ايرنبورغ والسلطة – هوعنوان لكتاب صدر في روسيا عام 2018 ضمن سلسلة ( اصدارات علمية ) , ويقع هذا الكتاب في 215 صفحة من القطع المتوسط وعدد النسخ المطبوعة منه هو مئة نسخة فقط .
عنوان هذا الكتاب أثار انتباهي رأسا , اذ اني أعرف , ان ايليا ايرنبورغ ولد عام 1891 , اي انه عاش في الامبراطورية الروسية 26 سنة باكملها , وبعد ثورة اكتوبر 1917 الاشتراكية عاش في دولة الاتحاد السوفيتي 50 سنة باكملها , وكان ايرنبورغ طوال حياته مراقبا دقيقا لما كان يحدث في الامبراطورية الروسية وفي الاتحاد السوفيتي , فعن اي سلطة يدور الحديث في هذا الكتاب , السلطة القيصرية ام السلطة السوفيتية ؟ هذا هو السؤال الاول الذي طرحه عنوان الكتاب , وثانيا , أنا أعرف ايضا , ان ايرنبورغ كان في صباه وشبابه مشاركا – وبفعّالية ونشاط – في معترك الحياة السياسية العاصفة قبل ثورة اكتوبر 1917, وكان مرتبطا بالحياة الحزبية المعارضة آنذاك , وتم الحكم عليه نتيجة مساهماته السياسية تلك , ولكنه ابتعد عن هذا المعترك السياسي بعد هجرته و حياته في باريس بالعشرينيات , ,وانا أعرف ايضا , ان ايرنبورغ بقي ( قريبا وبعيدا في آن واحد !!!) من السلطة السوفيتية و رجالاتها بعد عودته الى روسيا السوفيتية , وانه حافظ على هذا الموقع المتميّز طوال حياته رغم كل الصعوبات المرتبطة بهذا الموقف غير الحزبي في دولة عقائدية واضحة وصريحة المعالم ايديولوجيّا مثل الاتحاد السوفيتي , و أثار انتباهي حول هذا الكتاب , ثالثا , ( عدد النسخ المطبوعة !) من هذا الاصدار , اذ ان هذا العدد ( اي مئة نسخة مطبوعة فقط ) يعني ان هذا كتاب محدود التداول جدا , وليس للقراء عامة , فلماذا هذا التحديد في التداول بالنسبة لهذا الاصدار ؟, ولهذا , وبحثا عن الاجابات لكل تلك التساؤلات , قررت , انه يجب عليّ الاطلاع حتما على هذا الكتاب غير الاعتياي والمثير بعنوانه وخصوصيته , وعندها بدأت بالاطلاع على الفهرس اولا , وبعد الفهرس قلت بيني وبين نفسي , انه كتاب يستحق القراءة حتما, وهكذا بدأت ب (التهامه !) , واريد في اطار هذه المقالة التعريفية الوجيزة ان أدردش قليلا مع القراء العرب عن انطباعاتي حول هذا الكتاب غير الاعتيادي فعلا , الذي صدر ضمن ( اصدارات علمية ) , اذ ان ايليا ايرنبورغ معروف للقارئ العربي بنتاجاته الابداعية وآرائه النقدية ومواقفه الفكرية .
يحتوي هذا الكتاب – بالاساس – على وثائق حول العلاقات المتبادلة بين ايليا ايرنبورغ ورجالات السلطة السوفيتية الحاكمة في زمانه , (اي انه يتناول علاقة ايرنبورغ بالسلطة السوفيتية فقط ) , وهم من الاسماء الكبيرة جدا والمؤثّرة جدا في مسيرة الاحداث في الاتحاد السوفيتي والحركة الشيوعية في العالم ايضا , وهذه الاسماء هم كل من – بوخارين وستالين وخروشوف وسوسلوف , وفي هذه ( الوثائق ) الدقيقة حول علاقة ايرنبورغ برجالات السلطة هؤلاء تكمن – بلا شك – اهمية هذا الكتاب وقيمته العلمية وطرافته ايضا , اذ ان العثور على هذه الوثائق في عصرنا المتشابك اصبحت مهمة ليست بسيطة ابدا .
الاسماء الاربعة هذه تجسّد واقعيا اربعة مراحل مختلفة في التاريخ السوفيتي فعلا , فبوخارين يمثّل المرحلة السوفيتية الاولى بعد انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية 1917 , وهي المرحلة التي انتهت باعدامه عام 1938 من قبل ستالين , والمرحلة السوفيتية الثانية تسمى المرحلة الستالينية بكل ما فيها من اعتقالات واعدامات ومعسكرات وسجون , والتي انتهت بوفاته عام 1953 , حيث ابتدأت المرحلة السوفيتية الثالثة , عندما فضح خروشوف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي الجزء الاكبر لما حدث آنذاك زمن ستالين , وتسمى هذه المرحلة حسب عنوان رواية ايرنبورغ القصيرة – ذوبان الجليد , أما المرحلة الرابعة (ما بعد خروشوف) , عندما كان بريجنيف على رأس السلطة السوفيتية, فان سوسلوف كان المنظّر الايديولوجي لتك المرحلة . وهكذا سيعرف قارئ الكتاب , ان بوخارين كان رفيقا لايرنبورغ في المدرسة , وكيف ساعده للتخلص من السجن , وكيف بقي ايرنبورغ وفيّا لذكراه حتى بعد اعدامه , وسيعرف القارئ مواقف ستالين بشأن الادب في العالم وكيف اراد قيادته لصالح الايديولوجية السوفيتية , وسيعرف محاولة ستالين قبيل وفاته بتجميع اليهود السوفييت , وهي محاولة مهمة جدا بالنسبة لمصيرهم , ولمصير اسرائيل , التي قامت لتوّها آنذاك , وتعدّ هذه القضية في غاية الاهمية لبلداننا العربية , والتي تتطلب دراستها من قبل المتخصصين عندنا و بموضوعية تامة , وبعيدا عن ( الهتافات والكلمات الطنانة !) , التي ( غرقنا بها !) مع الاسف , وسيعرف القارئ ايضا , ان خروشوف ليس ذلك الشخص , الذي كان يمكن ان يسير الى النهاية في تنفيذ كل الوعود , التي اطلقها في بداية مجيئه للسلطة , اذ ان البناء الايديولوجي لحكم الحزب الواحد لم يتغيّر في الاتحاد السوفيتي عندها , وسيفهم القارئ ايضا , محدودية افكار سوسلوف …
كتاب – ايرنبورغ والسلطة , محاولة مهمة في تجميع المواد الضرورية للبحث العلمي اللاحق في تاريخ العلاقة بين السلطة والابداع الفني , بغض النظر عن الدولة والمبدع , وما أحوجنا نحن الى هذه الاصدارات العلمية , نحن , ابناء هذه البلدان , التي ابتلت بوباء حكم هؤلاء , الذين (يدسّون!) انوفهم في تفاصيل حياتنا , او, حسب تعبير الشاعر ناظم حكمت – ( …..شواربهم في حسائنا ….) .