23 ديسمبر، 2024 6:09 ص

ايران والمطامع والتضليل وغطاء الدين فلاتغيير منذ الثورة للان !!!

ايران والمطامع والتضليل وغطاء الدين فلاتغيير منذ الثورة للان !!!

في أواخر التسعينيات، لفتني مدى الترابط القائم بين أنماط السلوك السياسي في إيران في مرحلة ما بعد الثورة وأنماطه في مرحلة ما قبل الثورة. وقد بدأتُ بوضع أطرٍ عامة لفهم هذه الحقبات التاريخية المختلفة.

ما الذي يقود إلى وصف مبالَغ جدًّا فيه لنظرة الإيرانيين إلى أنفسهم في المنظومة الدولية؟ وما الآليات التي تؤدّي إلى تقييمات إيرانية خاطئة لوقائع المنظومة الدولية؟ ولماذا واجه الإيرانيون باستمرار عوائق كبرى في بناء توافق سياسي وطني؟ ولماذا لم يستطيعوا، على الرغم من احتكاكهم بالغرب منذ أكثر من قرن من الزمن، من مأسسة جوانب الحداثة مثل المنافسة بين الأحزاب السياسية، وتداول السلطة، والحرّيات السياسية؟

عملتُ على هذه المسائل ما يزيد عن عقد من الزمن، وتنقّلتُ في مختلف أنحاء إيران، ونشرتُ ثلاثة كتب باللغة الفارسية. الأول عبارة عن دراسة حول الثقافة السياسية الإيرانية نُشِرت في العام 2004، وصدرت طبعتها السابعة في العام 2019. وقد استندت هذه الدراسة إلى 900 استمارة أجاب عليها مواطنون ومسؤولون في الإدارات العامة. والثاني هو مشروع عن السلطوية الإيرانية خلال حكم سلالة القاجار (1794-1925)، صدر في طبعته الأولى في العام 2011، وفي طبعته الرابعة عشرة في العام 2020. والثالث كتابٌ عن السلطوية الإيرانية في عصر السلالة البهلوية (1925-1979). وحاليًا، أعمل على مشروع رابع عن البنية التحتية النفسية للسلطوية الإيرانية.

لقد اكتشفتُ أوجه الاستمرارية اللافتة في الثقافة السياسية الإيرانية. نادرًا ما تُعاد دوزنة النزعات التي عرفتها المجتمعات القديمة، ومنها إيران. فهي تكون عادةً متحجّرة جدًّا إلى درجة تعصى على تغييرها حتى موجات التحديث والخصخصة الاقتصادية. وفي حين أن تحوّلًا طرأ في العالم المعولَم على أنماط الحياة التي يعيشها عددٌ كبير من الأشخاص في هذه المجتمعات، لا تزال العادات والنزعات القديمة، ولا سيما في الميدان السياسي، هي نفسها. والافتراض الذي أشارت إليه نظريات التحديث في الستينيات ومفاده أن التمكين الاقتصادي يؤدّي إلى تغيير المعتقدات الاجتماعية والسياسية لم تثبت صحّته في عدد كبير من البلدان القديمة. فقد تبيّن مثلًا أن الاعتقاد العام الذي ساد في التسعينيات بأن عضوية الصين في منظمة التجارة العالمية ودخولها القوي إلى الاقتصاد العالمي سوف يؤدّيان إلى ظهور مجتمع مدني حيوي ومنظومة حزبية تنافسية وإلى تطبيق المساءلة السياسية في البلاد، هو مجرد وهم.

