مازالت العلاقات العراقية الإيرانية في تقاطعات غير مستقرة وكأنها كتاب بصفحات غير منتظمة تتعب القارئ فلا يدري من أين يبدأ والى أين ينتهي. شهدت العقود الاخيرة حالة من الاضطراب انعكست سلبا على المجتمعين العراقي والإيراني وفي كل صفحة من صفحات العلاقة او قل في كل عقد من العقود الماضية يكون الضرر بفاتورة باهضة يدفعها المواطن البسيط من ماله او دمه او كليهما ولنا في حرب استمرت ثماني سنوات أكلت الأخضر واليابس مايغني عن القول والتفصيل.
هذا الاضطراب يمثل مؤشرا واضحا لغياب الرؤية عند اصحاب القرار في البلدين ، وغياب الرؤية يتجلى في حالة النشوة التي تملك صاحب القرار عندما يضعف خصمه فينبري ليخرج أسوأ ما عنده من أقوال وأفعال وعقد الثمانينات شاهد على سلوكيات القيادة المراهقة لحزب البعث والعقد الأخير شاهد على انجراف القيادة الإيرانية في العراق الى مشروع بلا مستقبل سوى المزيد من الدماء والأحقاد وفاتورة جديدة من الأحقاد والدماء تسدد لاحقا من قبل الأخوة في الجمهورية الاسلامية حين يأتي وقت التحول من القوة الى الضعف وكأننا في حلقة مفرغة لا خروج منها من ثأر لا نهاية له.
والسؤال الذي يفكر الجميع في إجابته هل من صيغة يربح بها الجميع؟
طاقم القيادة لعراق اليوم واقصد به الرئاسات الثلاث معصوم والعبادي والجبوري ننتظر منهم الحكمة في بناء نموذج جديد للعلاقة مع ايران وهذا النموذج مبني على مشروع اكثر ماهو مبني على عاطفة ، فهل من مشروع يمكن البناء عليه ؟
يحضرني من تصريحات أيزنهاور المشهورة في بداية الخمسينات قوله 🙁 ليس هناك منطقة استراتيجية ومهمة اكثر من منطقة الشرق الأوسط ) .
في أواسط الخمسينات استوعب بعض القادة السياسيين للمنطقة هذه الحقيقة وانتظموا في تطوير العلاقات من خلال معاهدات واحلاف ومنها ماسمي بحلف بغداد الذي بدأ في ٢٤ شباط ١٩٥٥ بتحالف العراق وتركيا وباكستان ثم انضمت بريطانيا لاحقا في ٥ نيسان ١٩٥٥ وبعدها ايران في ٢٣ تشرين الاول ١٩٥٥ ، اما الولايات المتحدة والتي كانت داعمة لتحالف يهدأ الصراع في المنطقة ويطوق النفوذ السوفيتي المتنامي فقد حضرت كمراقب ثم أصبحت عضوا كاملا في اللجنة الاقتصادية للحلف في ١٩ نيسان ١٩٥٥ ومنعها من الانضمام الكامل الى الحلف الخوف من تطور التوتر السياسي والعسكري من جهة وخشيتها من عرقلة العلاقة المتنامية مع جمال عبد الناصر الذي كان يعارض هذا الحلف بشدة ويسعى لبناء حلف بديل مع الدول العربية يكون زمام القيادة فيه بيده هو.
حلف بغداد لم يكن حلفا استعماريا كما روج له جمال عبد الناصر وحلفاءه بل كان ينظر اليه في تركيا انه العودة الى العالم الاسلامي والعربي من جديد ، وينظر اليه في العراق كبداية لحقبة جديدة تخرج فيها الدول المتجاورة من حالة الصراع الى حالة التعاون وخصوصا بالنسبة للعلاقة مع ايران، وقد زار نوري السعيد رئيس الوزراء العراقي تركيا سنة ١٩٥٤ فقال لرئيس الوزراء التركي عدنان مندريس في تمهيد للمشروع وبيان للرؤية العراقية لمستقبل الشرق الأوسط ( ان أمن العراق يرتبط تماماً بأمن ايران وتركيا) اما عدنان مندريس فقد تجاوب وصرح في مؤتمر صحفي قائلا 🙁 ان تركيا مستعدة لإعطاء كافة انواع الضمانات وذلك بعدم اتخاذ اي خطوة تتعارض مصالح هذه الدول ) وحفز هذا الطرح نوري السعيد الى تطوير مشروعه وسعى الى ضم تركيا الى جامعة الدول العربية والتي وصفها ( اي جامعة الدول العربية) بأنها عاجزة عن حل مشاكل العرب وأنها منظمة وهمية لم تستطع فرض ما تعتقده على أعضائها ولم تحقق وجودها في المجال الدولي . لكن مصر بقيادة جمال عبد الناصر رفضت هذا الطرح وبررت بأن ذلك سيحطم الوحدة العربية بسبب عدم ارتباط تركيا بالعالم العربي.
فكرة حلف بغداد آمنت الهدوء والاستقرار بين العراق وتركيا وإيران وأوجدت مشروع تعاون إقليمي انعكس إيجاباً على الواقع الاقتصادي والاجتماعي لهذه الدول ، واليوم نسأل هل من الممكن ان يبلور قادة العراق بريادتهم وإبداعهم رؤية جديدة تجمع الدول الثلاثة في مشروع ناضج ينتقل بهم من الصراع الى التعاون متجاوزين المرحلة السابقة من اجل مستقبل الأجيال الجديدة ؟ نأمل ذلك.