“بائع القلق”
مجموعة قصصية
للقاص انماررحمة الله
((قص الديستوبيا ..وسردية التهكم الكافكوي المعلن))
قراءة:عقيل هاشم الزبيدي
…………………
“الكتابة لم تعد وسيلة تدوين وتواصل مع الآخرين، وليست تقييدا للوقائع وليست معادلا للذاكرة، وليست مجرد حلم بل هي أوسع من ذلك، فيها يبني الكاتب وطنا له خاصا به، عالما افتراضيا يوازي العالم الواقعي.”
– ارتبطت نصوص المجموعة القصصية (بائع القلق) للقاص انمار رحمة الله بالآثار المدمرة للحروب وأزمة الهوية وخراب المدن (ديستوبيا)، ونقد القيم السائدة والمتعارف عليها خصوصاً ما يتعلق بمفهوم (خطاب الدين). وبالإضافة الي سلوكيات اجتماعية طابعها الهدم و التفكيك لكل ما هو سائد من أفكار وقيم وسلوك غير مألوفة فكتبت هذه النصوص بأسلوب (كافكوي) ساخر اعتمد المفارقة وخلخلة في أفق توقع القارئ هذا مدخل أساسي لقراءة نص “بائع القلق” .
اقتباس:
“قصة حين أكون وحيدا”
(بعد يوم في العمل الوظيفي المرهق, وساعات متشابهة كنقيق ضفادع ..أعود الى غرفتي . لا افعل شيئاً سوى نزع عباءة الغبار, وترك ظلي واقفاً خلف الباب. أجلس تحت شجرة خيالاتي, أنتظر عودة القرارات الخطيرة إلى أعشاشها, أمارس الطفولة وأكواماً من التوافه, أعلق عقلي في الدولاب مع ملابسي العتيقة,أضاجعُ جنوني, أرقص عارياً , وحين يطول الانتظار بلا جدوى , أهرول صوب نافذة شقتي العالية, حيث لا املك سوى العواء, ثم أبولُ على رؤوس المارة المحتشمين. وبعد أن ينال مني التعب أغفو ..أغفو على سريري المتهرئ حتى يأتي النهار فيدق أحدهم الباب.. أفتحه لأجد ظلي واقفاً كالعادة, يقفز ككلب فرح, متلهفاً للزحف على دروب المدينة المتربة… ص90
– أقول من الطبيعي إذا اختلفت رؤيتنا إلى العالم أن تختلف طبيعة العالم للكاتب ولنصوصه التي يكتبها بالضرورة،إن لم يُعد مطابقاً لها سيصبح فاضحاً ومتمرداً عليه، وساخراً منه
وهذا كشف من خلال العنوان.هنا يضعنا القاص مباشرة في صميم حالة من الفعل اللامعقول قد يُنسب إلى ظروف طارئة تجوزاً أو مجازاً،لرصد حيوات يومية وبشكل غرائبي لكتابة مصائر شخصيات مختلفة ومقلقة وفق مخيلته الذاتية، أو كما رآهم هو بعين راصد ، أو كما أراد أن يراهم من خلالهم (العين المراوية). فهو وإن لم ينفصل تماماً عن شذرات واقعية تخصهم ويذهب بل وثق هذه اللحظات بأفق سردي آخر ومغاير ، منفصل عن رتابة الواقع، وراح يتفوق عليها تخيلا في عبثيته وشطحاته ومهما كانت ثمة تفاصيل تتماهى أو تتطابق مع الواقع، أو تحلينا مباشرة إلى (مخاتلة) فنية وجمالية رغم الجرح والأسى اليومي.
اقتباس:
“قصة ساعة الطفل”
(انشغلت العقول بظاهرة اعتبرها الجميع غريبة .ظاهرة (الطفل الشيخ)منذ سبعين سنة يعيش طفل في المدينة .لم يكبر يوما واحدا .ظل كما هو لدن الكفين .بوجه خال من التجاعيد وجسم طفولي نشط.يلعب طوال اليوم بلا تعب ولاملل …ص47)
– هكذا بنى القاص علاقته بالقارئ وظل أمينا ليؤسس عقدا سرديا بينه وبين قارئه فاقتفى أثره ، هو تأكيد بأن العالم التخيلي الذي يشيده، نتاج خالص لمخيلة كاتبه، ولا يطابق أي معايير أو مقاييس أخرى، من خارجه سواء من العالم الواقعي أو حتى من العالم الافتراضي فالنص مجال سيادي لكاتبه يؤسس له ما يشاء وفق المعيار الجمالي المتعارف عليه.
