18 ديسمبر، 2024 4:56 م

ايران: الاستثمار البراغماتي للتقية ببعد استراتيجي

ايران: الاستثمار البراغماتي للتقية ببعد استراتيجي

تعد الصفقة النووية بين ايران والدول العظمى والكبرى الستة في العالم، انتصارا واضحا للدبلوماسية الايرانية، وانتصارا لطموحاتها في الحصول على التقنيات النووية( دورة الوقود النووي)، بالإضافة الى التخلص من العقوبات الدولية طبقا لبنود الصفقة، التي فرضت عليها على خلفية برنامجها النووي. فقد حصلت على الموافقة الدولية أو الاعتراف الدولي، بحقها في العمل على تطوير دورة الوقود النووي، عليه، فان هذا يعتبر انجازا تاريخيا، سوف يكون مقدمة ثابتة، يجعل منها قوة في المستقبل ومهما كان شكل ايران السياسي. ولو انها قيدت بدرجة تخصيب لا تزيد على 67-3 لكنها قادرة في اي وقت تشاء على رفع درجة هذا التخصيب وهو ما ثبت صحته وجدواه في الوقت الحاضر. عندما انسحبت امريكا ترامب من الصفقة النووية، وما تبع هذا الانسحاب، من عقوبات اقتصادية هي الاشد قسوة في تاريخ العقوبات الاقتصادية الامريكية على دول وشعوب الكرة الارضية، باستثناء كوريا الشمالية، رفعت ايران درجة التخصيب بأكثر قليلا من درجة التخصيب المنصوص عليها في الاتفاق النووي مع الستة الكبار، وزادت من عدد اجهزة الطرد المركزي ومن درجة تطورها في خروج محدود على محددات الصفقة، لم يعتبره الاتحاد الاوربي وبريطانيا وروسيا والصين في وقتها؛ خروجا او خرقا لاطار الصفقة وبنودها ذات الالتزام التبادلي وفقا لخطة العمل المشترك الشامل لها. رافق هذا الرفع لدرجة التخصيب؛ التهديد من قبل ايران بان هناك في الطريق اجراءات اخرى ان لم يقم الاتحاد الاوربي بعمل ما يخفف قسوة العقوبات عليها. خلال السنوات الثلاث التي مضت، تقريبا، والتي تلت انسحاب امريكا ترامب من الصفقة، وفي محاولة من الزعامة الايرانية للضغط على الاتحاد الاوربي حتى يقوم بمعاونة ايران على التخفيف من شدة ووطأة العقوبات عليها، قامت لاحقا بمتابعة التخلي الجزئي عن محددات الاتفاق من غير الخروج الكامل منه، أذ، ظلت ملتزمة بالاطار العام له ولبنوده، لكن الاتحاد الاوربي لم يفعل شيئا ذي قيمة على هذا الطريق. مع هذا فان ايران واجهت العقوبات بالصبر والمناورة والصمود في مراهنة على ما سوف تأتي به الانتخابات الامريكية من تغيير لرأس الادارة الامريكية. كانت هذه القراءة المستقبلية موفقة في معرفة قوة خصوم ترامب من الديمقراطيين وقدرتهم في صناعة رأي عام مناوئا لترامب. مما ادى الى نجاح رهانها هذا. في انتخاب بايدن لرئاسة الادارة الامريكية. عليه، فأن مرحلة جديدة سوف تبدأ في السياسة الامريكية الخارجية ومنها بل من ابرزها امام الادارة الجديدة؛ هو كيفية العودة الامريكية الى خطة العمل الشامل والمشترك بين ايران والستة الكبار، وعلى اي الطرق سوف تسلك امريكا في رجوعها الى الاتفاق النووي، وما حجم وعدد الحمولة التي تريد امريكا اضافتها الى هذه الصفقة، وما درجة وحجم تعضيد الاتحاد الاوربي لها في هذا التوجه، وما درجة او مستوى هذه الدرجة، وما ارتفاع السقوف وعددها، التي تريد امريكا اضافتها الى خطة العمل المشترك، وما هو استعداد الزعامة الايرانية للقبول بها.. من غير المرجح ان تبدأ المفاوضات بين ايران وامريكا في الشهرين او الثلاثة اشهر التي تلي تولي بايدن الادارة الامريكية رسميا، بل نعتقد ان المفاوضات ستبدأ بعد الانتخابات الايرانية والتي هي ومن المحتمل جدا ان يفوز بها مرشح الجناح المتشدد الاصولي ان لم نقل ان فوز هذا المرشح حتميا بدفع ومباركة من المرشد الايراني؛ لمقتضيات وضرورات المرحلة