17 نوفمبر، 2024 9:33 م
Search
Close this search box.

” بؤس “مصطفى عبود

” بؤس “مصطفى عبود

دخل من المعرف وعالج الوصف بصيغ دالة أقرب للفهم
منح القارىء فسحة التخيل عبر الشعور ليرسم صورته المتفردة بالبؤس
انتهج مصطفى عبود الأسلوب الوجداني في قصيدته ليعبر عما يجول في خاطره من مشاعر، والوجداني أو (الرومانتيكي) في الشعر هو انعطافة شملت التجديد بعد المرحلة التقليدية التي طغت على القصيدة بتبنيها معظم القواعد القديمة التي كان يتبعها الشعراء سابقاً ، والتي جرى عليها التغيير الذي شمل نمط القصيدة وشكلها وفق التجديد ، فسمي (بالوجداني) الذي أتى على كل المستويات الفنية في الموقف والأداة ، وشاع استخدامه نتيجة للتطور الاجتماعي والثقافي في المجتمع. فكانت الضرورة أن يكون الشعر الوجداني وفق هذا المنظور يعبر عن عواطف الشاعر ورؤاه الخاصة .

استخدم مصطفى عبود كل أدوات السرد في قصيدته حتى باتت وكأنها مدونة بفيض المشاعر التي عبر عنها في “بؤسه” القصيدة التي تحمل نفس الاسم ( بؤس)، لذلك دخل من باب التعريف الذي قال عنه ( اعرف ما معنى) ، ليدفع بحوار جميل معبر عن معاني ذلك البؤس الذي عرفه نتيجة معاناة ربما عاشها بتفاصيلها، لذلك هو عبر عنها بصدق ما ذهب إليه. كما عالج حالة الوصف التي ضمنها القصيدة بصيغ دالة أقرب للفهم أو ما نطلق عليه وسائل الدلالة ، كأمثلة معبرة عن حالة البؤس التي جاء بها في أبياته.

أراد مصطفى عبود أن يكلم المتلقي بالصيغة المباشرة ، فذهب الى تحريك مشاعره عبر الأمثلة ، فمنح القارىء فسحة التخيل بصورة مفتوحة على الشعور ليرسم عبرها صورته المتفردة بالبؤس معززة بتفاصيل المعاناة التي يشعر بها من يمر بمثل هذه الحالة.

وفي تفصيل أخر ذهب مصطفى لاستخدام الرمزية، أو الإيحاء حين جاء على استخدام مفردات لها دلالة لكنها غير قابلة للتصديق مثل ( يجوع الخبز، يسهر النهر تحت أقدام النوارس) وهي تأويل ، يعبر عن المعاناة بصيغة المطلق عن ما يشعر به المجتمع بأكمله من قساوة نتيجة ما يفرض عليه سواء بالجوع كرمز دال أو بصيغ أخرى .

عالج حالة البؤس التي ضمنها أبياته بالوصف الوجداني وتكريس صيغة المتكلم بصورة طغت على كل تفاصيل السرد الذي رسم عليه هيكلية القصيدة، داخل مصطفى الكثير من الدلالات السردية في معاني قصيدته حتى غدت أبياتها أشبه بالشرط وجواب الشرط ، لم يتناول فيها التخفي وراء الكلمات بل على العكس جاءت أبياته واضحة صريحة وبصيغة المتكلم منذ بداية القصيدة، حتى غدت حبكتها وكأنها اعتمدت على جدلية التخاطب بين الشاعر ومن يستمع الى وصفه الذي حمله الكثير من الشكوى ، وهي ما عكست ذهابه الى الوجداني في القصيدة.

اعرف ما معنى أن يكون الشخص بائسا يا صديقي أن تبيع ملابسك الثمينة لمحلات الرهان كما تبيع روحك لهذا الهواء المتسخ! أن يتملكك البؤس كما يتملك هوس الدقائق شعر امرأة عانس.. يا صديقي هذه الحياة محض مصادفة ولدت عن سهو نبيٍّ كان يشعر بالجوع! اعرف كيف يجوع الخبز كيف يسهر النهر تحت أقدام النوارس عليك آن تخفي كل أسمائك الحقيقية وتنسى كل ما شاهدته من خلال سرة أمك.