يجسّد التاريخ الإيراني النزعة القومية، والأسلوب الإمبريالي في إدارة شؤون الدولة، والحكم السلطوي على امتداد آلاف السنين. ولكن تحوُّل هذه البلاد القديمة إلى دولة قومية حديثة اجتماعيًا وسياسيًا انطبع بالنضالات المستمرة وبمشروع لم يكتمل بعد، في ظل غياب أفقٍ واضح. فالتململ الاقتصادي الذي تعانيه إيران راهنًا، والتشوّش السياسي، والمواجهات في السياسة الخارجية مردّها إلى سلسلة من المقاربات المتجذّرة بقوة في المعطيات التاريخية، لذا يطرح تفكيكها إشكالية. وتتمثّل النزعات الثلاث التي تسود الثقافة السياسية الإيرانية في استخدام أكباش فداء، وفي القبلية السياسية، وفي تفسير بائد للسيادة الوطنية.

 

تنظر إيران إلى التقييم الذاتي النقدي بصورة عامة على أنه مذلّ ومدمِّر للذات، لذا تختار أكباش فداء لتحييد اللوم عنها وإلقائه على أطراف أخرى. ففي الثقافة الإيرانية التي تولي قيمة كبيرة للباطنية، إنها لمفارقة أن تُثمَّن صورة البلاد في الخارج إلى هذه الدرجة. فالسلطوية المتجذّرة تدفع بالشخص في سن صغيرة إلى التعتيم والتمويه. ويُنظَر إلى الغموض واعتماد الأساليب الملتوية بأنهما من الفضائل. يتعلّم الأفراد، من خلال الخبرة في التجارة والسياسة على السواء، التصرف بطريقة هجومية للتحصّن ضد الهجمات المدروسة. لذا، يُعتبر إبراز الذات وتضخيمها وتعظيمها، والهوس بالذات ممارسات شائعة. ويُحاط تعريف المساواة بنوعٍ من الرومنسية الهائمة التي يمكن تلخيصها بأنها تؤكّد على “ضرورة أن تتعامل جميع القوى مع هذا البلد على قدم مساواة معها”.

 

في السلوك الداخلي والدولي على السواء، حسّ التكافؤ مفقود في التصريحات والأحكام التي تُطلَق، ويُنظَر إلى الوضوح والصراحة على أنهما من ضروب السذاجة. وتُحاط جميع المسائل تقريبًا بالالتباس عمدًا. ويقود الاعتراف باقتراف الهفوات إلى فقدان النفوذ، فكم بالأحرى ارتكاب الأخطاء الفادحة.

 

لعل الجانب الأكثر إشكالية في استخدام أكباش الفداء هو أنه يجسّد وجهًا من أوجه الإخفاء والتكتّم. فقبول الواقع يجب أن يكون مشوَّشًا وضبابيًا. يتقبّل المواطنون تدريجيًا أن جميع الأخطاء تحدث بمعزل عن الأفراد وذهنياتهم وقراراتهم، أي بعبارة أخرى، يتعلّمون تجنّب تحمّل مسؤولية أفعالهم. وفي هذا الصدد، من المثير للاهتمام أن كلمة “واقع” ليس لها مصطلح متعارَف عليه يقابلها باللغة الفارسية. فعند التحضير لاستخدام أكباش الفداء، تُعدّ الأفكار المجرّدة أكثر ملاءمة بكثير من الوقائع والملاحظات والعلوم. فترويج الأوهام وإخفاء الحقائق يتفوّقان إلى حدٍّ كبير على تحمّل المسؤولية والالتزام. ومن أجل فهم خطأ أو إخفاق أو كارثة أو انهيار، يجب البحث عن أسباب خارجية، مثل قدر الإنسان أو أيادٍ خفيّة أو الحكومة أو بلدان أخرى، أو بالطبع الإمبرياليين والقوى العظمى.

 

في الأزمنة العادية، يسود الرضا الدائم عن الذات في المشهدَين السياسي والاجتماعي. فعلى مر العقود، ونتيجة الغياب شبه التام للتقييم الذاتي، انطبع التاريخ الإيراني بانعطافات حادة مفاجئة وإدراك فجائي للأزمات.

