لم تؤشر وقائع الاتصال الهاتفي قبل بضعة ايام بين رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والرئيس الاميركي المنتخب دونالد ترامب الى مسارات وخيارات واضحة للاخير حيال العراق، مثلما لم تتضمن حملته الانتخابية التي امتدت بضعة شهور الى شيء من هذا القبيل، يمكن الاستناد عليه والركون اليه لاستشراف مايمكن ان يطرأ من متغيرات في المشهد العراقي بعد انتهاء ثمانية اعوام “ديمقراطية”، لتبدأ حقبة “جمهورية”، ربما تمتد لثمانية اعوام ايضا، وربما اكثر او اقل من ذلك.
في ذلك الاتصال الهاتفي، هنأ الرئيس الاميركي المنتخب، الرئيس العبادي بالانتصارات المتحققة على تنظيم داعش الارهابي خلال العمليات العسكري الجارية منذ ستة اسابيع لتحرير محافظة نينوى، ودعاه لزيارة الولايات المتحدة الاميركية في اقرب وقت بعد تنصيبه رسميا في العشرين من شهر كانون الثاني-يناير المقبل.
قد يكون من الطبيعي ان لايتمخض اتصال تهنئة هاتفي سريع، ذو طابع دبلوماسي بروتوكولي، عن معطيات عملية، علما ان هناك من التقط تهنئة ترامب بالانتصارات على داعش، وتوجيهه دعوة للعبادي لزيارة الولايات المتحدة، وراح يقرأ على ضوئها معالم وملامح المرحلة المقبلة بطريقة متفاءلة الى حد كبير.
وسواء تعلق الامر بالعراق، او بأي ملف اخر، فأن ثمة حقائق ومعطيات، لابد من اخذها بنظر الاعتبار وتجنب اهمالها والتغاضي عنها تحت أي مبرر من المبررات.
ولعل من بين تلك الحقائق والمعطيات، بل في مقدمتها، هي ان في السياسة الاميركية-وخصوصا الخارجية-هناك ثوابت محددة لايمكن لاي رئيس، جمهوريا كان ام ديمقراطيا ان يحيد عنها، وهامشه هنا ينحصر في المسارات والادوات التي يختارها، وطبيعة الخطاب الذي يتبناه للمحافظة على تلك الثوابت.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، يعد دعم واسناد وتقوية الكيان الصهيوني، احد اهم وابرز ثوابت السياسة الاميركية على طول الخط، وكذلك دعم واسناد الانظمة والحكومات الحليفة والتابعة في سياساتها للولايات المتحدة، بصرف النظر عن الطبيعة الاستبدادية-الديكتاتورية لتلك الانظمة والحكومات، ومواجهة كل الاطراف، دولا كانت ام احزاب ام منظمات ام شخصيات، تقف في صف المقاومة والممانعة.
ومن بين تلك الحقائق والمعطيات، المحافظة على الزعامة العالمية للولايات المتحدة الاميركية، والعمل على اعطاء الاولوية لمصالحها الخاصة، وتغيير التكتيكات وبناء التحالفات والعلاقات على ضوء ما تقتضيه وتتطلبه هذه المصالح، فمن هو اليوم عدو وخصم لواشنطن، يمكن ان يصبح صديقا حميما لها يوم غد، وهذا المبدأ لايرتبط بهوية من يتربع على عرش البيت الابيض، ويمسك بزمام الامور في واشنطن.
رفع دونالد ترامب “لجعل اميركا عظيمة من جديد- make America great again””، شعارا لحملته الانتخابية، ورفعت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلنتون شعار “معا اقوى- stronger together”، وفي واقع الامر لايختلف هذين الشعارين عن بعضهما البعض من حيث الجوهر والمضمون، واذا كان هناك اختلاف، فهو يكمن في اليات ووسائل واساليب التسويق، التي تستهدف كسب اكبر عدد من اصوات الناخبين.
والملفت انه بينما كان هناك وضوح على درجة كبيرة في مواقف كل من ترامب وكلنتون فيما يتعلق بالقضايا والملفات الداخلية، مثل الهجرة والاقليات والضرائب والضمان الصحي والاجتماعي، كان هناك غموض وضبابية بشان الملفات الخارجية، مثل كيفية مواجهة الارهاب، وكيفية ادارة ملفات الصراع المتعددة في منطقة الشرق الاوسط وغيرها، كالملف السوري، والملف اليمني، والملف الافغاني، والملف العراقي، والملف الفلسطيني، وطبيعة العلاقات الاميركية-الاوربية، والعلاقات الروسية-الاميركية.
