ولد ايليا غريغوريفتش ايرنبورغ في مدينة كييف عام 1891 وتوفي في موسكو عام 1967, وبدأ نشاطه بالمشاركة في الحركة السياسية الثورية الروسية عام 1906 وتم اعتقاله عام 1908 وبقي في السجن لمدة ستة اشهر واطلقوا سراحه قبل المحاكمة, وفي نهاية تلك السنة ارسلته عائلته الى باريس,وعاش هناك حوالي تسع سنوات, وابتعد بالتدريج عن النشاط السياسي( رغم انه التقى لينين وآخرين من رجالات السياسة) واصبح ( فنانا حرا – حسب تعبيره )وأخذ يختلط بالشعراء والرسامين والفنانين ( الذين اشتهروا فيما بعد ) مثل بيكاسو وشاغال وابولينير …الخ, واصدر في باريس اول كتاب له عام 1910 وهو مجموعة شعرية بعنوان – ( قصائد ), واصدر بعدها عدة مجاميع شعرية اخرى, وساهم في ترجمة الشعر الفرنسي الى اللغة الروسية واصدر عام 1914 كتابا بعنوان – ( شعراء فرنسا من 1870 الى 1913), وعندما بدأت الحرب العالمية الاولى في عام 1914 اصبح مراسلا لجريدتين روسيتين هما – (صباح روسيا ) و (اخبار البورصة ), وصدرت له عام 1916 في موسكو مجموعة شعرية تناولت انطباعاته عن تلك الحرب , وصدر له لاحقا ايضا كتاب في صوفيا عام 1920 تضمن مقالات عن تلك الحرب.
عاد ايليا ايرنبورغ الى روسيا في صيف 1917, وكان في موسكو اثناء ثورة اكتوبر البلشفية عام 1917, وكما هو حال اكثرية المثقفين الروس, لم يتقبل ايرنبورغ استخدام القوة والعنف من قبل البلاشفة, والتي شاهدها آنذاك, واصدر عام 1918 مجموعة شعرية بعنوان – ( صلاة حول روسيا) عكست موقفه هذا, وأخذ ينشر مقالات معادية للبلاشفة, ويعود عام 1918 الى مدينته كييف وينشر هناك عام 1919 اصدارا موسعا ل (صلاة حول روسيا ) بعنوان –( في ساحة الموت ) , ولكنه عندما يصبح شاهدا على المذابح واعدام الاسرى والفظائع الاخرى , يعيد النظر بموقفه الفكري ويعود الى موسكوعام 1921, ويستلم هناك جواز سفر سوفيتي ويسافر مرة اخرى الى الخارج, ولا يعتبر سفرته ( هجرة ) كما حدث لكثير من مثقفي روسيا في حينه, بل( ايفاد ابداعي لكتابة رواية), ويمكث فعلا في بلجيكا ويكتب رواية بعنوان – (مغامرة غير اعتيادية لخوليو خورينتو وتلامذته ),وقد صدرت هذه الرواية في برلين عام 1922, وفي موسكو عام 1923, وكتب مقدمتها بوخارين,صديقه في سنوات العمل الثوري السري آنذاك (تم اعدام بوخارين من قبل ستالين عام 1937 كما هو معروف), وكان البطل الرئيسي في تلك الرواية هو المكسيكي خورينتو, الذي عكس فيه ايرنبورغ نفاق سلطة المال والحرية الكاذبة , ولم تطبع هذه الرواية في الاتحاد السوفيتي فيما بعد لاكثر من ثلاثين سنة, وصدرت فقط في المؤلفات الكاملة له بتسعة اجزاء في موسكو ( 1962 – 1967) , وتم حذف فصل كامل منها. لقد كان ايرنبورغ في تلك الرواية ضد المجتمع البرجوازي القديم طبعا, ولكنه وجد هناك عناصر مضادة للانسانية في المجتمع الجديد .
