26 ديسمبر، 2024 12:12 م

الجزء الاول
كانت خطيئته الوحيدة انه يتمنى ان يصاب بالعوق في اي لحظة من لحظات حياته وخاصة في ساحات المعارك حتى ينهي تلك المأساة التي يعيشها ضمن حياته في المسلك العسكري والتي لم يحصدوا منها سوى المتاعب والعيش متضجرا مع الاوامر العسكرية ومبعداً عن اهله لا يراهم الا بين فترة واخرى في اجازة محدودة تتراوح ايامها سبعة ايام..
كان باسل من المتفوقين في دراسته الابتدائية والمتوسطة وكان يضرب به المثل بذلك بين أصدقائه وابناء جيرانه ولكن ظروف العيش القاسية اجبرته للتطوع على ملاك الجيش برتبة نائب ضابط كاتب حتى يحصل على بعض الامتيازات الخاصة وبعد الانتهاء من الدورة المقررة ليلتحق بعدها الى احدى الوحدات العسكرية المتمركزة في جبهات القتال قاطع شرق البصرة.. وليستمر هناك اكثر من اربعة سنوات..
كلما كانت تشتد المعارك لم يكن لديه هو ورفاقه الذين معه الا امنية واحدة هو ان تأتيتهم شظية او طلقة طائشة حتى تقطع رجله او يده دون التفكير بعواقبها الخطيرة وحتى ينهي الحياة العسكرية ويكمل بقية عمره في حياة وعالم اخر…حياة بعيدة عن الخوف والموت والرعب…
وفي احد المعارك الطاحنة التي جرت احداثها شرق محافظة البصرة في عام 1984 واثناء القتال كان هناك قصف مدفعي كثيف بين الطرفين واذا بإحدى القنابر تنفجر فوق موضعه والدخان يخرج منها يغطي المكان الذي وقعت فيه فهرع له رفاقه المقربين وهم يصيحون لقد اصيب النائب ضابط باسل وينظروا اليه واذا برجله اليمنى قد بترت من مفصل الركبة كان الجميع ينطقون بكلمة سلامات… احضروا الاسعاف.. احضروا الاسعاف حتى يقومون بنقله كما متعارف في مثل هذه الحالات الى وحدة الميدان الطبية القريبة من وحدته ثم يقومون بنقله بعدها الى مستشفى البصرة العسكري وهناك يجد الاسعافات الأولية وهم من يقررون اين سوف تكون قبلته القادمة..
الاشخاص هم انفسهم الجنود الذين من حوله والذين تنطق افواههم بكلمة سلامات كانوا يقولون في قلوبهم هنيئا لك فلقد احبك الله وانقذك من هذا المكان المخيف والرهيب وخاصة عندما تبدا المعارك حيث تجد كثافة المقذوفات وهي تأتي من كل الجوانب وكذلك القصف الجوي للطائرات التي ترمي اهدافها بكثافة وكل هذه الشراسة في المعارك ومقذوفاتها شديدة الانفجار لم تكن تقصد الا قتلنا نحن بني البشر.. معارك طاحنة بين طرفين متخاصمين لا يرحم احدهم الاخر.. قتال مستمر وحياة مملة داخل شقوق اشبه بالقبور في السواتر الأمامية تبقى هناك اكثر من ثلاثين يوما احيانا وانت لا ترى من الطبيعة سوى من هو معك في الموضع القتالي والتراب الموجود في الساتر مناطق لا يسكنها اي مخلوق واي كائن حي غير هذا الجندي الذي ابتلاه الله بحكام دول يحبون الحروب تاركةً خلفها ماساة يتبعها ماساة اخرى يتذكرها كل من نجا منها وعاش داخل احداثها…
في كل معركة نخسر الكثير من الشباب…
. شباب في عمر الورود يذهبون حطبا لنارٌ لا فائدة منها ولا مكسب وانما السبب الرئيسي لها هو العناد الذي يركب رؤوس الرؤساء لتلك الدول…
ايام رهيبة يعيشها منتسبي القوات المسلحة من الجيش وكأنهم خلقوا من نار ولا بد لهم ان يتعايشوا مع هذه الحياة القاسية حياة السواتر التي تحول حياة الانسان الى طعم مر لا يمكن جرعه الا بالقوة والخوف…
