23 ديسمبر، 2024 10:31 م

(اﻠﺤِسْجهْ) بين : الدليمي والسوداني ؟!

(اﻠﺤِسْجهْ) بين : الدليمي والسوداني ؟!

 يوم الاثنين ، (23/9/2013) ، نشر لي موقع (كتابات) ، خاطرة بعنوان (المتوفر بالافريقية .. وربّاط الحجي) . وفي سياق هذه الخاطرة ، كتبتُ : (تكون قراءة ما بين الأسطر ، أهم كثيراً من قراءة الأسطر   ذاتها . الرواة الريفيون يسمون ذلك ((الحسجه)) ، وموضوعها يحتاج الى تفصيل ، لذلك قد نعود اليها مستقبلاً) .
    هذا الوعد ، وأسميه (التزام) أمام القارئ ، فرض عَلَيَّ العودة للكتابة بهذا الاتجاه ، إيفاءً بوعد .
    ولم تكن هذه (العودة) مُدرجة على جدول الاولويات القريبة في الكتابة لدي . إلاّ أن (مداخلة) وردتني عبر الانترنيت من المغترب والمتابع العراقي سلام ناصر الدليمي ، حرضتني على الكتابة في هذا الموضوع . وكانت مداخلة الدليمي تحت عنوان : ما المقصود   بالحسجه ؟ .
و .. السوداني أيضاً ! ؟
    هذه المداخلة قادتني إلى العودة لحوار أجريتُه مع الشخصية المعروفة في الوسط الثقافي الشعبي الأديب (عبد الحسن السوداني) ، والذي لُقِّب (المفوعر) كناية لأحد أجداده ، وكنا ، الباحث عادل العرداوي وأنا ، في زيارته في ديوانه العامر ، شرقي بغداد ، تناولنا في ذلك الحوار ، هذا الموضوع .
ما المقصود بـ (الحِسجه) ؟
    منذ أزمان بعيدة ، عمد الرواة إلى اتباع طريقة الحديث غير   المباشر ، واتبعوا اسلوب (التورية) ، بل ومضوا أبعد من ذلك ، فوضعوا حواراتهم على ألسنة الحيوانات ، (ما جاء في كتاب كليلة ودمنة مثلاً) ، حتى إعتقد بعض العامة ، أن هناك أزمنة مرتْ كانت فيها الحيوانات تنطق !! . ويرجح المعنيون بدراسة هذا النوع من الحوارات ، أن الخوف من بطش الحكام ، كان السبب في استخدام (الحيوان الناطق) ، كشخصية في هذه القصة الطويلة أو تلك ..
    هذا الاسلوب غير المباشر في الحوار أو الكتابة ، يمكن أن نسميه (اسلوب التمرير) ، أي الوصول للغرض بدون عوائق ومصدّات ، أو بأقل قدر مُتاح منهما .
    فلقد عمد العديد من الرواة أو الكتاب ، الى (اسلوب الأيحاء) ، وليس المباشرة ، للوصول الى مبتغاهم ، لذلك كانت قراءة ما بين السطور ، أهم من قراء السطور ذاتها . ويقصد بتعبير (ما بين السطور) ، المعنى المستتر في الكلام . واستخلاص هذا المعنى يعتمد على فطنة المستمع أو القارئ من جهة ، وعلى دقة تعبير المتحدث أو الكاتب من جهة أخرى .
الكتابة الساخرة
    وعمد بعض الكتاب إلى إتباع الاسلوب الساخر في الكتابة ، بقصد التمرير والقفز من فوق الموانع ، وما أكثرها . ومن أوراقي الصحفية : يوم (11/أيار/2007) ، وكنتُ مقيماً بدمشق ، شاهدتُ مقابلة أجرتها فضائية عربية مع الكاتب الاردني الساخر (كامل نصيرات) ، الذي بلغ عمق الألم لديه حدَّ انتحال اسم (ناقص إهزيمات) وهو عكس إسمه   تماماً ، والمعروف عنه أنه سمى إبنته (بغداد) تمسكاً بهذه المدينة العظيمة التي أطبق عليها الاحتلال الغاشم عام 2003 . ويتيح الاسلوب الساخر في الكتابة ، تمرير وجهات النظر في القضايا الساخنة . و(السخرية) هنا لا تعني عدم الجدية ، بل على العكس ، الكاتب الساخر كاتب جاد ، إنه في قلب الحدث ، يسخر من الحالة ، يدينها ، يسلط الضوء على صنّاعها . وبعد هذا التحريض ، صراحة أو ضمناً ، يترك للقارئ أن يتخذ الفعلَ المطلوب .