 

القبلية السياسية جانبٌ ثانٍ من جوانب الثقافة السياسية الإيرانية. فالشرق الأوسط الأوسع لا يتألّف من دول قومية حيث تُحدِّد هويةٌ جماعية هدفًا وتوجّهًا على المستوى الوطني. وفي حقبةٍ يسودها انعدام الثقة وعدم إمكانية التنبّؤ بالأحداث، يتعلّم المرء أن يركّز معظم جهوده تقريبًا على المصالح الضيّقة. يتعلّم الأفراد تدريجيًا، من خلال التجربة القاسية، عدم المشاركة أو الالتزام أو التعبير جهارًا عن آرائهم. وينطبق قول مأثور يعود لقرونٍ مضت على السلوك الاجتماعي: “قُم بالتعتيم على ثلاثة أشياء في حياتك وإخفائها: أفكارك وكنزك ودينك”. وتترتّب عن هذا الفكر تبعات نفسية، إذ يولّد لدى الأشخاص مشاعر عميقة بعدم الأمان وضعف الثقة في النفس.

 

لا يمكن أن تقود هذه المستويات من الارتياب إلى تحرّك جماعي، أو إلى ظهور أحزاب سياسية تنافسية، أو إلى إبرام عقدٍ اجتماعي. لا بل يسود الرضوخ واللامبالاة ويتحوّلان إلى سمةٍ وطنية. نتيجةً لذلك، تصبح القيادة وإدارة شؤون الدولة حكرًا على مجموعات صغيرة ومحميّة جيدًا على شكل قبائل سياسية أوليغارشية. ويؤدّي غياب آليات بناء التوافق بين مجموعات سياسية متنافسة إلى التعطيل، واندلاع الثورات، والتدخّل الخارجي، فضلًا عن تداعيات وخيمة ترخي بظلالها على التنوّع. لذلك، طغت على السياسة الإيرانية الثورات بدلًا من الإصلاحات، والتغييرات المتعرّجة بدلًا من التغييرات التطوّرية، وبالانتقال العنيف بدلًا من الانتقال السلمي. لقد تحوّل التأقلم مع إرادة مَن هم في السلطة إلى معيار اجتماعي وسياسي ما زال مستمرًّا حتى يومنا هذا.

 

الخاصّية الثالثة في الثقافة السياسية الإيرانية هي التفسير البائد للسيادة الوطنية. من المدهش فعلًا أن كلمة compromise الإنكليزية الليبرالية والشاملة (والتي تعني “تسوية”)، تقابلها في اللغة الفارسية كلمة “سازش”، التي تُترجَم بـ”الخضوع” و”الانحناء” و”الإذعان” و”الاستسلام” و”التطويع” في القواميس الفارسية، وكلها كلمات تحمل دلالات سلبية جدًّا.

 

لقد أنتجت الأجواء السلطوية في البلاد نظرةً ثنائية إلى العالم، إذ تُصنَّف الأوضاع المختلفة في خانة النجاحات الكاملة أو الإخفاقات الكاملة. وهذه الثنائية تتجلّى في السلوك السياسي، في الأطر الداخلية والخارجية على السواء. فالتشارُك وتقديم تنازلات للتوصل إلى تسويات هما عملتان نادرتان. وتُفسَّر السيادة الوطنية على طريقة “نحن مقابل هم”، ما يؤدّي إما إلى العزلة أو اضطرار الآخرين إلى الرضوخ بالكامل للمطالب الإيرانية.

