المؤشرات العامة في الواقع السياسي العراقي تبرز مجموعة ظواهر ومشاهد سياسية تخالف في جوهرها ومساراتها معظم التنبؤات والتوقعات والتحليلات ذات البعد التاريخي وتسير في خط معاكس لكل الطموحات والتطلعات التفاؤلية والنظرات الايجابية الداعية إلى الحركة والتغيير ، ذلك أنه لايزال هناك رغبة فكرية قوية في الاستغراق في الوصف والحديث عن الماضي وإغفال للحاضر وعزوف في الوصف ورؤيته في حركته وتفاعلاته الجديدة ، وضمور في عملية التقييم والتحليل وشلل مطبق في الحركة والتطلع إلى الإمام.
هذه المشاهد السياسية القاتمة والمؤطرة بالعجز والالتباس ، تجبر التاريخ العراقي على الاستقالة والإنكفاء وتجعل الإنسان العراقي في عطالة عقلية ووجدانية تمنعه من التفكير السوي بالحاضر والمستقبل ، وتباعد بينه وبين الفعل الخلاق ، وتكبل إرادته بقيود السلبية والانسحاب والنكوص والتردد ، ولذلك تبدو ساحتنا الجماهيرية خالية من التفاعلات السياسية والاجتماعية الحقيقية ، ومعزولة عن النظرات الجديدة ولايتحرك في داخلها وعلى جنباتها إلا هذه الأنماط السائدة من الفكر السطحي ولايتلاطم فيها إلا الارتباك والاضطراب الفكري والاجتماعي الذي لايعرف أي أفق يتحرك ، وأي مخاض يخوض.
إن منشأ هذه العطالة الفكرية والجماهيرية أصبح معروفاً ومفسراً ، وهو محكوم بعوامل ذاتية وموضوعية ، ولكن الأزمة تكمن في تحويل المعرفة إلى اختراق ، والانتقال بالواقع من التفسير إلى التغيير . فنحن نرى أنه لولا التقبل الجماهيري ، ولولا وجود سيكولوجيا جماهيرية مهادنة ، لما كانت هناك اختبارات ومناورات ، ولما تمادت هذه الاختبارات لدرجة إلغاء المجتمع ونمط وجوده ، وتجاهل تطلعاته.
لقد أدى هذا العامل الذاتي إلى غياب الجماهير وحتمية هذا الانفلات ، وهذه الفوضى السياسية التي أباحت الممنوعات القيمية وجعلت المجتمع يقف مقلوباً على رأسه . وكان هذا العامل الذاتي المرتبط بمزاج الجماهير وعقلها المهادن ، ونزوع الناس إلى الصمت والانشداه والعطالة ، وعدم مناهضة مايُدبر لهم في العتمة ، دوراً كبيراً وطاغياً ، فجعل الفساد الإداري والفكري يأخذ مداه ، وهو ما جعل أمر تمرير الممنوعات ممكناً ومقبولاً.
والسؤال الذي يقف أمامنا بإلحاح وقوة: إلى متى سوف يستمر القبول بهذه الوقائع ؟ وإلى متى سوف يستمر عقلنا في توصيف الحال ؟ وفي أي منحنى سوف نتوقف عن هذا الانشداه ، ونمارس حقنا في الوجود الفاعل ؟
إنه سؤال الأسئلة الذي سيحتم علينا تقديم الإجابات عليه وذلك أنه يتضمن في داخله تساؤلات التاريخ والحياة ، والمعاينة والعقلانية والواقعية ، الماضي والحاضر لاستبصار المستقبل.
وعندما تبدأ في واقعنا الأسئلة الصحيحة حول وجودنا الاجتماعي والسياسي، فإننا لابد سنصل إلى الإجابات الملائمة . ولذلك ، فإننا ونحن في هذا الخضم من التحولات والانقلابات التي غيرت وجه الفكر والعالم لابد أن نسأل أسئلتنا حول الوجود ، وحول التحالفات السياسية والحضارية الجديدة ، وحول المستقبل الذي يجب أن يمتد عقلنا لرؤيته رؤية فاعلة ، وحول الحاضر الذي يجب أن يعاد بناؤه وتركيبه تركيباً جديداً ملائماً لهذه الآفاق الجديدة التي ينفتح عليها المجتمع وينفتح عليها العالم.
أسئلتنا الجديدة يجب أن ترافقها إرادة في الفعل والحركة من أجل تأكيد قناعاتنا الجديدة ، ومن أجل تحويل طاقتنا الشعبية باتجاه تحريك التاريخ وتعزيز هويتنا العراقية بإضافات جديدة وطموحات إنسانية متجددة ، وبدون ذلك فإن التسارع التاريخي سوف لايبقي لنا إلا الانتظار والرهبة.