الموصل،مدينة كانت رهينة،لوضع أمني سيء جداً جداً،قد لانجد له مثيلا ً في أي مدينة أخرى،يتحمل مسؤوليته أولا قوى الارهاب،وثانياً والقوى الامنية الحكومية.
هذا الوضع،ترك اثاره الخطيرة على نفوس سكانها،وهنا،اقصد بسكانها ــ الناس البسطاء،أولئك الذين لاعلاقة لهم بالسياسة مطلقاً ــ مما هيَّأ أرضية صالحة لقبول اي تغيير يُخرِج الناس مما كانوا عليه من محنةٍ شديدةٍ،ولشدة هذه المحنة،باتوا عاجزين ويائسين من اي تغيير يمكن أن يأتيهم من بغداد،لانهم كانوا يدركون جيدا بأَّنَّ لاسلطة للمحافظة على إدارة الملف الامني،لذا كانوا يحمِّلون بغداد مسؤولية ماهُم عليه من وضع انساني سيء،فالقادة العسكريون،أولئك الذين يمسكون بمفاتيج الحياة بكل صورها،كانوا يتلقون اوامرهم من بغداد،ولاسلطة للمحافظ ولامجلس المحافظة عليهم .
هذه البيئة الأمنية بكل اشكالاتها وملابساتها السيئة التي كانت تنزل على رؤوس الناس البسطاء،وهم يكافحون من اجل العيش، تمكنت منهم،ومن تهشيم ماتبقى من آمال في نفوسهم،فأمست حُطاماً،وما عادت تصلح أرضاً خصبة للتفاؤل،منتظرةً لحظة الحريق،أو لحظة الانتحار،بعد أن ضاقت الدنيا بهم وعليهم،طيلة عشرة اعوام،عاما يتبع عام ،حتى امست شوارع الموصل جميعها شبه مقفلة،ولم يعد بإمكان المواطن أن يصل عبر سيارة تقله إلى اقرب نقطة داخل المدينة تبعد عنه مسافة 500 متر،إلاّ بعد أكثر من ساعة أو ساعتين،لكثرة الحواجز ونقاط السيطرة،التي لم يُحسن أفرادها في التعامل مع المواطنين بشكل لائق،هذا إضافة الى الاتاوات التي كان الناس يدفعونها شهريا الى جهات مسلحة مجهولة الهوية،وهم خاضعون تحت التهديد، فإما الدفع أو الموت،ولاخيار ثالث أمامهم سوى الهرب من
المدينة،وقد هرب الكثير من أغنيائها وتجارها واساتذتها واطبائها نتيجة ذلك،حرصا على حياتهم.
جاءت لحظة الانتحار،عندما دخلت الجماعات المسلحة الى المدينة في لحظة غامظة،لم يستطع اي محلل سياسي أن يفك لغزها،حتى الآن،وبطبيعة الحال،لاأحد يستطيع أن يتجاهل أو ينكر عدم حصول اي مواجهة مابين سكانها وبين المسلحين،وهذا يعود إلى أن ساعة دخولهم قد تمَّت في ليلة 8/ 6 / 2014 تحت جنح الظلام،ساعتها كان الناس يرقدون نائمين في بيوتهم،في مقابل ذلك كان هنالك آخرين من ابناء المدينة ومعظمهم من ضباط الجيش السابق،ومن بقايا حزب البعث،ومن المتشددين الاسلاميين على علم بما يجري،وهذا ليس تخميناً ولا إستنتاجا،فالايام التي اعقبت السقوط،أظهرت على سطح المشهد،عدداً من ابناء المدينة كانواعلى ارتباط مع الجماعات المسلحة التي دخلت،وتتوزع إنتماءاتهم حسب الولاءات التي ذكرناها،ولم يعد أمر ارتباطهم سراً من الاسرار،بعد أن باتت حركتهم علنية مع المسلحين في شوارع وازقة المدينة.