كان وضع ايرنبورغ في العشرينيات غير اعتياديا بالكامل, اذ انه عاش في برلين سنوات 1921 الى 1923, ثم انتقل الى باريس عام 1924, وكان يزور روسيا نادرا, ولهذا فان الكثيرين من المهاجرين الروس المضادين لثورة اكتوبر كانوا يرفضونه في اوربا, اما في داخل روسيا فكانوا ينظرون اليه على انه (كاذب ) و ( دون مبادئ).
اصدر ايرنبورغ في باريس عام 1925 رواية (صدرت في موسكو عام 1927) بعنوان – ( النفعي) تتناول حياة اخوين ومسيرتهما عبر الثورة , احدهما نفعي انتهازي منافق ومتملق, والاخر شيوعي نموذجي يخاف من اية خطوة تميزه عن الاخرين. ثم صدرت له بعد ذلك عدة كتب تتضمن قصصا ومقالات حول الفن وانطباعات في ادب الرحلات, وعندما بدأت الضربات الاولى ضد ادباء روس كبار مثل بولغاكوف وزوشنكو, فهم ايرنبورغ ان الادب النقدي الساخر غير مرغوب به في روسيا السوفيتية بقيادة ستالين, وهي آراء تحدث عنها ادباء الغرب آنذاك, وكتب عن ذلك لاحقا في مذكراته التي نشرها بعنوان – (الناس. السنوات. الحياة), وعندما بدأت نذر الحرب العالمية الثانية, شعر ايرنبورغ بها, وبدأ بالمشاركة في اعمال ونشاطات الادباء المعادين للفاشية في اواسط الثلاثينيات , واصبح مراسلا في جبهات الحرب الاسبانية ( 1936-1939), وشاهد الهجوم الهتلري على فرنسا. لقد كان ايرنبورغ يشجب الفاشية, وكان ضد القوى اليمينية في فرنسا واسبانيا, وكان يعتبر كل من لا يؤيد سياسة ستالين (باعتباره قائد اول دولة اشتراكية في العالم ) ضمن فئة – ( الاعداء ). وقد اشار الباحث الانكليزي غولدبيرغ, الذي كتب سيرة حياة ايرنبورغ بعنوان – (النشاط الادبي و السياسي وفن البقاء حيا ) الى خوف ايرنبورغ من ان يصبح (لاجئا في الداخل ) قد ادى به ان يكون مرتبطا بشكل مباشر بالنظام السوفيتي آنذاك, وهكذا وافق ان يكون مراسلا لجريدة ( ازفستيا ) عام 1932 من اجل الحصول على موافقة بنشر روايته –( اليوم الثاني ), والتي ارسل الى ستالين وبعض اعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي نسخا منها, وحصل على تقييم حماسي من النقد الادبي الرسمي, الذي تحدث عن ميلاد ( فنان جديد ).
