19 ديسمبر، 2024 12:21 ص

تعجبني كثيرا زيارة كردستان العراق بين فترة وأخرى ، فهي أرض عراقية رغم أنف من يدّعي عكس ذلك ، بأناسها الطيبين ، وهوائها العذب وطبيعتها الساحرة الجميلة  ، أشعر وكأني سأنثر همومي على الجبال ، أستبدل هواء صدري الملوّث الثقيل بالهواء النقي الزكي ، أبصر ألوانا بعد أن تعوّدت عيني على المناظر الرمادية ، وهي أولى من البلدان المجاورة من ناحية السياحة ، لكني لاحظت أن حاجز اللغة يزداد عُلوّا كلما إبتعدت عن المناطق السياحية ، حتى ينعدم التفاهم تماما باللغة العربية ، عندها لا تسعف اللغة الإنكليزية ، أو حتى لغة الإشارات ، ويتحول التفاهم إلى حوار طرشان ! .

أما أهم المنغصات في السياحة في كردستان فهم باعة العسل والكرزات الجوّالون الذين يذرعون الشوارع كالنسور الباحثة عن فريسة ، خصوصا إن كانت غريبة ، أنا أعلم أن العسل الذي يبيعه أولئك الباعة مغشوش فهو (شيرة) خالصة !، وليس له من العسل إلا شيءٍ من رائحته ربما ، وأول كلمة ينطقها البائع إنه عسل جبلي طبيعي ، وأن سعر العلبة الزجاجية التي تعادل في حجمها علبة معجون الطماطم 50 ألف دينار ، وبناءً على نصيحة أحد أصدقائي الأكراد ، أعرض عليه مبلغ 5 آلاف دينار ، وسيوافق فورا ! ، بل قد يصل المبلغ إلى 3 آلاف دينار ! ، يحزّ ذلك في نفسي ، فكم سعر السكّر الذي تحتويه هذه العلبة حتى يكون رخيصا هكذا ؟! ورب العرش قال (ولا تَبْخَسوا النّاسَ أشيائَهم) ، لكن المشكلة لا تنتهي عند هذا الحد ، فالبائع سيستمر في عرض المزيد من عُلًب العسل والكرزات والفواكه المجففة التي عادة ما يعرضها في سيارة متخصصة ! ، وسينشف ريقك وأنت ترفض شراء المزيد وأنت تواجه الإلحاح الشديد والذي لا ينتهي إلا بجهد جهيد ! ، وهنا لا تنتهي المشكلة مرة أخرى ، فرقم سيارتي يقرأ (بغداد) ، وهذا سيجذب المزيد من بائعي العسل ، ولا يفيد إدعائك أنك إشتريت ، فسيسألك بكم ؟ وأن العسل الطبيعي لديه وحده ، والمزيد من (نشفان الريج) !! .

طريق (بيخال) من الطرق الساحرة التي أحبها كثيرا ، في أحد المرات ، إنعطف أحد باعة العسل أمام سيارتي حتى كدت أصدمه ، وتوقعت أن يكون أحد (السلّابة) ، أو الباحثين عن المتاعب ، لكني أعلم أن هذه النماذج من أولئك الأوغاد متوفرين في بغداد ، ولا أحد يشك في مدى إستتباب الأمن في الإقليم ، وأضطررت للتوقف ، وإذا به أحد باعة العسل أراد عرض بضاعته عليّ بعد أن علم  من رقم سيارتي إني سائح من بغداد! ، ودار بيننا حديث طويل لم ينتهِ إلا بشقّ الأنفس ! .

أقول لولا الفقر والحاجة إلى درجة اليأس وصعوبة الظرف الإقتصادي ، ما تهافت هؤلاء على البيع إلى درجة التوسّل وهدر الكرامة ، فهم يمارسون هذا العمل بعيدا عن أعين الشرطة والأسايش ، ويتجنبون الهيئات السياحية ، وأصحاب المحلات والمطاعم الذين قد يتضررون من هذه التصرفات ، حتى تحوّل أحدهم إلى (لزگة) أشد من (الشيرة) التي يبيعونها ! ، وما إن وجدت أحدهم يسعى خلفي بسيارته بعد رصف سيارتي في مكان جميل ، حتى يبلغ مني الهَمّ مبلغه حتى أتخلّص منه ، أشعر بالذنب وتأنيب الضمير ، كلما هربت من أحدهم بسيارتي ، تاركا إياه بعد أن توقّف لأجلي ، إستراتيجية قد تبدو ظالمة ، لكني مضطرٌ لممارستها ! ، فسيارتي مليئة بما يبدو وكأنه عسل! ،  أسأل الله أن يدلي بدلو رزقه عليهم ، فهم طيبون ، لكن المعيشة لا ترحم ..