وهذا الغموض وتلك الضبابية، مردها اما الى ان الناخب الاميركي غير معني بالقضايا الخارجية قدر اهتمامه بالقضايا الداخلية التي تمس واقعه الحياتي اليومي على وجه العموم، او لان القضايا الخارجية على قدر من التعقيد والتشابك والتداخل، بحيث يصعب تحديد مواقف وتوجهات واضحة بشأنها، وحتى ما يبدو واضحا في وقت ما وبالنسبة للبعض فأنه عند التعمق والتدقيق فيه لايبدو كذلك، فهل يعقل مثلا ان تصبح الولايات المتحدة الاميركية في ظل ترامب حليفة لروسيا لمجرد ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دعم وساند وايد ترامب، بل وساهم في فوزه من خلال اضعاف منافسته كلنتون، مثلما تروج لذلك اوساط الحزب الديمقراطي؟.
وهل يعقل ان نتصور ان الولايات المتحدة الاميركية ستدير ظهرها لاوربا والصين، كما روج لذلك ترامب في حملته الانتخابية، ليقلق معظم العواصم الاوربية، ويفزعها بعد صدمة فوزه غير المتوقع بالنسبة لها؟.
ومع العراق، الذي قد لايشكل لوحده اولوية لدى ترامب، لن يختلف الامر كثيرا، لان ما يشهده العراق من احداث وتفاعلات، هو في الوقع جزء من مشهد اقليمي ودولي عام، اما ان الولايات المتحدة الاميركية مساهمة في ايجاده، او عاجزة عن توجيه مساراته، وربما الاثنين معا.
اذا كان ترامب الجمهوري يلوم الديمقراطيين ويحملهم تبعات الاوضاع الامنية السيئة في العراق، لاسيما بعد ظهور تنظيم داعش وسيطرته على اجزاء واسعة من العراق صيف عام 2014، فأن الديمقراطيين يعتبرون ان الجمهوريين هم من يتحملون مسؤولية كل الاخطاء والسلبيات في العراق، لانهم هم من شنوا الحرب لاسقاط نظام صدام، وهم من اسسوا للواقع الجديد، وساهموا بأستفحال الارهاب.
يمكن ان يقول دونالد ترامب، انه سيعزز التواجد العسكري الاميركي في العراق للقضاء على داعش، ويمكن ان يقول انه سيزيد من دعم وتقوية الجيش العراقي، ويمكن ان يقول انه سيفتح حوارا بناء مع مختلف الساسة العراقيين المؤثرين لترسيخ العملية السياسية وتلافي نقاط الضعف ومواطن الضعف والقصور فيها.
ماذا يمكنه ان يقول غير ذلك، وما الذي سوف يفعله ليعالج الاخطاء السابقة، سواء كان مصدرها الجمهوريين او الديمقراطيين؟.
الاجابة على مثل تلك التساؤلات، لاتتطلب سوى العودة قليلا الى الوراء، والتأمل والتدقيق والمقارنة بين عهدي جورج بوش الاب وبيل كلنتون، وبين عهدي الاخير وبوش الابن، وبين عهدي الاخير واوباما.
وقبل بضعة ايام صرح السفير الاميركي في العراق دوغلاس سوليمان “بأن السياسة الخارجية الامريكية في العراق لن تتغير”، وكما يقول السياسي العراقي ووزير النفط السابق عادل عبد المهدي “ان تلك السياسة اتجهت في زمن بوش للتدخل الواسع، وتنصلت عن اية التزامات في فترة اوباما الاولى، وعادت للاهتمام منذ عامين”. بيد ان مجمل النتائج لم تتبدل.
في الواقع لن يجد المراقب والمتابع بدقة وموضوعية اختلافات وفوارق يعتد بها، ومن يتوقع ويأمل ان يأتي ترامب بجديد للعراق ولغير العراق فهو واهم، لان تغيير الشخوص والعناوين لايعني بأي حال من الاحوال تغيير الثوابت، والثوابت لاتغيرها الا الثورات.
لايعني تفاهم ترامب مع بوتين-اذا حصل فعلا-اغلاق كل الملفات الخلافية بين واشنطن وموسكو، ولايعني انتقاده للسعودية، انه يمكن ان يؤسس لتفاهمات جيدة مع ايران، ولايعني عدم انتقاده لبشار الاسد وتهنئته العبادي بالانتصارات انه سيواجه الارهاب بقوة وجدية وصدق.
اذا ادت سياسات ترامب الخارجية الى المزيد من الفوضى والارتباك في المنطقة والعالم فأن العراق لن يكون بمنأى عنها، وحتى الان لايلوح في الافق ما يوحي ويؤشر الى انه سيتصرف بحكمة اكثر من سلفه او اسلافه، ان لم تكن المؤشرات تذهب بالاتجاه المعاكس!.