ساهم ايرنبورغ في المؤتمر الاول للادباء السوفيت وادى دورا واضحا فيه , وارسل رأسا الى ستالين بعد المؤتمر رسالة يقترح فيها توحيد ادباء اوربا اليساريين على اساس معاداة الفاشية, وتأييد الاتحاد السوفيتي, وقد رحب ستالين بهذه الفكرة.ان هذه الاعمال قد انقذت حياة ايرنبورغ في تلك السنوات العجاف, ولكنها انعكست مع ذلك على ابداعه اللاحق وعلى سمعته.لقد تناول ايرنبورغ في اعماله تبرير سياسة التصنيع كما فعل شولوخوف في روايته – ( الارض البكر حرثناها) التي برر فيها سياسة التجمعات الزراعية. ادى المديح الذي قدمه ستالين لاعمال ايرنبورغ الى – (دوران الرأس ) عند ايرنبورغ, وجعله ضمن من يؤيدون لكل ما كان يجري آنذاك, ولكن ما حدث في الثلاثينيات من تعسفات ضد بوخارين والاخرين, وضد الادباء الروس بالذات, جعل ايرنبورغ يتأمل موقفه هذا, وبالتالي حاول ان ينتقل الى الخارج,وهذا ما حصل ,وهناك ,من اسبانيا وفرنسا كتب مئات المقالات حول النضال ضد الفاشية, واصدر عام 1941 رواية – ( سقوط باريس ), والتي حازت عام 1942 على جائزة ستالين, وعاد من باريس المحتلة الى موسكو وكتب انطباعاته عن احتلال فرنسا وشجب هؤلاء الذين تعاونوا مع المحتلين واندحار الديمقراطية الغربية, الا انه بالطبع لم يستطع ان يكتب عن المعاهدة بين ستالين وهتلر ولا عن الاضطهادات في الاتحاد السوفيتي آنذاك. وعند بدء الحرب ضد الاتحاد السوفيتي, كرٌس ايرنبورغ نفسه لكتابات مقالات صحفية مضادة للنازية الهتلرية وهجومها على الاتحاد السوفيتي, وقد نشر منذ 22 حزيران /يونيو 1941-(تاريخ هجوم المانيا الهتلرية على الاتحاد السوفيتي ) وطوال الحرب التي استمرت 1418 يوما, اكثر من 2000 مقالة, وكانت تلك المقالات تنشر في جريدة – ( النجم الاحمر ) الناطقة باسم الجيش السوفيتي, وفي جرائد الجبهة الاخرى, وقد نشرت وسائل الاعلام الغربية في امريكا وانكلترا والسويد وفرنسا الكثير من هذه المقالات. ان عمل ونشاط ايرنبورغ هذا يعتبر – ( بطولة يومية تقف جنبا لجنب مع بطولات الجنود المقاتلين في جبهات الحرب ). لقد انطلقت تلك المقالات من مفهوم محدد وواضح وهو – ان هذه حرب القضية العادلة, ولا يوجد في تاريخ المقالات السياسية شيئا – ما مشابها لهذا العمل العملاق الذي قام به ايرنبورغ, ولا بالدور والتأثير لتلك المقالات على القراء و المقاتلين في آن واحد.
اعتقد المنتصرون عام 1945, ان حياة اخرى تنتظرهم بعد الانتصار لا تشبه تلك التي كانت قبل الحرب, وهذا ما اعتقده ايرنبورغ ايضا, ولكن شهد عام 1946 حملة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ضد مجلة ( النجم ) ومجلة ( لينينغراد) الادبيتين, تلك الحملة التي قادها جدانوف, وهكذا اضطر ايرنبورغ الى ايقاف اصدار كتابه الموسوم – ( الكتاب الاسود ), والذي اراد نشره آنذاك.
صدرت رواية – ( العاصفة) عام 1947,والتي اعجبت ستالين شخصيا, وتم منحه جائزة ستالين للدولة على تلك الرواية ( كتب عنها ايرنبورغ فيما بعد انها كانت ضعيفة ). استمرت حملة الاعدامات لاناس قريبين للكاتب, الا انهم لم يمسوا ايرنبورغ بسوء لانه حائز على جائزة ستالين. نشرت جريدة برافدا في عام 1949 مقالة ايرنبورغ الموسومة- ( الاحاسيس الكبيرة ), وهي مكرسة ليوبيل القائد , وكانت بالطبع مثل مقالات الاخرين, وقال عنها ايرنبورغ فيما بعد – ( انا لم احب ستالين, لكنني ولفترة طويلة كنت اثق به, وكنت أخاف منه..), والكلمات الاخيرة بالطبع هي مفتاح لكل شئ.