الرؤية الفنية التي عمل عليها مصطفى عبود كرست مضامين ما ذهب إليه من صيغة الوجداني بسماتها التي ميزت طبيعة القصيدة ، فغلبت عليها العاطفة تضامنا مع مفهومها ، وهذه النظرة الوجدانية هي التي تدفع القارىء الى تبني الشعور بأن ما يكتب من شعر وفق صيغة التعبير الوجداني هي من تعبر عن ما يجول في دواخله من مشاعر ، لذلك تجد المتلقي يتعاطف وبشكل فوري مع ما يسمعه أو يقرأه من شعر وجداني لما يتسم به من سمات أهمها الشكوى والقلق والتأمل الفكري، ثم البحث عن الملاذ من آلام النفس وقلقها ، وهو ما يسجل لمصطفى عبود فيه السبق بأنه استغل تلك الحالة ليفرض قصيدته عبر استغلال تلك المشاعر ما يضمن لها النجاح.

وما إدخال المرأة في طيات القصيدة وهي بهذا الشجن إلا تعبير عن رؤيته التي قد تتجسد في أن الملاذ الأمن الذي يبحث عنه ربما يتجسد وجوده في صورة تلك المرأة التي تعبر عن الأمان في كثير من الأحيان من خلال فيض عاطفتها، وهي صورة قد تختلف في نظرتها مابين شاعر وأخر.

وهنا مازج بين تقلبات العاطفة بصورة واضحة وجدية حين داخل الألم مع الخيانة ، والوصفي مع الواقعي ، ثم ذهب الى الاحتجاج على بعض ما يفرضه المجتمع من ممارسات وصيغ قد لا تكون مقبولة ، وهي عملية اعتراض واضحة بل إدانة واضحة للمجتمع ككل .

صرخة أخيك وهو يطلب منك عدم المجيء لهذا المكان العبثي خيانة أبيك وهو يبتسم لامرأة في السوق برامج التلفاز لإعطائك غذاء مجففا رخيصا يا صديقي اجمع اكبر عدد من العشيقات اللائي يمارسن الجنس مع عمود الملهى

وفي تحد واضح ذهب عبود لمقايضة المألوف بما هو غير طبيعي حين أورد تعاليم تدفع للتمرد على الواقع فقال: (حتى تغضب البؤس) ومن ذاك الذي يغضبه في الحالة السوية الطبيعية ، لذا نفهم أن ما أورده مصطفى عبود هو عبارة عن وهم لا يمكن تحقيقه، وأنه استخدم تلك الصيغة للتشويق فقط ، وربما لرفع سقف المتابعة والاستمرارية في قصيدته ، وإضفاء بعداً أخر على أبيات القصيدة يتصف بالتحدي لنواميس الطبيعة.

جازماً بأن لا مكان للفرح في حياة الإنسان حين ينشر خريف العمر ظلاله على الإنسان فيضحى في واد والفرح منه في أخر،وهذه تدخل في قمة الوجدانية التي بنى عليها مصطفى عبود حبكة قصيدته ، حتى وإن كانت نفسك تحدثك بربيع قد يأتي ، لكنها تبقى مجرد أماني لذاك الخريف .

البينة الفنية لقصيدة مصطفى عبود جاءت على تداخل لفظي مقصود لتكريس الألم أو المعاناة في السرد ، والذي استخدم فيها عبارات تَمكن من أن ينتقيها بعناية لتترك تأثيرها على النفس بفعل موسيقاها الحزينة التي يتسم بها هذا الأسلوب في كتابة الشعر ، ما اضطره فيما بعد الى تغيير النهج الذي أتبعه في البداية الى ( توجيهي) ربما إن جاز لنا أن نسميه لكنه بقي ممزوجاً بمسحة من الوجداني طغت على كل تفاصيله .

