إن ما حصل في العراق في واقع الأمر خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية هو توسع الحركات والأحزاب السياسية التي تبلورت وحصلت الكثير من الانتفاضات والتظاهرات ، تقدّمتها والتي غلبت عليها السياسة في طابعها، وكذلك شملت مفاصل أخرى تتعلّق بالهويّة، وتوزيع الدخل، والمجال العالم، وحريّة المرأة، والتصدي لثقافة السجون. وعلى الصعيد السياسي، هي تظاهرات لاستعادة السياسة التي احتكرها نظام الحكم الملكي لنفسه للأعوام السابقة والمطالبة بتغيير تلك القوانين لصالح حرية المواطن ؛ وفي هذا المفصل جرى تقنين المطالب ووضعها في قالب يسهل تحقيقه لصالح الحكومة و التي بدت صعبة التحقيق في البداية في اعطاء الحرية لجميع الأحزاب في المشارِكة السلطة من العمل في أي عمليّة سياسيّة ، فضلًا عن إسقاط الشرعية على بعض الأحزاب و تقصير العمليّة الانتخابية بقانون انتخابات بحسابات مهلهلة . و بفرض قوانين لا يضمن تمثيل جميع الفئات، ويسمح بوصول أفراد وأحزاب صغيرة إلى البرلمان لتمثيل فرضيات الحكم الملكي.ومن اهم الانتفاضات التي حدثت في بغداد هي عندما ، دخلت الملكية العراقية في مفاوضات سرية مع الحكومة البريطانية عام 1947. لم يتم إبلاغ الأطراف السياسية المختلفة في العراق بالمفاوضات وبدلاً من ذلك سُمع عنها في الراديو أو في الصحف في اليوم التالي ، على الرغم من أن اخبار المعاهدة أشعلت شرارة احتجاجات وثبة كانون، إلا أنه سرعان ما اتضح أن هناك عناصر من الاضطرابات تجاوزت معارضة المعاهدة . وكان من بين المشاركين في التظاهرات عمال وطلاب وفقراء المدن الذين يعيشون في ضواحي بغداد. نظمت الاحزاب العديد من الاحتجاجات لرفع الحدود الصارمة على الحريات من المجتمع العراقي، والفقر المنتشر في المراكز الحضرية، وساهمت كل هذه العوامل المتزايدة في أحداث يناير 1948 واشتعلت لهيبها اعدام فهد مؤسس الحزب الشيوعي ورفاقه، “وهو أول إعدام سياسي “. في تاريخ العراق بهدف إسقاط حكومة رئيس الوزراء سيد صالح جبر بعد توقيع معاهدة پورتسموث. و. من أهم شعارات تلك الأحزاب السياسية الرافضة للمعاهدة ( نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانه ) وهذه الاحزاب هي: حزب الاستقلال، الذي يمثل أهم حزب عربي قومي، كان يرأسه الشيخ محمد مهدي كبه، وهو عميد أسرة ‘بيت كبة’ الشيعية العريقة (علماً أن مساعده الأقرب، هو صديق شنشل، كان سنياً، وهذا دليل آخر على ان هذا الموضوع لم يكن مطروحا أصلا ً) – والحزب الوطني الديمقراطي، برئاسة كامل الجادرجي، وحزب الأحرار وحزب الشعب وبتنسيق من الحزب الشيوعي العراقي، وهي أحزاب فيها خليط من اليسار واليمين والشيعة والسنة والمسيحيين وبعض اليهود، على السواء، دون أن تكون قضية التفرقة الطائفية أو الدينية مطروحة أصلا. تلك الأحزاب وقفت ضد إبرام المعاهدة وضد الحكومة، ودعت الجماهير إلى التظاهر لإسقاطهما؛ سميت بانتفاضة الجياع كما يعرفها المؤرخون بأنها ثورة الجياع. إلا أن معظم التظاهرات كانت عفوية، أكثر من أن تكون منظمة وموجهة سلفا. فجميع المظاهرات التي اشتركت فيها، لم تكن فيها قيادات واضحة منظِمة، بل كانت شبه فوضى تتحكم بها الآراء الشخصية الآنية. وبدأت الانتفاضة بمظاهرات سلمية سرعان ما تحولت إلى معارك بين الشعب والحكومة، ومنها: واقعة الكلية الطبية، معركة كلية الهندسة، معركة الجسر، ومعركة باب المعظم. وحدث في أثنائها عصيان عام أغلقت خلاله جميع المرافق العامة والخاصة. وسقط في هذه التظاهرات المئات من الطلبة والمواطنين العاديين، بين قتيل وجريح، نتيجة استخدام الذخيرة الحية من جانب شرطة النظام، ومن بين الضحايا الذين نعرفهم: قيس الألوسي وشمران علوان وجعفر الجواهري.وأطلق الجواهري العظيم قصيدة التي يقول فيها:
أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ***بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً***وليس كآخَرَ يَسترحِمُ
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع***أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين***أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا
**********
او قصيدة يوم الشهيد الذي يقول فيها:
يومَ الشهيد تحيةُ وســــــــــــلامُ…..بكَ والنضال تؤرخُ الأعـوامُ