الجديدة التي تستوجب استحضار او صعود قيادة ايرانية تنفيذية صلبة ومتشددة للحصول على قدر كبير من التنازلات من الجانب الامريكي، وتضييق مستوى وحجم وتأثير التنازلات الايرانية على الداخل الايراني الذي يميل ميلا كبيرا الى جانب الاصوليين بفعل قوة الاعلام القريب من المرشد، وعلى فضاءاتها في جوارها العربي، وعلى برنامجها النووي، التي ستتقدم به ايران، للمناقشة مع الجانب الامريكي، حتى يتم التوصل الى اتفاق جديد. ايران تدرك جيدا؛ ان المفاوضات القادمة ستكون معقدة وصعبة للغاية، وان الاتحاد الاوربي سيدعم ويساند الموقف الامريكي في تلك المفاوضات. وهذا هو ما حمله لاحقا، بعد قرار البرلمان الايراني الذي سنأتي عليه، بين ثناياه، بيان الشجب والادانة الفرنسي والبريطاني والالماني، لانتهاك ايران للاتفاق النووي. من الجهة الثانية وفي عين البيان الذي اشاد بالاتفاق النووي، مبينا ان لا حل لمراقبة البرنامج النووي الايراني الا خطة العمل المشتركة والشاملة لهذا الاتفاق، فهو يشكل حسب البيان نجاحا للدبلوماسية الدولية. لكن ايران، وفي اجراء استباقي مدروس وطبقا للقراءة الايرانية للتحولات الجديدة؛ قام البرلمان الايراني في اصدار قرار يلزم الحكومة الايرانية بزيادة درجة تخصيب اليورانيوم الى 20% واعادة العمل او اعادة بناء مركز اراك للماء الثقيل، خلال شهرين اذا لم يتم رفع العقوبات الاقتصادية كاملة عن ايران، وهي فترة اكثر قليلا مما تبقى لبايدن من مدة للدخول الى البيت الابيض. انها محاولة ايرانية ذكية، وربما ناجحة، للضغط الاستباقي اولا، ولرفع مستوى وعدد اوراق التفاوض ثانيا، ولمحاصرة الخصم المفاوض بتضييق او بتقليص عدد خيارات التفاوض فوق طاولة النقاش ثالثا؛ في رفع حركة وعمل البرنامج النووي الايراني على صعد كمية اليورانيوم المخصب، ودرجته، وعدد اجهزة الطرد ونوعها وتطورها، بما يجعلها قريبة جدا من العتبة النووية لصناعة السلاح النووي. هذا الواقع الجديد الذي بدأت ايران السير فيه، سيشكل عامل ضغط كبير جدا على الجانب الامريكي والاوربي مما يضع الجانبين الامريكي والاوربي على مفترق طرق، يفرض عليهما الاختيار بين اختيارين لا ثالث لهما؛ اما متابعة العقوبات التي ثبت الواقع عدم جدواها في ظل الاوضاع الاقليمية والدولية المتغيرة لصالح ايران. مما يدفع ايران دفعا لصناعة القنبلة النووية لحماية النظام. وهذا سوف يؤدي حتما ان نجحت ايران في امتلاك السلاح النووي، الى اضطراب الاوضاع في المنطقة، باهتزاز الأمن فيها بتغيير قواعد الاشتباك واللعبة بصورة كاملة في سوح ميادين الصراع، وعلى مدارج الملعب الاقليمي. او الخيار الاخر ومن قناعتي؛ هو الخيار المرجح للحسابات الامريكية لمستقبل النظام الاسلامي في ايران في الأمد المتوسط بانتظار المتغير الايراني كما تتصور؛ هذا الخيار يقتضي تكتيكيا من امريكا؛ النزول من على قمة الغطرسة الامريكية لجبل الكبرياء والسطوة الامريكيين، وتقديم بعض التنازلات لجهتي الصواريخ وحركة ايران في الفضاءات العربية المجاورة؛ في الحد من شدتهما وتأثيرهما على ايران بشكل او باخر بإظهار مرونة في بعض المستويات والسقوف لهذين المطلبين او الشرطين بتفكيك بعض حلقات طوقيهما، حتى تقبل ايران بهما، وهذا احتمال وارد، يتم على اساسه؛ التوصل الى منطقة مشتركة ترضي الجانبين، حتى يتم صياغة اتفاق جديد، لكنه ليس سهلا بل هو في غاية الصعوبة والتعقيد. ايران في الحالتين سواء تم الاتفاق او لم يتم الاتفاق فهي دولة نووية. ايران تمكنت من مراكمة الخبرة، وامتلكت دورة الوقود النووي، لذا، فهي وفي اي وقت تشاء، قادرة على صناعة