او الضجيج او الهرج, ويرتبط هذا المعنى الثاني ايضا بالسوق الشرقي المعروف بضجيجه وحيويته , وتوجد تفاصيل كل هذه المعلومات اللغوية في قاموس التأثيل ( الايتمولوجي ) الروسي, والذي يتناول أصل الكلمات الروسية وتاريخ مسيرتها وتطورها , وعلى الرغم من ان هذا اللقب موجود باللغة الروسية , الا ان اختيار تورغينيف له واطلاقه على بطله يثير تساؤلات القارئ بلا شك, واذكر باني سألت احد اساتذتي في جامعة موسكو مرة حول ذلك , فاجابني بان النقد الادبي الروسي لم يتحدث عن ذلك , ولكن الموقف الفكري لتورغينيف الليبيرالي الغربي النزعة آنذاك يعني بانه لا يمكن ان يكون الى جانب بطله ومواقفه الفكرية , وبالتالي فمن الممكن انه اراد ان يعبر عن موقفه الفكري باطلاق هذا اللقب لبطله , ولكن التزام تورغينيف بالواقعية الفنية الموضوعية  جعلته يرسم بطله بهذا الشكل في روايته , والتي جعلت القارئ يتعاطف معه , وهكذا تراجع موضوع لقبه امام مسيرة اعماله ونشاطه في الرواية.
بازاروف نهلستي, وكلمة النهلستية دخلت الى اللغة الروسية من اللغات الاوربية , ومعناها العدمية, وعليه فان الشخص الذي يؤمن بتلك الافكار هو عدمي, اي انه يرفض كل المفاهيم المحيطة به, اذ ان النهلستية, او العدمية هي الايمان بالعدم, اي برفض كل المفاهيم السائدة في المجتمع, وهكذا فان بازاروف كان يرفض كل شئ في مجتمعه, وقد اصطدم بالطبع مع هذا المجتمع, ونتيجة لذلك فقد حاز على اعجاب كل الذين كانوا ايضا يرفضون مفاهيم مجتمعهم, اذ انهم لمسوا في افكاره تلك تعبيرا عن مكنونات كامنة في اعماقهم , ولكنهم كانوا لايستطيعون التعبير عنها لاسباب مختلفة , ومن بينهم بالطبع, القارئ العراقي, الذي استطاع ان يتعرف على هذه الرواية عام 1950 , عندما ترجمها د.اكرم فاضل عن الفرنسية مع الاديب العراقي المعروف ذو النون ايوب عن الانكليزية, وهو اول كتاب مترجم عن لغتين سوية يصدر في بغداد, ويعتبر اول ترجمة لهذه الرواية في العالم العربي حسب علمنا , وقد كانت ردود الفعل على هذه الرواية وبطلها بازاروف هائلة, لدرجة ان الرقابة العراقية آنذاك اعتبرتها عملا ثوريا يندرج ضمن ( الافكار الهدٌامة)كما كانت تسمى حينها, وبالتالي فقد منعتها في اواسط الخمسينات ,وهكذا دخل اسم تورغينيف الليبيرالي ضمن الادباء الثوريين اليساريين او حتى الماركسيين في العراق, رغم ان ماركس نفسه لم يكن موجودا في الساحة السياسية والفكرية عموما عندما كتب تورغينيف روايته تلك.
رواية (الاباء والبنون) لا تتميز باحداثها الكثيرة والمتشعبة,فهي تتحدث عن زيارة بازاروف وصديقه كيرسانوف الى ضيعة الاخيرلقضاء فترة العطلة, اذ انهما طالبان يدرسان في الجامعة, وهناك يتعرف بازاروف الى عائلة كيرسانوف ويبدأ النقاش بين الضيف وعم المضيف ويتبين عمق الاختلافات  وتباين الافكار بينهما,وتصل النقاشات تلك الى حد التصادم والقطيعة, وهكذا يعلن بازاروف انه لا يعترف بالفن والادب, ويقول ان الكيميائي اكثر فائدة ( بعشرين مرة) من اي شاعر, وان الفنان العالمي العملاق رافائيل ( لا يستحق قرشا نحاسيا ), وانه لا يعترف بالتمتع والنظر الى الطبيعة لانها ليست ( معبدا, وانما هي ورشة للعمل) ليس الا, ويعلن بازاروف عدم اعترافه بالعواطف الانسانية , بما فيها الحب, الذي ينظر اليه بشكل مادي بحت, ولكنه يقع هناك في حب آنا سيرغيفنا ادينتسوفا , ويغير هذا الحب مفاهيم النهلستية عنده , وهكذا يبدأ بالايمان بوجود الحب والعواطف, وينسى انه القائل ان تشريح العين لا يبين نظرات الوجد عند الانسان, ويتهاوى امام قوة النظرات وعاطفيتها مثل اي رومانسي عاشق, ويتصرف مثلهم بالكشف عن مكنونات قلبه دون ان يتذكر انه كان لا يعترف بالحب وكل العواطف المرتبطة به.