بكَ والضحايا الغُرٍ يزهو شامخاً….عِلمُ الحساب, وتفخرُ الأرقامُ
بكَ يبعثُ الجيلُ المحتًمُ بعثُــــــهُ… وبِكَ القيامةُ للطغاةُ تُقــــــــامُ
يومَ الشهيد:طريقُ كل مناضــــلٍ…وَعْرُ, ولا نُصُبُ ولا اعــلامُ
يومَ الشهيد: بك النُفوس تفتًحـــت.. وَعياًكما تَتَفتحُ الأكمــــــــــامُ
لقد طرحت قبل انتفاضة 1952 شعار إسقاط الملكية، بل كانت كل المطالب، رفض المعاهدة الجديدة والمطالبة بالغائها ، اسقاط حكومة صالح جبر التي وقعتها وحل مجلس النواب، جلاء القوات البريطانية عن العراق فورا، توفير لقمة العيش بأسعار معتدلة، تحقيق الحريات السياسية وإجازة الأحزاب والنقابات،وتطوير الاقتصاد الوطني ورفع البطالة والفقر ومن أجل التصنيع …إلخ أولاً، وإيقاف محاولات جرّ العراق للأحلاف العسكرية الدولية ثانياً، خاصة وأن هذه الفترة قد شهدت طرح مشروع الشرق الأوسط من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في سعي جاد لربط العراق بالقوى العسكرية الغربية. ولأول مرة ارتفع في الشارع العراقي شعار إسقاط النظام الملكي باعتباره المسؤول عن الأوضاع الداخلية المتردية، وعن توريط العراق بالسياسات البريطانية والدولية والحرب الباردة، إضافة إلى التدخل الفظ في شؤونه الداخلية. كما إن هذه الانتفاضة كسبت إليها جميع القوى السياسية العراقية، بما فيها الأحزاب البرجوازية والقومية واليسارية والشخصيات المستقلة، بل وتجاوبت معها بعض القوى الدينية، مثل المرجع الديني الشيعي محمد حسين كاشف الغطاء حين رفض اللقاء والحوار مع السفير الأمريكي في بحمدون/لبنان، متفقاً مع مطلب إبعاد العراق عن الأحلاف العسكرية الأجنبية. ثم أحداث انتفاضة شارع الكفاح عام 1953 والتي اشتركت فيها فئات من مختلف طبقات الشعب العراقي قدموا من مختلف المناطق واحتضنتها محلات شارع الكفاح واهالي باب الشيخ وفتحوا بيوتهم لابعادهم عن اعين رجال الامن من الاعتقال وحافظوا على حياتهم من الشرطة وكانت الجماهير تشدوا شعارات وطنية و ادت الى حرق مركز شرطة باب الشيخ من قبل الجماهير الغاضبة بعد الاعتداء عليهم من قبل رجال الشرطة ورجال الامن واعتقال عشرات من الشباب منهم الفتى عبد الامير خبانة الذي لم يكان قد تجاوز عمره 16 عام بأتهام حرق مركز الشرطة.
وقد دفعت هذه التظاهرات الشعبية الغاضبة بالضغط لاجبار الحكومة الى احداث نوع من المرونة للمشاركة في الانتخابات و في عام 1954 جرت انتخابات المجلس النيابي وحصل 11 نائباً من قائمة الجبهة الوطنية على مقاعد نيابية من مجموع 135 نائباً. ولكن لم تستطع النخبة الحاكمة، وعلى رأسها نوري السعيد، إلأ بتزوير صناديق هؤلاء المرشحين في مناطقهم، كما لم تستطع تحمل وجودهم في المجلس النيابي، فُحل المجلس بإرادة ملكية وبطلب ملح ومباشر من نوري السعيد وفي هذه الأجواء الإرهابية التي مارسها الحكم أجرى نوري السعيد انتخابات المجلس النيابي للمرة الثانية وفاز بـ 123 مقعداً بالتزكية ودون منافس من القوى الوطنية من مجموع 135 نائباً، ولم يسمح لأي معارض ديمقراطي أن يرشح نفسه للانتخابات أو يصبح عضواً في هذا المجلس. وبهذا توفرت لنوري السعيد الفرصة الكبرى لفرض السياستين الداخلية والخارجية اللتين جاء من أجلهما. فأقر المجلس النيابي دخول العراق في حلف بغداد (السنتو) عام 1955 بمشاركة كل من تركيا وإيران وباكستان والعراق وبريطانيا وبتأييد كامل من الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان قبل ذاك قد وقع على اتفاقية مع الأردن، وميثاق مع تركيا في 23/02/1955 والذي تحول إلى حلف بغداد في تشرين الثاني وفي هذا العام شكل نوري السعيد حكومة جديدة وأصدرت مراسيم استبدادية استثنائية ،ثم أعقبتها انتفاضة جماهيرية ضد الحكم الملكي بسبب أحداث مصر عام 1956.ان من اهم اسباب سقوط الحكم الملكي في 14 تموز عام 1958 هو خضوع العراق للهيمنة البريطانية وتحت انتدابها المباشر و إشرافها الكامل على سياساته الداخلية والخارجية، حتى بعد إلغاء الانتداب ودخول العراق عضواً في عصبة الأمم في عام 1932، لما فيه مصلحة بريطانيا إلى أبعد الحدود الممكنة. وقد استمرت هذه الحالة حتى سقوط هذا النظام الملكي عام التي دفعت الى ثورة 14 تموز عام 1958 بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم والضباط الأحرار…يتبع