كنت احاول ان اكتب شيئا عن السنة الميلادية الجديدة والاحتفالات التي تبدأ مبكرا في كل عام، كرسالة عن حب العراقيين للفرح ومحاولة لنسيان ما حصل خلال السنوات الماضية، لكن ذاكرتي كعادتها بدأت بتقليب الصور فعادت الى ايام الطفولة واستحضرت اول صديق كان يفضّل اللعب معي دون جميع أطفال زقاقنا وأسرته التي تتميز بالطيبة وحب المساعدة انه “عمار المسيحي” نعم عمار جرجيس الابن الأصغر لعائلة ابو وسام، التي تضم (والدهم جرجيس ووالدتهم ووسام وعمار وشقيقتان).
مازلت اتذكر كيف تجاوزنا سنوات الحصار معا وكيف تقاسمنا أرغفة الخبر وأواني الطعام وحينما يأتي زائر مفاجئ تنشغل الأسرتان بتحضيرات الطعام والضيافة، وحينما تغادر أسرة (ابو وسام) الى بيت جدهم في قراقوش (احدى المناطق التي تتوسط سهل نينوى) كنت انتظر عودتهم بفارغ الصبر وخاصة “ام وسام” التي كانت لا تنسى حصتنا من مزارعهم فتأتي محملة بالبرغل والطرشي وبعض الأكلات التي مازال طعمها بفمي لكنها اختفت من ذاكرتي، ومرت الأيام وكبرت وكبر معي عمار وأصبح لدي بدلا من صديق مسيحي واحد اصبح لدي مايتجاوز العشرة كنا نأكل معا ونشرب سويا ويشتاق أحدنا للاخر وكنا نتشارك حتى في المناسبات الدينية فنذهب معهم للكنيسة ويفرحون معنا بأعياد المسلمين.
فجأة اختفى الجميع فعمار وأسرته هجروا منزلهم الذي تشتاق جدرانه لهم ولضحكاتهم ولا نعرف اين حلت بهم الأيام او اي بلاد اصبحت وطنهم، وليصبح بعدها الحديث مع المسيحي او حمايته جريمة يكون عقابه القتل والتشريد، ومازلت اتذكر كيف كان يخير “المسيحي” بين اعلانه الاسلام قسرا والانضمام للمتطرفين او دفع “الجزية”، وصاحب الحظ هو من ينجو من هذه وتلك، وتكون فرصته بالهجرة وترك منزله وبلاده من دون عودة.
ومن الحوادث التي كنت شاهدا عليها ماحصل لجارنا الذي رفض جميع التهديدات والوعيد وأصر على البقاء بمنزله، رغم إعاقته، فالحرب أخذت احدى ساقيه وأجبرته على السير بواحدة، والأخرى “صناعية” لكن هذا لم يشفع له، لنفاجأ بجثته ملقاة قرب كنيسة، وفوقها طلقات نارية يصعب عدها.
نعم هاجر الجميع هربا من القتل الى مصير مجهول ولَم يعد هناك (عمار وسلوان وميخائيل) حتى مريم صاحبة الضفائر الجميلة تركت الزقاق ورحلت، وما بقي منهم ذكريات نستعيدها حينما تقترب احتفالات السنة الميلادية وحين نرى بابانؤيل حاملا كيس الهدايا في رحلته الطويلة وهو يبحث عن “جرجيس”، تلك الشخصية التي تمثل كل مسيحي ترك منزله وبلاده بحثا عن أمان في ارض اخرى، لتكون صفحة جديدة في قصة وطن فقد احد ألوان طيفه فأصبح باهت اللون، وأخيرا لا تستغربوا اذا سألكم ابناؤكم بعد سنوات “عن شكل المسيحي وأبنية يقال انها كنائس”..