عندما نتحدث عن كينونة الدولة في ظل الظروف التي استحدثت بعد قبر النظام البائد ، لابد أن تستوقفنا التجارب المريرة والفاشلة السابقة التي سيطرت على العراق لعدة قرون ، وكانت قواسمها المشتركة هي الظلم والاستبداد والقمع والتخلف ،الامر الذي ضيع أي فرص للتقدم والانماء وبقيت البلاد تعيش حالة من اليأس والفوضى دون تحسس أي امل في الانتقال من مرحلة الى أخرى ، وعندما حصل التغيير بعد عام 2003 بدأت الآمال تتجدد بأتجاه تحقيق المرتقب من المتغيرات التي تبرر عملية التغيير ، وتؤسس الى مراحل جديدة على كافة الأصعدة كمنهج واستراتيجيات تخرج البلاد من حيز الجمود والتصخر الى عوالم الازدهار والرقي.
ولكن هل تحققت المتغيرات على وفق نظرة عصرية علمية متحضرة ، ترتكز على أسس متينة تمتزج فيها خلطة من المباديء النظيفة التي تقود الى تحقيق المنجز الوطني ؟
للأسف أقول كلا ، الذي حصل جاء بالعكس من التمني ، وبالضد عما يجب ان يتحقق ، ذلك ان اهم اركان بناء الدولة هي الطبقة السياسية والحكومة ومجلس النواب قد اشتركوا في خطأ واحد هو عدم فهم وادراك ماينبغي ان تكون عليه الدولة العراقية ، صحيح ان هوية الدولة قد حددها الدستور ، الا ان السلوك والممارسات والمواقف قد سارت عكس اتجاه الدستور ، وعلى وفق تبريرات واجتهادات خاطئة وذات مصالح وغايات ذاتية ، عمقت الخطأ الأساسي في تشويه هوية الدولة ، واقحمت مفاهيم وتوجهات ومواقف أصبحت الان هي السائدة في الشارع العراقي ، أي بمعنى ان المواطن بدأ يتحسس من ان هناك العديد من الجهات والأطراف سواء كانت دينية او سياسية هي التي تتحكم في شؤون حياته ، بل وقد تعترض بعدة أساليب على أفكاره او اراءه اذا أتت بالضد عما هم يفكرون ، بالإضافة الى شعوره بأنه اصبح مهمشاً وليس بذات قيمة اذا لم يكن منتمياً او مناصراً ، وقٌسم الشعب بحكم ذلك الى طبقتين ، الأولى هي المنتفعة من السلطة والثانية هي المتضررة من السلطة ، وهذا الذي انتجته المحاصصة البغيظة والطائفية اللعينة .
لانريد دولة افلاطونية مثالية ، نريد ببساطة دولة عراقية لديها دستور يحمي الجميع ويراعي حقوقهم ، ويبطش بالفاسدين ويحكم بالعدل ، ويعطي لكل ذي حق حقه دون تمييز ، نريد دولة ، شعارها الانحياز المطلق للوطن والشعب ، لاتتحكم بها الطبقة السياسية ، ولاتخضع للتيارات والتوجهات الدينية المتطرفة فالدين لله والوطن للجميع ، نريد دولة تحترم الكفاءات وتقدرها ، وتمنحها القدر العالي من الفرص في تبوء المكان المناسب ، نريد دولة تتعامل مع المواطن على وفق استحقاقاته وحريته وقيمته الاعتبارية ، ويكون له سموا لايعلى عليه الا حكم القانون ، نريد دولة مسعاها الأساس هو البناء والانماء واسعاد المواطن وتوفير الخدمات ، نريد دولة تقاتل المحاصصة والطائفية بذات الروح التي تقاتل بها الإرهاب ، نريد دولة تصنع الحب والفرح والبهجة في نفوس العراقيين ، نريد دولة تفهم معنى التحضر والرقي وتتعامل مع المعرفة والثقافة بروح ودية وإيجابية وأن تفهم كذلك انها خادمة للشعب ، وهذه الخدمة هي التي تحترم من خلالها الدول .
نريد دولة تراجع احوال ومعيشة المواطنين باستمرار وان تتعامل معهم بموجب المتغيرات التي تحصل وان تسعى لمعالجتها بما يحقق كرامة وهيبة المواطن .
نريد دولة لايكون فيها المسؤول هو سيد الشعب وانما خادم مطيع للشعب ، يتساوى بالحقوق والواجبات مع ابسط مواطن وان يحمل صفة المواطنة لا صفة المسؤول .
نريد دولة تكون صديقة للشعب ، تحبه وتحترمه وتستمع اليه ، كونه مصدر قوتها واستمرارها في الحكم ، لا ان تتعالى عليه وتصد الابواب بوجهه وتجعله حائرا مستغيثا لايعرف لمن يلجأ بشكواه او مصيبته .
اننا وبعد عشرين عاما ومن خلال تجربة تلك السنوات لمسنا الكثير من الارباك والفوضى والتشكي قد احاطت بتلك التجربة ، ولم نلمس اي تغيير يذكر بالرغم من تعدد الحكومات الست التي تداولت الحكم وتلك هي الطامة الكبرى ، وكأن سياسة الحكم قد استنسخت نفسها من حكومة الى حكومة اخرى ولم تأتي بالجديد الذي يذكر ، فالبرامج الحكومية كلها متشابهة ، وبقيت المحاصصة هي المسيطرة واستبعدت الكفاءات والتخصصات وغالبا مايأتي تأسيس الحكومة بموجب رغبة وارادة الاحزاب ويستبعد رأي رئيس الوزراء ، حيث تستمر الحكومة باداء عملها دون رقيب او متابعة او حتى مسائلة من قبل رئيس الوزراء كونها محمية ومسنودة من احزابها وكتلها السياسية ، وهذا ما ادى الى تردي وتلكؤه الانجاز الوطني ، او تحقق ولكن بصيغة الخطأ المضر والمبدد للثروة الوطنية .
تلك الملاحظات هي بعض من مفردات الاصلاح والتغيير الذي تضمنها البرنامج الحكومي الاصلاحي للسيد السوداني ، نأمل ان تكون محط اهتمام وتقدير من اجل عراق مزدهر وشعب كريم.
كاتب ومحلل سياسي
[email protected]