 

يمكن أن يُربَط جزءٌ كبير من هذا التفسير بالمواجهة بين الإيديولوجيا الدينية والحداثة في التاريخ الإيراني المعاصر. وليس باستطاعة الفرضيات التي هي في أساس الأصولية الدينية أن تتبنّى الحداثة وآليات التحديث. فكل منهما مستقلٌ تمامًا عن الآخر. والتفسير الأصولي للأمّة والدولة وإدارة شؤون الحكم يحول حكمًا دون تبنّي التكافل الاقتصادي، والتحالفات السياسية، والتنوّع الثقافي. وفي اللاوعي الإيراني، تُعتبر المشاركة في إطار إقليمي أو دولي مرادفًا للتخلّي عن السيادة والكرامة والاتضاع والمجد. فالاعتباطية هي موضع استحسان عام. ويُنظَر إلى التنازلات ومساعي التوفيق والمصالحة بأنها عيوب في الشخصية ودعوات للرضوخ. وتُعتبَر القواعد والتنظيمات والإجراءات بأنها قيودٌ تُكبِّل حكمًا حسن التقدير الفردي والملذّات الرائعة. يدفع اللاوعي الفرد إلى التصرّف بمفرده باستعلاء، ويُنظَر إلى السلوك الذي يُشرِك الآخرين بأنه دليل ضعف. وتداعيات ذلك هي الإبقاء على الوضع القائم والرضا الذاتي المدمِّر للفرد.

 

على المستوى الدولي، حيث فُوِّضت السيادة على نطاق واسع إلى منظمات إقليمية أو دولية، واستُبدِلت الدولة بالسوق إلى درجة كبيرة، تواجه إيران صعوبة في التأقلم مع ذهنيةٍ تقوم على التشارُك والمساهمة واتخاذ القرارات بصورة جماعية. إذًا الديمقراطية التي تتطلب مشاركة وآليات لبناء التوافق هي وهمٌ، أقلّه في الوقت الراهن. صحيحٌ أن أنماط السلوك الاجتماعي والسياسي تتغيّر تدريجيًا على امتداد الحقبات التاريخية الطويلة، ولكنه تغيير بطيء ولا يتحقق إلا بعد أزمات متراكمة. يتطلب التغيير النوعي ثروة وإنصافًا، ويستلزم بدوره ترابطًا مع العالم، وتسويات، وتوافقًا في الداخل. ولا يبدو ذلك متوافرًا في إيران على المدى المتوسط.

 

منذ العام 2003، تكتسي المفاوضات حول اتفاق نووي أهميةً محورية للسياسة الخارجية الإيرانية والاقتصاد الوطني والسياسة الداخلية. وقد عكست هذه المفاوضات الأزليّة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والبلدان الأوروبية والولايات المتحدة كل النزعات الثلاث التي تطرّقنا إليها في هذا المقال. فقد تملّصت إيران من إجراء تقييم نقدي للتناقضات المحتملة في مسار سياستها الخارجية، والتي أثارت قلق بلدان أخرى. وأعرضت عن الشفافية والمكاشفة بهدف إطالة أمد المأزق مع الغرب. وتجنّبت أي ارتباط طويل الأمد مع بلدان أخرى.

 

لكن، في ظل غياب التقييم الذاتي، والجهود الآيلة إلى بناء توافق داخلي، والشراكات الداخلية أو الخارجية، من الصعب توقُّع تحقيق الازدهار والاستقرار في مجتمع قديم مثل المجتمع الإيراني. في نهاية المطاف، لا تتمحور الحياة الإيرانية اليوم حول الفاعلية والاقتناعات والمسؤولية، بل تتركّز على الصورة الخارجية والمباهج الخفيّة. وليست التغييرات والإصلاحات التدريجية مرغوبًا فيها، لأنها تتطلب آليات وتسويات وتوافقات. ينبثق التغيير عادةً من الأزمات. وقد لا يؤدّي تقييم عقلاني للظروف إلى تحوّل في السياسات، فالظروف تتغيّر وتفرض بالتالي سياسات جديدة. وفي نهاية المطاف، لا أهمية تُذكَر لعامل الوقت.

 

* محمود سريع القلم حائز على شهادة دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا. وقد درّس لأكثر من ثلاثة عقود في عدد من البلدان، منها الولايات المتحدة وإيران. تركّز منشوراته وأبحاثه على السياسة الخارجية والثقافة السياسية لإيران.