هرعت سيارة الاسعاف الوحيدة في هذه الوحدة العسكرية بعد ان هدا القصف قليلاً وما زال هذا المقاتل ينزف دمائه من ساقه المقطوعة واصدقائه يحاولون بكل طريقه ايقاف هذا النزيف.. ها هي سيارة الاسعاف قد وصلت فقام اثنان من اصدقائه بحمله الى سيارة الاسعاف لاخلائه من ساحة المعركة…
ودعه أصدقائه بقبلات على جبينه وقالوا له ندعو الله ان يشفيك وان يتوقف النزيف حتى تستطيع ان تصل الى اقرب وحدة طبية لمعالجتك لم يفكر في تلك اللحظة باي شيء فاليوم كله مجهول وغدا مجهول ولا يوجد مستقبل يتأمله كل ما يفكر فيه هو الخوف وكيفية التخلص من القصف المدفعي الذي ربما يتجدد في لحظة وتصيب احد قذائفه سيارة الاسعاف…
ولكن ارادة الله شاءت فوق ذلك فسارت به سيارة الاسعاف ساعة تقريبا حتى وصل الى اقرب وحدة ميدان طبية وكان يديرها طبيب عسكري عرف اسمه الملازم الاول الطبيب سعد وهو من اهالي مدينه الموصل وبعد ان تعرف عليه قام له بالواجب الطبي اللازم..
وشاهد هناك العشرات من الجثث مرمية في هذه الوحدة اضافه الى العشرات من المصابين منهم مثل حالته ومنهم اسوأ منه بكثير وقسم من الجرحى درجة اصابته بسيطة والجميع ينتظرون مرور الطبيب اليهم حتى يقرر ماذا يفعلون.. عندما وصل اليه قال يجب ارسال نائب ضابط باسل واثنان أخرين معه الى مستشفى البصرة العسكري لان حالتهم مستعصية وصعبة وتحتاج عملية جراحية.. حضرت سيارة الاسعاف فحملوهم فيها للتوجه الى مستشفى البصرة العسكري وكان طريق عبورها من فوق احد الجسور الرئيسية في محافظة البصرة ويسمى جسر خالد الذي انتبه اليه باسل وهو ينظر من نافذة سيارة الاسعاف..شاهد الحياة المدنية من خلال هذا الجسر الكبير والناس تعبر بسيارتهم ذهاب واياب..
وبعد وصولهم الى مستشفى البصرة العسكري هنالك تلقى العلاج اللازم بإيقاف النزيف وبقي حوالي اربعه ايام في المستشفى وتلقى العلاجات الأولية اللازمة.. بعدها قرر الاطباء ولكثرة الجرحى المصابين الموجودين داخل هذه المستشفى حيث امتلأت الردهات بهم قرروا نقلهم الى مستشفيات قريبة عن محافظات سكنهم وقاموا بارسالهم الى العاصمة بغداد والى مستشفى الرشيد العسكري بالتحديد حيث كان هذا المستشفى معروف على مستوى العراق كونه من اقدم المستشفيات العسكرية التابعة لوزارة الدفاع.. في الساعة العاشرة مساء نزلت طائرة عسكرية يسمونها طائرة الاسعاف الطبي وقاموا بحمل المقاتلين اصحاب الاصابات الخطرة اليها ثم اقلع الطيار متوجها الى العاصمة بغداد ومان وصلوا حتى استقبلهم فريق الطوارئ الموجود هناك وادخلوهم فورا الى غرفة العمليات وبعد ان تم اجراء عمليه جراحيه له لفتح الإصابة وتنظيفها قال له الطبيب الذي عالجه ان اصابتك كانت مميته لان القذيفة التي اصابتك بعض شظاياها وقطعت لك رجلك هي من نوع سام وخطير ولكن الله قدر ولطف…
بقي يتعالج داخل المستشفى لمدة زمنيه اكثر من اسبوعين ليقرر الاطباء بعدها منحه اجازة مرضية لمده 60 يوم يراجع خلالها وبعدها اقرب مستشفى عسكري يسكنه وبما ان نائب ضابط باسل من اهالي مدينة الموصل فلابد له ان يراجع هناك مستشفى الموصل العسكري..

أحدث المقالات

أحدث المقالات