أميل الى تدخين السيكارة عندما أشعر بشعورين متناقضين ، اما الفرح او الحزن ، وعادة ما أميل الى ملء الفراغ بين الحالتين ولا أدري يقينا سبب ميلي لها ، ربما تعطيني شعورا مصطنعا بالتأمل والاسترخاء ، وهما بوابتان للاستغراق بالافكار ،أو ربما هو ميل لا شعوري للانتحار من أجل الخلاص من عالم سوريالي لم يُخلق لنا ، ولست بصدد اصدار دعاية لعادة هي أفة حقا ، ولكوني عراقي ، اعيش في بلد يتنفس الحزن ، وقد خلا من لحظات الفرح ، صار تدخيني غير مشروط ، فعذر التدخين متوفّر.
كانت (هستيريا الرقص) تصيب (زوربا اليوناني) فرحا أو حزنا كحالي ، ولكن ليتني كنت كـ (زوربا) ، فعلى الأقل كنت سأخرج بـ (رئتين نظيفتين) ! ، ولكن سيظهر مَن يقول (الرقص حرام) ، في دولة ضاع حابلها بنابلها ، فلا هي دينية ثيوقراطية ، ولا هي علمانية ، لا هي رأسمالية ، ولا اشتراكية ، بل تعتمد مبدأ الفوضى فكل شيء.
اسمع أخبارا عن عراقيين يُعدمون في سجون دول الجوار ، بتهم لا نعلمها ، عن عين الدول التي تقطع المياه عنا ليتحول (وادي الرافدين) الى (وادي للموت) ، ليُضم لصحراء (السعودية) ، عن عراقيين يهانون في مطارات تلك الدول ، كل ذلك ، ووزارة (الخارجية) الموقّرة ، لا تكلف نفسها حتى بتصريح شجب خجول! ، وتتلاحق السكائر.
اسمع عن هذر وسجالات السياسيين في القنوات الفضائية ، وهم يسلقوننا بالسنة حداد ، صياح وشتائم وتبادل للاتهامات ، ولكن الجميع يدعي الحرص والنزاهة ، ويتحدث عن محاربة الفساد ، وحق المواطن في العيش الكريم ، والخدمات ، والوضع الأمني ، والتقاعد .. الخ ، واسأل نفسي ، مَن الذي يسرقنا اذن ؟ ،اشاهد يوميا مظاهر الحلول الأمنية المتخلفة ، من خلال تقطيع أوصال المدن بالاسيجة الكونكريتية ، وتحويل الأحياء السكنية الى (كانتونات ) مقيتة ، اسمع عن تقصير امني للنخاع ، يدفع ثمنه عشرات الابرياء يوميا، مناظر للدماء والمشارح والعويل ،عن فرار مدفوع الأجر لمجرمين من السجون ، هروب تفوح منه ابشع رائحة يمكن ان تشمها ، ابشع من اقذر القاذورات ، رائحة الفساد ،واكتشف ان رأسي قد غاص بسحابة من دخان السكائر .
اشاهد التقارير الدولية في الفضائيات عن فضائح البلد :
-بغداد اسوأ عاصمة في العالم
-اسوأ الطرق في العالم ، في العراق
-اسوأ مستوى معيشي للمواطن
-رقم قياسي للضحايا الصحفيين
-رقم قياسي في الفساد
-اسوأ الخدمات
والقائمة تطول ، مثل حبل المشنقة ، واشعر بالخجل يأكلني ، وأطأطئ رأسي ، ثم اسمع اعلانا يقول (ارفع رأسك ، فأنت عراقي ) فلا أبه !، رغم كوني غير معني ، بل غير مسوؤل عن تلك الفضائح ، بل أنا من ضحايا تلك الكوارث ، وأحدّث نفسي (غدا ، ستكون هنالك استقالات جماعية للسياسيين ، غسلا للعار) ، ويمضي يوم وشهر ، دون ان اسمع خبر اسقالة واحدة ، فتتكدّس لدي عشرات علب الدخان الفارغة .
أغادر باب منزلي لا متوكلا ، بل متعوذا من الشيطان الرجيم ،فانا على موعد يومي مع فلم سوريالي مرعب ، فأذا لم تصبني شظية من تفجير ارهابي ، فربما رصاصة رعناء من وكالات الامن ، او الارتال الجهنمية ، والسبب ، غفلة مني ، فيسيئوا فهمي ، اساءة قاتلة ، او عبارة (شبيك أعمى)من أحد رجال الأمن اذا كنت محظوظا ؟!، والسكائر تتوالى !.
أو شرطي عصبي المزاج ، يهوي بقبضته على صندوق سيارتي صارخا (شبيك أطرش)؟!، أو سيطرات مسببة لأحتقان مروري يجعلك تتمنى الموت حرفيا ، حنقا ومللا .
يوقفني (شرطي المرور) قائلا : (ليش ما لابس حزام الامان ؟) ، أمان ، هه ، كلمة مفقودة في هذا البلد ، لأن خطية الدولة حريصة عليّ من أن اصاب بكدمات عند تعرضي لحادث سير ، في بلد أشاراته المرورية لا تعمل ، وشوارعه غير معبّدة ، والسيطرات لا تسمح لك بقيادة سريعة أصلا ! ، وفي خضم هذه التساؤلات ، وبعد ان حصل شرطي المرور على (أتاوته) ، أكون قد دخّنت (نص باكيت) !.
مصطلحات دخيلة اندست مع (حرية) العراق الجديد تشعرني بالغثيان ، كـ (المناطق المتنازع عليها) و(الدفع بالأجل) في بلد يتحدثون ساسته عن فائض هائل من عائدات النفط ، ولا أدري اين يذهب هذا (الفائض) .
هربت مرة من حزن بغداد الى اربيل ، لأفاجأ بطوابير طويلة امام شبابيك (الأقامة) ، وتعجبت من الاستخفاف الممنهج للسلطات بالزائرين هناك ، وعندما عم التململ الجموع ، خرج علينا أحد (الأسايش ) الاشاوس صارخا بغضب (اللي ما يعجبة يولـّي) ! ، نظرت الى الارض ، فوجدتها وقد امتلأت بأعقاب السكائر !.
أيها العراقي ، أيها المحكوم بالاعدام مع وقف التنفيذ الى أجل غير مسمّى ، تأكد انك ستموت وانت في هذه المعمعة والفوضى ، قبل ان تموت بالسرطان وأمراض القلب الذي تسببه السكائر !.