المعاناة الحقيقية لايرنبورغ حدثت عندما رفض التوقيع على رسالة الشخصيات الثقافية البارزين و ذوي الاصل اليهودي منهم بالاساس ( وايرنبورغ واحد منهم) بشأن تبرير التهجير الجماعي لليهود السوفيت الى شرقي البلاد , وهي الرسالة التي جاءت بمبادرة من ستالين نفسه . وقد كتب ايرنبورغ رسالة الى ستالين يبين فيها رأيه حول ذلك, وانتهت القضية برمتها بموت ستالين ليس الا , حيث بدأ العصر الذي حددته قصة ايرنبورغ الموسومة- (ذوبان الجليد ) عام 1954. لقد كانت هذه القصة اول نتاج ادبي تناول بشكل مباشر الماضي القريب , وتحدث عن الامل بالتغيير, وتم الاعتراف من قبل المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي على ان هذه القصة مضادة لعبادة الفرد, واستقبلتها الاوساط الادبية والسياسية آنذاك باعتبارها التحدي الشعبي ضد الستالينية, وهكذا بدأ ايرنبورغ طريقه بالدفاع عن ظواهر الشعر والفن التشكيلي والمسرح …الخ, وطرح كثيرا من الاسماء التي كانت ممنوعة في ثقافة القرن العشرين, وهكذا عادت اسماء واصبحت معروفة من جديد بفضل نشاط ايرنبورغ هذا, ومن تلك الاسماء – تسفيتايفا و مندلشتام وميرخولد وآخرين. ونشر ايرنبورغ عام 1958 كتابه الموسوم – ( الدفاتر الفرنسية ), والذي تناول فيه الانطباعية في الفن التشكيلي
, وتحدث عن سيزان ورينوار ومانيه وبيكاسو…ودافع عن ابداع تشيلر وكونجالوفسكي وساريان… وأكٌد على ضرورة تنوع الاشكال في الفن.
اعتبر ايرنبورغ ان مهمته الاخيرة في الحياة هي كتابة مذكراته, والتي بدأ بنشرها فعلا في مجلة (نوفي مير ) (العالم الجديد ), الا انه اصطدم بالرقابة التي بدأت في القيادة الايدولوجية الجديدة للبلاد بقيادة بريجنيف,وحذفت الرقابة بعض التقييمات في مجال الفن والادب, وقاوم ايرنبورغ , ولكنه لم يستطع. وفقط في عام 1990 صدرت الطبعة الكاملة للمذكرات في ثلاثة اجزاء. لقد شملت المذكرات الموسومة – ( الناس. السنوات. الحياة.) عصرا باكمله, وتضمنت ملاحظات هائلة وافكار, وتناولت شخصيات فكرية عديدة في اوساط الادب والمسرح والسياسة, بما فيها بعض الاسماء التي كانت ممنوعة لمدة طويلة. ان مذكراته هي استمرار ل ( ذوبان الجليد ), والذي بدأت القيادة مرة اخرى في محاولة ل (تجميد ) هذا الجليد, اذ بدأت متابعات المعارضين ومحاكمات الكاتبين دانييل وسينيافسكي, وقد كان ايرنبورغ ضمن الذين وقعوا على الرسالة دفاعا عنهما, وأثار ذلك حفيظة القيادة الحزبية, وبعد سنة, عندما توفي ايرنبورغ, لم تكن هناك تواقيع بعض قادة الاتحاد السوفيتي على نعيه, كما كانت تجري الامور آنذاك.
لقد اعترف ايرنبورغ انه كثيرا ما (ضل وتاه في الحياة) , اذ انه كان بلشفيا ومعاديا للبلشفية, واستهوته الكاثوليكية بعدئذ, واثناء الحرب الاهلية كان يميل الى الجيش القيصري الابيض, وبعد سنوات خدم ستالين بشكل مخلص, الا انه بقي مخلصا لشئ واحد فقط طوال حياته ولم يتغير بشأنه وهو- حبه للثقافة واخلاصه لها.
روباشكين أ. ي.
معجم الادباء الروس في القرن العشرين
موسكو 2000