إن المشكلة التي نواجهها في حديثنا عن المبادئ التي طالما جرت عليها ألسنة الناس أو كتب عنها الساسة والفلاسفة ، دون أن تكون هناك وقفة تحليلية للفكرة تكشف بعض الغموض من حولها على أقل تقدير ، تتلخص في اعتقادنا بأن المبادئ خالدة على مر الزمن من غير اعتبار لصلتها بالواقع أو الظروف المحيطة بها . وبمعنى آخر ، نرى أن المشكلة تتلخص في فصل التصور عن الممارسة ، أي فصل الإطار عن المحتوى ، أي فصل المبدأ عن مجريات الحياة ، أي فصل المثل عن الواقع ، وهذا خطأ في معظم الأحيان ، لأن مثل هذا الفصل ينطوي على ازدواجية تشطر العالم الواحد إلى نصفين أو تشطر الذات الواحدة إلى قسمين . هناك مبدأ واحد – وربما لايعجبنا ذلك – هو أن الكائنات جميعاً يجب أن تتفاعل مع الواقع والظروف المحيطة بها بكل كفاءة.
وتوجد بطبيعة الحال فروع لهذا المبدأ العام ولكنها يجب أن تكون جميعها متسقة مع الأصل وغير مناقضة له . فإذا كانت الكائنات تستهدف من المبدأ العام البقاء على قيد الحياة ، فإن مايتفرع عن هذا المبدأ العام من قرارات راجع إلى الإنسان بشرط ألاّ يكون القرار مناقضاً للمبدأ العام . فلقد يختار أحد الناس مثلاً ، أن يعيش عيشة التقشف في الحياة ، بينما لديه الإمكانات التي تتيح له العيش باعتدال . هنا يصبح القرار أو الأمر أو الالتزام بالمبدأ الفرعي مرجعه الإنسان نفسه ، وذلك ، لأنه غير مناقض للمبدأ العام وهو البقاء على قيد الحياة.
ليس هناك مايعيب في الالتزام بقرار مثل هذا ، يأخذ به الإنسان ويتمسك به إلى أن يموت ، وذلك ، لأن الخيارات أمامه متاحة بشرط عدم تعارضها مع المبدأ العام ، فله أن يعيش عيشة التقشف أو الاعتدال أو الرفاهية ، وهذه جميعها من حقه.
لنأخذ مسألة الدين أو المعتقد كمثل آخر . فمن حق الإنسان أن يؤمن أو لايؤمن بالدين ، ومن حقه أن يعتقد بالله أو لايعتقد ، وهذا أمر راجع إلى الإنسان نفسه على اعتبار أن بقاءه أو مماته ، وجوده ، أو فناءه ، لايرتبطان ارتباطاً عضوياً مع المبدأ العام . فقد يموت المؤمن ويبقى الملحد ، وقد يكون الأمر بالعكس . وهكذا فالالتزام بالمبدأ الفرعي في هذه الحالة وهو الأيمان أو عدم الأيمان مرجعه الإنسان نفسه ولاتناقض في اختيار الإنسان لواحد من الخيارات طالما ليس هناك تناقض بين الأصل والفرع.
إن مرجع الأمور – وهو المبدأ العام – الذي يجبرنا على التعامل معه بكل كفاءة . نعم ، ربما لايعجبنا ذلك ، لابل ربما نكابر ونتعسف ولكن كل هذا لايجدي . فالحياة تظل سائرة في طريقها سواء شئنا ذلك أم أبينا.
فهل تهتم الطبيعة لواحد يكابر أو يتنكر لظروف الطبيعة وملابسات الواقع ؟ هل سيتغير مسار الكون كله لو أن البشر جميعهم اندثروا ولم يبق منهم على وجه الأرض أحد ؟ هل سيتغير شيء لو أن البشر والكائنات جميعاً أزالت من على وجه البسيطة ولم تقم لها بعد ذلك قائمة على الإطلاق ؟
سيظل المبدأ العام هو نفسه وستتوقف حياة أي شكل من أشكال الكائنات بعد ذلك على مدى التزامها بالمبدأ العام بالأصل لابالفرع.
ومالنا لانرجع إلى العلم لنسأل عن السبب في اندثار أشكال عديدة من الكائنات. هل لأنها لم تكن تتمتع بالأخلاق أو الدين أو الضمير أم لأنها لم تتعامل مع المبدأ العام هو الواقع بكل ظروفه وملابساته ؟
وكما يخطئ بعض الناس الذين يعتقدون بوجود مبادئ خالدة كثيرة ومتعددة ولاصلة لها بالواقع . فإن كثيراً منهم يخطئون أيضاً في اعتقادهم أنه مادام الأمر كذلك فإن الأنانية والتذبذب والفوضى والانتهازية وكل مساوئ البشر تصبح مشروعة في غياب المبادئ.
أما مرجع الخطأ هنا ، فهو أنهم ينكرون وجود المبدأ العام ولايرضون إلا بالمبادئ التي يتصورها كل واحد منهم صحيحة ومطلقة . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإن المبدأ العام نفسه يفترض أن تكون هناك بعض الأسس والمعايير التي لاتستقيم الحياة إلا بها . وهل يكون هناك التزام بالمبدأ العام أو بأخلاق أو ضمير لو أن كل فرد رأى أن الحق له وحده وأنه هو الكل وماعداه عدم.
فالواقع إذن ، وواجب التعامل بكفاءة مع كافة الظروف والملابسات التي تطرأ عليه ، هما اللذان يحتمان أن تكون هناك أخلاق ومعايير وضمير بين البشر . أو قل بعبارة أخرى ، فإن المبدأ العام هو الذي يحتم أن تكون هناك بعض المعايير التي يستحيل قيام الحياة إلا بها.