في نهاية الرواية يرجع بازاروف الى بيت والديه,وهناك يبدأ بالمساهمة في علاج المرضى ويجرح اصبعه ويصاب بتسمم الدم, وبالتالي يموت بسبب ذلك التسمم. وهكذا تنتهي الرواية.
لقد صاغ تورغينيف روايته بعبقرية مدهشة, اذ انه في الواقع كتب رواية فكرية بحتة في اطار ممتع وفني جميل, واستطاع ان يرسم صورة بازاروف بواقعية امينة وبعيدة عن الصور الكاريكاتورية , رغم ان الكاتب كان ضد افكار بطله, وعلى الرغم من ان تورغينيف سخر منه واقعيا عندما اسقطه في الحب وبالتالي بانت ملامحه الحقيقية, الا انه قام بذلك بكل وقار واحترام ومنطقية . لقد كتب تورغينيف عنه قائلا , بانه اراد ان يرسم شخصية تراجيدية ومعتمة ومتوحشة وكبيرة وقوية ونقية , وعلى الرغم من انها تقف على ابواب المستقبل , الا انها محكومة بالموت. وقد استطاع تورغينيف فعلا وبنجاح فني هائل ان يحقق هدفه هذا, اذ جعله يمر بتجربتين كبيرتين هما – الحب والموت. في تجربة الحب تنتصر العواطف الجياشة بشكل طبيعي ومتناغم ومنطقي وواقعي على نهلستيته ورفضه القاطع والمتطرف للحب , ويخرج بازاروف مغلوبا , اما في تجربة الموت, فقد حافظ بازاروف على بنية افكاره حتى النهاية, بل انه واجه الموت بشجاعة متناهية و برأس مرفوع ,وقد اعتبر النقاد موته موقفا قويا وتراجيديا في الرواية , وكما كتب احد النقاد قائلا , ان بازاروف كان يجب ان يموت هكذا كي يبقى بازاروف نفسه.
تناول النقد الادبي الروسي شخصية بازاروف منذ ظهور الرواية, وقد اكٌد النقاد على ان احداث الرواية جرت عام 1859 ( رغم ان الرواية ظهرت مطبوعة في احدى المجلات عام 1862 كما اشرنا اعلاه),وربط النقاد تاريخ احداثها بما حدث عام 1861, وهو العام الذي شهد حدثا كبيرا في تاريخ الامبراطورية الروسية , اذ اعلن القيصر الروسي الكساندر الثاني الغاء حق القنانة(العبودية) ,الذي كان سائدا طوال التاريخ الروسي بالنسبة للفلاحين,وتحدث النقاد ان شخصية بازاروف الروسية كانت تعني ان الاوضاع في روسيا قد نضجت للتغيير النوعي في مسيرة تطور تلك الدولة, واشار اخرون الى ان هذا البطل كان يجسد الصراع بين معسكرين في روسيا القرن التاسع عشر, معسكر يدعو الى الحفاظ على كل ما هو سائد في روسيا , وآخر يهدف الى تغيير كل البنية الاجتماعية والسياسية فيها, وهي فكرة محدودة في اطار روسيا القرن التاسع عشر ليس الا, وقد بينت الايام ان هذا الصراع مستمر في كل المجتمعات الانسانية, وفي هذه النقطة بالذات تكمن اهمية تورغينيف وخلود افكاره الانسانية اولا, وعظمة وخلود الفن وضرورته ثانيا.