القنبلة النووية، باتفاق او بدون اتفاق. ايران خلال ما يقارب، الثلاث سنوات المنصرمة لم تنجر الى الصراع، والقسم الاهم منه، هي الضربات الاسرائيلية على المواقع التي تضم عساكر ايرانية في سوريا والعراق. على الرغم من هول هذه الضربات التي تلقتها، لكنها، لم ترد عليها باي شكل وباي صورة كانتا. بالإضافة الى سلسلة التفجيرات التي طالت مراكز مهمة سواء النووية منها او في غيرها، وخمس اغتيالات طالت علمائها واخرهم عراب برنامجها النووي، لكنها لم ترد ردا موازيا او بذات الحجم والقوة والتأثير على هذه التفجيرات والاختراقات والاغتيالات.. بانتظار تغيير الادارة الامريكية حتى لا تدخل في معارك قد تأتي على النظام بالرد الشعبي الانعكاسي لشظف العيش وانحسار خيارات الحياة، على النظام بتحميله الضائقة الاقتصادية وليس على امريكا بعقوباتها الاقتصادية، بتأثير الاعلام الخارجي الموجه الذي يحرف بوصلة الحقيقة. هنا، لانقصد النخبة والطبقة المثقفة والواعين من الشعوب الايرانية بل عامة الشعوب الايرانية.. لم ترد ايران على جميع ضربات خصومها بل ركزت اعلاميا وتوعويا في الداخل الايراني؛ بأهمية تفويت الفرصة على خصومها الامريكيين في انتظار الوقت المناسب كما اسلفنا القول فيه؛ للعبور الى شاطىء التمكين. بالإضافة الى قيامها بإقناع العامة من الشعوب الايرانية بأن العقوبات الاقتصادية عدوان وهي كذلك فعلا، في المحصلة النهائية لها ولتداعياتها وما تسببه من موت وحرمان وجوع، وأن الصمود امامها جهاد؛ باتباع التقيه في هذا الصراع وليس الصبر الاستراتيجي، لأن الاولى تفهمها العامة من الشعوب الايرانية فهما تاريخيا راسخا في العقول والنفوس مما يجعلها حيوية ونشطة ومتجددة مع كل ضربة او هجوم أو اغتيال أو تفجير أو وطأة العقوبات الاقتصادية، لجهة ابتلاعها وتحجيمها بالتخفيف من ثقلها المعنوي والاعتباري وتأثيرها التعبوي والسوقي والعلمي والحياتي والمعاشي، بما تمتلك من طاقة في التبرير والاقناع باعتبارها جسرا، السير عليه، ينتهي عند مقترب الانتصار. أن التقيه، اهم جزء منصوص عليه في الايديولوجية الدينية، مما يجعل منها، طاقة حركة فعالة في العقل والنفس؛ في صناعة وسادة الاطمئنان للفوز المقبل. على عكس الصبر الاستراتيجي المجرد من الفعل التبريري للتقية، فهو في هذه السيرورة؛ يفقد معناه وقوة تأثيره بفعل تكرار الضربات وقوتها وثقل الضائقة الاقتصادية وعلى مدار سنوات لعدم وجود ما يدعمه ويسنده من حركة تبريريه، تتجدد مع كل حالة. لذا، فهو ليس له وجود ملموس في خطاب التسويق السياسي والتداولي الايراني بين النظام وعامة الشعوب الايرانية، وليس الخطاب الايراني الموجه الى الاقليم والعالم، فهذا الخطاب له شكل اخر؛ في حومة صراعها مع امريكا والكيان الصهيوني. في الختام علينا نحن العرب؛ ان نواجه الحقيقة بقوة وثبات وصدق؛ من ان ايران حققت ما لم يحققه جوارها العربي من انظمة الحكم العربي الفاسدة والتابعة والخائفة؛ باستثمار جميع ما متوفر لها او ما قامت هي بصناعته، من أدوات في السياسة والدين والموارد، في داخلها وفي الفضاءات العربية. ايران دولة نووية اي دولة قوية مهما كان شكلها السياسي مستقبلا.. وعلى الدول العربية ان تعي هذا الواقع الجديد جيدا، وان تعمل على صناعة عوامل قوتها بالاعتماد على الذات وعلى قدرات الشعب وعلى الموارد الهائلة التي حبها الله بها، وليس على قوة الكيان الصهيوني كلب الحراسة للامبرالية الامريكية، وعلى مظلته النووية.. ان الهدف من توفير عناصر القوة، هو من اجل الامن والسلام والاستقرار والكرامة وحفظ السيادة والحقوق والثروات…