    وعندما سئل الكاتب المصري الساخر ، أحمد رجب ، هل الشارع العربي مازال يحتمل الضحك على همومه ؟ ، أجاب : الكاتب الساخر له دوره في التغيير . عندما يمارس السخرية اللاذعة بكتاباته .
    وبشكل ما ، فان (السخرية) تقترب من (الحسجه) ، أو أن الحسجه تقترب منها .
عودة الى (الحسجه)
    إنها مفردة متداولة في الوسط الشعبي خاصة ، تطلق للدلالة على معنى باسلوب غير مباشر ، يعتمد الايحاء ، والتضمين ، وعادة تكون (الحسجة) انتقادية ، ولانها كذلك اعتمد مطلقُها الايحاءَ والابتعاد عن المباشرة . تعتمد (الحسجة) على الموروثات الشعبية . ولابد ان يتمتع مطلقها بالفطنة والدراية ، وعلى المستمع أو القارئ ان يستخلص المعنى . وكما قلنا هناك خيط ، وان كان رفيعاً ، يربط الحسجه  بالسخرية .
مثل مصري
    ولتوضيح ما قلناه ، نذكر المثلَ المصري التالي : في مسرحية (شاهد ماشاف حاجه) يُتهم بطل المسرحية الممثل عادل إمام بقتل جارته الراقصة (عنايات) . وفي التحقيق سأله المحقق : كيف تقبل ان تسكن بجوار راقصة ؟ أجاب عادل إمام : ياعمِّي إذا رفض المصري ان يسكن بجوار راقصة ، فمعنى ذلك أن جميع المصريين سينامون في     الشوارع !!.
    والاشارة مفهومة ، وعادل إمام لم يقل ، بشكل مباشر ، ان ليس هناك بيت مصري ، يخلو من راقصة ، بل قالها بشكل غير مباشر ، وعلى المشاهد ان يستخلص المعنى . هذا نوع من (الحِسجه) ، كما نفهمها نحن العراقيين .
الجذر اللغوي
    وتتعدد الامثلة ، عراقياً وعربياً .. وقد لا يتسع المجال للاتيان على اكثر من مثل .
    وفي تتبعنا للجذر اللغوي (أصل التسمية) ، نجد الآتي :
1. هناك نبات يسمى الحسك ، والريفيون في وسط وجنوب العراق ، يسمونه (الحِسَج) . وثمار هذا النبات شوكية تعلق بل وتمزق ثياب من يمر بالقرب منها أو يتماس معها . ولأن بعض انواع (الحسجة) لها مفعول التجريح المبطن ، أطلق اسم الحسك أو (الحسج) عليها .
2. يقال أن هناك قرية في ريف عفك تسمى (الحسكة) ويؤكد الباحث التراثي عادل العرداوي ، بان هذه القرية موجودة وانها موطن هذا النوع من الكلام ، لذلك سُميت الحسجه نسبةً لها .
3. البعض يقول أن مدينة (الحسكة) السورية هي موطن (الحسجة) ، وسُميت باسم هذه المدينة . لكن الحسكة ليست مجاورة للعراق ، لذلك يكون هذا الرأي ضعيفاً .
عودة للأديب (المفوعر) السوداني
    وحين أعود الى اللقاء مع الاديب الشعبي عبد الحسن المفوعر السوداني ، اتذكر باننا (الكاتب التراثي عادل العرداوي وأنا) كنا في زيارته في ديوانيته . وتطرقنا في الحديث الى مفردة (الحسجه) ، وخلاصة رأيه : أنه ينفي وجود قرية في ريف عفك (عفج) أسمها : الحسجه ، أو الحسكة ، وقال : دَلُّوني على هذه القرية إن كانت   موجودة .
    كما أن السوداني لا يميل الى الأخذ بالاستنتاج القائل : بان هذه المفردة ، وصلتنا من مدينة (الحسكة) السورية . لكنه لا يقدم استنتاجاً بديلاً .
    من جانبي أميل الى الأخذ باستنتاج نبات الحسك (الحِسَج) ، وهذه المفردة : أصلاً واستعمالاً مطروحة للنقاش .