حتى تغضب البؤس وتنسى تعاليم نبيك المحترم! لا مكان للفرح عندما يحدثك خريف السرير عن ربيعٍ يطل من النافذة! عليك أن تحزن بما يكفي

لتقنع الآخرين بالحياة! وباسم كؤوس النبيذ الفارغة انتظر شيئا يفرح الرب وكأنك قسيس ترك الصلاة وأناشيد الرب البعيد ليعمل نادلا في مطعم فرنسي مشهور! اللغة التي تناول بها مصطفى عبود قصيدته رغم المفردات المأساوية التي جاءت فيها، إلا أنها كانت من صلب الحياة ومعطياتها واحتوت على تعبير دقيق عما يجول في النفس البشرية وما ينتابها من نوازع، كما استطاع الشاعر أن ينسج الصورة المؤثرة عبر ما تناوله من أفكار صاغها بكلمات تحمل من الدلالة ما يتناسق مع الواقع بكل تفاصيله، فجاءت فعلا مترجمة للواقع الذي كتب فيه عبود بدراية المتمكن من عناصر الشعر على اختلافها.

كثرة الشكوى من البؤس والتي ضمنها مصطفى عبود في قصيدته دلت على تأثره بتلك الحالة الاجتماعية ما دفعه الى تبني المذهب الوجداني بطرح قصيدته ، أو انه تقمص تلك الحالة حتى بات غير قادر على الفرار منها ، وانه أصبح يستشعر ذلك الألم ، فذهب لتجسيده أبياتا تحمل كل تلك المعاناة والشكوى.

لقد أفاد مصطفى من الرموز الفنية والنفسية التي أدرجها في سياق القصيدة لينمي الشعور بما جاء من صورة تلك المعاناة ، ومما ساعده أيضا في بناء التنوع التوظيفي للتجديد عبر الرموز سواء كان بشكل كلي أو جزئي ، مما جعل القصيدة تأخذ طابعا شموليا.

وعلى مستوى الشكل والمضمون أيضا فقد تمكن مصطفى عبود من اعتماد العناصر الموضوعية والفنية لبنية القصيدة، التي اعتمدت على لغة وجدانية حالمة بعض الشيء متأثرة بمعطيات الحياة المعاصرة و متشائمة أحيان عدة، معبرة عن نوازع النفس ومتجانسة مع المشاعر، وهو ما جعل النسيج اللغوي عبارة عن صورة تعبر عن هواجس الشاعر وأفكاره عبر الكلمات التي استخدمها.

أنا يا صديقي ذلك القربان الذي لم يقدموه خشية أن يبكي الله أو نموت جمعيا أنا ما قاله الغراب حزنا على الشجرة لاحتضان أخيه كم اكره الأشياء الناعمة كجلد عجوز أو كوردة تمارس الحب سرا! يا صديقي رأيت امرأة تصبغ شعرها لأنها تحلم في كل يوم أن يكون طبيعيا

التجربة الإنسانية التي عالجها مصطفى عبود في قصيدته أكسبته خصوصية وتميزا عبر تكثيفه لاستخدام جميع عناصر البناء داخل القصيدة ،مما أثراها وابرز الصور التي بنى عليها حبكته ، وحين أنتهج فيها الوجداني ابرز من خلاله المد النفسي والعاطفي والذي انعكس على بنية القصيدة الفنية ، وهذا ما أطغى الشعور العاطفي وأبقاه مستمراً طول القصيدة ليكرس العاطفة بمحوريتها في النص والشكل.

رأيت طفلا يكره الحلويات الأجنبية ليس لكونه عربيا بل لأنه لا يعرف كيف يسرق.. رأيت حصانا ينزع حذاءه الفضي ليعود ولو كذبا الى طفولته.. ليس هنالك متسع للحقيقة في العالم الكل يحاول سرقة الهواء أنت لست غريبا ك العصافير! ضع نظارتك على ساحل برتقالي النكهة واصنع أحجية من الرمل … وارحل! دع العالم يلتقط صورا لخيبة أخرى

أحدث المقالات