من الوقائع التي وقفت امامها مندهشا ومتعجبا في تاريخ الكاتب السوفيتي الكبير ايليا غريغوريفتش ايرنبورغ (1890 –1967) – هو عدد المقالات التي كتبها اثناء الحرب العالمية الثانية , والتي بلغ عددها اكثر من مجموع ايام تلك الحرب نفسها , ومن المعروف ان الحرب الالمانية ضد الاتحاد السوفيتي بدأت بتاريخ 22 حزيران / يونيو عام 1941 وانتهت بتاريخ 9 مايس / مايو عام 1945 , وهذا يعني انها استمرت 1418 يوما حسب أرقام كل المصادر عن تلك الحرب, وهذا يعني ايضا ان ايرنبورغ كان يكتب بعض الاحيان اكثر من مقال واحد في اليوم الواحد , واحاول في هذه السطور الوجيزة ان اتوقف عند هذه الظاهرة الفريدة والغريبة والرائعة والمتميزة فعلا في تاريخ الادب الروسي في القرن العشرين , وان ارسم للقارئ العربي صورة عامة واجمالية عن روحية تلك المقالات وطبيعتها واتجاهاتها واتمنى ان استطيع لاحقا ان اترجم الى العربية مجموعة مختارة منها في الاقل , اذ اني اعتقد اعتقادا جازما ان ايليا ايرنبورغ قد اعطانا نموذجا فريدا و رائعا يمكن ان يكون درسا كبيرا ومهما فعلا لاي كاتب او اديب في العالم اثناء تعرض وطنه الى محنة كبرى , مثل تلك المحنة الرهيبة التي حدثت زمن الهجوم الالماني النازي ذاك على الاتحاد السوفيتي في حينه في تلك الايام العصيبة آنذاك .
لم استطع – بدءا – ان احدد عدد تلك المقالات اثناء الحرب العالمية الثانية التي كتبها ايليا ايرنبورغ لكثرتها الكاثرة كما يقال , فقد اشارت بعض المصادر الى انها اكثر من 1500 مقالة , بينما ذكرت مصادر اخرى انها حوالي 2000 مقالة تقريبا , اذ كتبت تلك المصادر الى ضرورة ان تدخل
ضمن اعدادها حتما المقابلات والتحقيقات الصحفية والاذاعية ( لم يكن عندها كما هو معروف طبعا البث التلفزيوني ) السوفيتية والعالمية معه اثناء الحرب تلك , وفي كل الاحوال, ورغم هذا التباين الواضح في اعداد تلك المقالات التي كتبها حول الحرب , فانها لم تدخل في مؤلفاته الكاملة, التي صدرت باشراف ايرنبورغ نفسه في الستينات من القرن الماضي في موسكو , ولكن صدر في روسيا الاتحادية كتاب عام 2004 بعنوان – ( الحرب 1941 – 1945) والذي يقع ب 796 صفحة من القطع المتوسط , وتم طبع 10000 نسخة منه, وقد جاء في اعلان دار النشر التي قامت بالاعداد لهذا الكتاب وطبعه ونشره , انه اول اصدار في الستين سنة الاخيرة في روسيا لمقالات اكبر الادباء شهرة في الاتحاد السوفيتي اثناء الحرب العالمية الثانية ( ويسمونها في روسيا الحرب الوطنية العظمى ) وهو ايليا ايرنبورغ . يضم الكتاب 200 مقالة مختارة من تلك المقالات ليس الا , وقد انتقاها المعدون لهذا الكتاب بعناية خاصة ودقيقة , وأخذوها من الجرائد الحربية التي كانت تصدر في جبهات القتال و من جرائد المقاومة في المناطق المحتلة السوفيتية آنذاك من قبل الغزاة الهتلرين , و حتى من تلك الجرائد التي كانت تصدر في البلدان المحتلة الاوربية الاخرى عن طريق المقاومة السرية للاحتلال وباشرافها , ويشير الاعلان هذا الى ان هذه المقالات ليست عرضا للاحداث اثناء تلك الحرب , وانما هي افعال ساهمت فعلا في تعبيد الطريق نحو النصر . هذا وقد جاء في مستهل مقدمة الكتاب ( التي كتبها بوريس فريزينسكي ) مقطع مما كتبه الشاعر الروسي السوفيتي الشهير سيمونوف عام 1973 حول ايرنبورغ , والذي أشار الى ان ما فعله ايرنبورغ في مقالاته تلك قد جعله مؤثٌرا على ( عقول وقلوب القراء اثناء الحرب ) واصبح نتيجة ذلك ( حبيب الجيش المحارب … و حبيب الشعب المحارب ) , اما القائد العسكري والذي يحمل رتبة مارشال الاتحاد السوفيتي باغاريان , فقد أشار في مستهل تلك المقدمة ايضا الى ان قلم ايرنبورغ في تلك الحرب ( كان أكثر فعالية من الرشاشات ) , وجاءت تلك المقدمة نفسها وبعنوان – ( لنتذكر . ) ( حرب ايليا ايرنبورغ ) وهي
واقعيا بمثابة دراسة تحليلية عامة لتلك المجموعة الكبيرة من هذه المقالات , ونقرأ فيها ما يأتي من السطور – ( هذا كتاب لا يهدف الى متعتكم . انه ليس رواية مغامرات …مثلما يصورون الحرب في مختلف قنوات التلفاز في ذكرى الانتصارات …وهو ليس دليلا جدٌيا في تاريخ الحرب , والذي يؤدي بالقارئ ان يعرف اسبابها ونتائجها واسرارها وشخوصها وعملياتها… وليس هذا كتاب مذكرات مشارك في الحرب وصورا من الحياة العسكرية ومعاناة المؤلف فيها …انه مجموعة مقالات ايرنبورغ التي كتبها اثناء اربع سنوات لتلك الحرب وكلماته الى المقاتلين قبل كل شئ …) . ختاما لهذا العرض السريع لهذه المقالات المهمة اود ان أشير هنا الى عناوين بعضها ليس الا , والتي يمكن ان توضح بشكل او بآخر قيمتها واهميتها ولو باختصار , وهي كما يأتي –
في اليوم الاول // حانت الساعة // باريس تحت أحذية الفاشست // ائتلاف الحرية // نحن لا ننسى // الكذب // الحياة والموت // ديغول // نحن سنصمد // جبهة الشعوب // الروح السوداء // دموع من الثلج // الساعة تقترب // الشهود // الحرب الثانية // …الخ .
ايليا ايرنبورغ بالنسبة للقارئ العربي هو روائي وناقد ادبي وشخصية اجتماعية كبيرة , ولكن القارئ العربي لا يعرف بشكل معمق الجوانب الابداعية الاخرى له , اذ انه – اضافة الى ماذكرنا – شاعر كبير ومترجم عن اللغتين الفرنسية والاسبانية ومصور التقط عشرات الصور الفنية , والان نضيف انه كاتب مقالات من الطراز الاول , وقد استطاع عبر مقالاته تلك اثناء الحرب العالمية الثانية ان يثبت قوة الاعلام وسلطة الكلمة المكتوبة ودورها العظيم في تلك المنعطفات الكبرى بتاريخ الشعوب.