اقتباس:
“قصة عشيرة العاقول”
(جاءت العاقولة الي المدينة صدفة.كانت محشورة في سيارة تنقل الرمل من أطراف المدينة .عاقولة صغيرة ذات شوك ناعم.أكملت السيارة مهمتها حين فرغت الحمولة في إحدى شوارع المدينة.نهضت العاقولة ،نكثت التراب عن شوكها ثم أبصرت أشياء غريبة لم تألفها من قبل …ص73)
– وهنا أقول لم تعد هناك حكاية بالمعنى التقليدي يستطيع القارئ أن يمسك خيوطها ويتتبعها من البداية إلى النهاية،لقد تحرر الكاتب من مسئوليته القصدية وأنه غير معني في أن يرشد قارئه كي يستمتع بحكاية مسلية . بل الأهم من ذلك كله أن تتورط في التجربة المتخيلة مثلما تتورط في واقعك المعيش. الشعور الحقيقي بالورطة ـ واقعاً وتخييلاً ـ هو فقط ما يساعدك على استبصار ذاتك والوعي برحابة وتعقيدات وجودك، وإمكانية تحررك من كل ما يثقلك، من حكم وأوهام وصيغ سلطوية.
اقتباس:
“قصة مدينة الأقفال”
(لم يكن للمفتاح صاحب في مدينة الأقفال حين كان يسير في شارع ما ،تتغشى رعبا منه الإناث ويحيد عن دربه الذكور،منذ أن رأى النور طفلا ودخل المدرسة والأقفال يوصون أولادهم لاتلعبوا مع المفتاح ..احرصوا على أقفال نفسكم جيدا..لاتدعوه يعبث في مؤخراتكم فيفتح رؤوسكم فتندمون…ص86)
. – (بائع القلق) تجربة مغايرة، يكابدها أشخاص من قاع المجتمع يعانون من اختلالات اجتماعية في خضم الحياة يصارعونها من أجل البقاء ومن أجل الاعتراف بالفقدان ايضا هي (أزمة هوية). وممن تعرض لمثل هذا النوع من البشاعة -الكئيبة والمهينة للإنسان ، خاصة الانتهاكات بصورة فاضحة وصادمة.هذا الرصد الإشكالي التخيلي يحول تدريجيا الفرد الذي يسكنه إلى كائن عنيف يتوقع أن كل فرد في المجتمع عدوٌ محتمل .
اقتباس:
“قصة بائع القلق”
(لن أنام بعد اليوم..يحدث رب الأسرة نفسه وهو ينظر إلى المرآة .كانت عيناه غائرتين ووجهه شاحب كوجه جندي عائد من معركة .تناديه الزوجة التي جهزت مائدة الفطور يتبعها أولادها كما تتبع الشياه النعجة .تنادي مرة أخرى وتستغرب وقفة زوجها أمام المرآة .تجلس هي وأولادها منتظرة التحاق زوجها بالمائدة الصباحية…ص27)
– هذا الكشف المتقن من المتون السردية كُتبت بلغة متنوعة توافق مستوى المحكيات وتختلف بين لغة متواترة إخبارية (تسرد وتصف الحدث بشكل غرائبي وخواتيم فارقة ) وأخرى ناقدة،إذن هذه النصوص من اللامنتمي وقد صيغت بأسلوب (المونولوج الداخلي) وفي سياق الاعتراف.
اقتباس:
“قصة ديستوبيا”
(كنت ارى صديقي حين يسلم على صديقه يصفعه .ثم يرد الاخر بصفعه صوتها في الاذن .النساء تخرمش الصديقة صديقتها في الوجه .وتملش الواحدة الاخرى من شعورهن .الاطفال يهرلولون في الشوارع ويعبث كل طفل بمؤخرة الاخر بلا حياء .الاسواق مليئة بالبضائع الفاسدة .يغش البائع المشتري علانية…ص62)
في الختام .. أقول ومن خلال قراءة نصوص المجموعة نخلص الي إنها صور فوتغرافية تتجلى الوجه الآخر والمغاير للكتابة وبأنها لا تمنح السعادة عن المدن والأمكنة بل هي الوجه المعتم ل (ديستوبيا) المدن المعاقة وانعكاس ذلك على أفرادها المعاقيين .تصوير من زاوية أو زوايا مختلفة فيتم كشف كثير من مناطق الانعكاس (الذات) المثقلة بالأسئلة الوجودية جاءت في سرد متقن من القلق وبائع ساردها .ترجمة من شفرات نفسية وبابتكار صور مجازية ومستعارة من القص الغرائبي وتمثل من “العبث الكافكوي” ، بانوراما من الحياة اليومية المزعجة ، وتمثلات من “المذكرات والهلوسات النفسية” من خزين سيرذاتي غير معلن.