ستزول غشاوة الفرحة عن عيون الموصليين بعد ايام معدودة..فرحتهم بزوال الحواجز،ونقاط التفتيش،والسيطرات،فرحتهم بإنتهاء زمن الاستجوابات التخوينية، والاهانات المستمرة،والإستفزازات والمداهمات في ساعات الليل المتأخرة، والاعتقالات العشوائية،والاغتيالات الغامضمة،والمفخخات،والسيارات الملغمة، والانتحاريين، الخ الخ ..ليكتشفوا في إي محنة قد سقطوا،وسيترحمون على ماكانوا عليه من قهر وذل..فالسلطة الجديدة،يقودها مسلحون،ينتمون لخليط عجيب وغريب من الايدولوجيات،لايمكن أن يجتمعوا على طاولة واحدة،لالشيء،سوى أنهم جميعاً يطمحون الى السلطة،ولن يرضى اي فصيل منهم بأقل من أن يكون على رأسها. فلاداعش ولا القاعدة ترضى أن يكون حزب البعث قائدا لها،ولاحزب البعث لايرضى هو الآخر إلاّ أن يكون قائداً،وهكذا بقية التنظيمات.
وعليه ونتيجة لهذا الصراع الحتمي على الغنائم وعلى الزعامة وعلى السلطة ستفجِّر الخلافات بين التنظيمات المتواجدة على ارض الموصل،وسيصل هذا الخلاف الى مرحلة الاحتراب،بلا أدنى شك،وهو أمر ليس ببعيد .
اضافة الى ماسبق فإن الدلائل تشير على أن الفصائل ورغم مرور اسبوع على سيطرتهم على المدينة لم يتمكنوا من الاتفاق على شخصية تتولى مسؤولية ادارتها،ومازال العديد من المؤسسات الحكومية الخدمية والادارية معطلة عن العمل،وهذا سيترك اثاره في الايام القلية القادمة،خاصة عندما يحين موعد استلام موظفي الدولة لرواتبهم،وحتى لو تسلموا رواتبهم لهذا الشهر،فلا أظنهم سيستلمونها في الشهر القادم.وبلا شك سيترك هذا الوضع اثارا كبيرة،لايمكن لسلطة المسلحين أن تتفادها أو حتى لها القدرة على معالجتها.أما فيما يتعلق بالجوانب الانسانية الاخرى مثل قضية المواد الغذائية والادوية،فهذه تشكل لوحدها أعقد المشاكل التي ستواجه سكان المدينة،فما هو موجود من احتياطي،في المخازن سينفذ خلال فترة قصيرة،ولايوجد حتى الآن مايشير إلى أن الجماعات المسلحة لديها خطة أو قدرة على تأمين استمرار تدفقها ووصولها الى المدينة .
الايام القادمة،تخبىء الكثير من الاحداث الدراماتيكية،لذا من الخطأ أن تراهن الدولة على المواجهة المسلحة في الوقت الراهن،فلن تجني من ورائها أي نصر مُهم قد يغير من المعادلة لصالحها،هذا إضافة الى ما ستخلفه من ضحايا في صفوف المدنيين،وسيكون الحل العسكري في نهاية الأمر انتحاراً،إضافة إلى ما سيمنحه من فرصة للمسلحين ينتظرونها بفارغ الصبر،فلا افضل بالنسبة لهم من الفوضى التي تتسببها المعارك،حتى تسكت في خضمِّها وضجيجها كل الاصوات المعارضة لوجودهم .
وقبل أي شيء،على السلطة في بغداد فيما لو أرادت أن تعيد تصحيح الاوضاع بالشكل الذي يعيد الهيبة للدولة والآمان للمجتمع: أن تعيد النظر بكل سياساتها الخاطئة مع المحافظات السنية،لأنها السبب الرئيسي والجوهري الذي جعلها لقمة سائغة في فم الجماعات المسلحة.