ان موضوعات الدراسة التي نحن بصدد مراجعتها، محصورة في الشعر والغناء والموسيقى. فهي تنطلق من التاريخ الحضاري للثقافة العربية الاسلامية في العصر العباسي. بمعنى ان اصول الظاهرة المبحوثة – الابداع الفني- يشكل التاريخ رافعته الاولى من حيث التكوين والتحليل، فيما يكون الاستطراد لهذه الظواهر هو احد المؤشرات الجدلية التي تدعم وجهة نظر الدراسة من الزاوية الانتروبولوجية والسوسيولوجية ايضاً، ناهيك عما كشفته الدراسة من استعراض لأوجه الثقافة العربية- الاسلامية في العصر الوسيط بمختلف تياراته الفكرية والسياسية، وهو الامر الذي يكشف بأن حالة الصراع الاجتماعي آنذاك كانت من ابرز عوامل التقدم والصعود في الافق الحضاري، نظراً لوجود الاختلاف والتمايز في الوحدة الاجتماعية في العصر العباسي، حيث ان التيارات الاسلامية كانت تتبارى في ساحة الفكر والفن لأثبات الجدارة والتفرد في الخصوصية، كالمعتزلة والاشاعرة والصوفية والسنّة والشيعة والاسماعيلية والقرمطية…
بما ان عنوان الدراسة الرئيسي حمل “اوراق بغدادية من العصر العباسي” فقد حددت برقعة جغرافية اسمها “بغداد” وزمن من العصر الوسيط يمتد لأكثر من خمسة قرون… فان موضوعاتها جاءت مختصرة في الورقة الاولى التي تناولت موضوعة الحنين في واحدة من اجمل قصائد العصر العباسي، هي قصيدة- ابن زريق البغدادي – التي كانت احدى علامات الظرف البغدادي، حيث ان هذه القصيدة تناولت التعبير الصادق للانسان وحنينه الى اهله ووطنه، وكشفت في الوقت نفسه عن مقدار تعبيرات اللغة بمفرداتها عن لواعج النفس الداخلية للانسان وتصادماتها مع الواقع، وانكسارها العاطفي والروحي عند المنافي، ومن ثم ابرز الجانب الانساني بقسوته وعاطفته اثناء وبعد حادث تلك القصيدة التي كانت آخر صوت لمبدعها في الحياة، ثم اصبحت بعد وفاته حديث المجالس الادبية في تلك الفترة.
اما الورقة الثانية، فقد حملت عنوان “رحلة زرياب الى الاندلس” وهذه الورقة تكشف عن مكان الروح المبدعة في الغناء عند زرياب من حيث الصوت والاداء والعزف، اضافة الى تكامل وعيه الفني في مجال الموسيقى وثقافتها، فعرف ما هو مدفون فيها من اسرار، وفي الوقت نفسه كان يقرأ الادب والتاريخ والسير واخلاق المنادمة. وبما انه كان تلميذاً لابرز مغنٍ في الخلافة العباسية هو اسحق الموصلي، فقد كانت فرصته في الظهور والتألق ضعيفة ضمن الوسط الفني البغدادي، لأن استاذه الموصلي كان أليم الطبع واضح الغيرة يخشى المنافسة الابداعية، وهو كان يعرف مدى عذوبة صوت تلميذه زرياب، وحين طلب الخليفة الرشيد مغنياً آخر لم يسمع به من قبل، قال اسحاق، ان طلب الخليفة عندي. وقدم زرياب للخليفة، فابدع في تلك الليلة الوحيدة والأخيرة، فمدحه الرشيد واثنى عليه، وقد علم اسحاق علو طبقة زرياب عليه، فهدده بالقتل ان بقي في بغداد، ففر هذا المبدع بليلة ظلماء مع عائلته، وقصد الاندلس فتلقاه الخليفة هناك، فأبدع الالحان، وفتح معهداً لتعليم الغناء، وذاع صيته في الأندلس وبقية انحاء المشرق العربي.
الورقة الثالثة من الاوراق البغدادية العباسية تناولت “مجالس الغناء في بغداد” حيث تطرق المؤلف فيها الى ظاهرة انتشار الغناء في كل اوساط المجتمع، ووقف على مختلف هذه المجالس، وظهرت له ان هناك ثلاثة انواع من مجالس الغناء (رسمية، وشعبية، وفي الحانات…) بل واكتشف المؤلف، ان في هذه المجالس حساً متجانساً مشتركاً بين المغني والجمهور، ليس على الصعيد الفني فقط بل حتى على الصعيد الاجتماعي، فقد كان الجمهور يدرك معاناة المغني من خلال صوته وادائه، الامر الذي يكشف مصداقية الوعي الفني عند الناس من جهة، ويشير من جهة اخرى الى مدى التطور الحضاري في ثقافة العصر، ومن جهة ثالثة كشف هذه المجالس الغنائية مدى الاختلاف الفقهي عند رجال الدين بين مؤيد ومعارض للغناء واساليبه وغاياته، حتى غدت مسألة السماع واحدة من ابواب الفقه.
ونظراً لكون حضارة العصر ناهضة بقوة، طغت ظاهرة الغناء على كل الظواهر الاخرى، ولم تلتفت الى هذا الفقيه او ذاك بل سارت للامام محققة قفزة نوعية في عالم الموسيقى والغناء.
الورقة الرابعة من هذه الاوراق البغدادية، فقد تضمنت (حوار فلسفي…) في الموسيقى، تشعبت البحث فيه على اكثر من صعيد، فقد قام المؤلف بدراسة تحليلية اراد من خلالها التوقف على اراء الناس والخلافة والتيارات الفكرية لمفهوم الموسيقى، ثم توقف المؤلف ملياً عند اوسع فكر ديني في الثقافة الاسلامية هو الامام ابو حامد الغزالي واراؤه في مسألة السماع والتي افرد لها باباً واسعاً في كتابه احياء علوم الدين، سماه بـ كتاب السماع كحجة لنا من الناحية التاريخية والفقهية والتي تظهر ان الثقافة الدينية الواسعة والعميقة لا يمكن ان تكون احدى معرقلات التطور الحضاري لان الثقافة واحدة من امضى الاسلحة التي تحارب بها ثقافة الآخر ضمن الصراعات الحضارية القائمة والتي تحاول طمس ثقافتنا، واصمة اياها بالتخلف والغشاوة السوداء على عيونها دون ان تذكر الالماعات الوهاجة في فكرنا وثقافتنا، وتأثيرنا في العالم الاوروبي والغربي عموماً في اكثر من مجال.
اما منهجية (الحوار الفلسفي الموسيقي) فقد اراد المؤلف به ان يقدم صورة حية نابضة بالعلم والمعرفة من خلال النصوص التاريخية التي حفظتها لنا المخطوطات والكتب، فاعتمد اساساً في الحوار على رسائل اخوان الصفا وكتاب الموسيقى الكبير للفارابي، وكانت رؤية المؤلف في هذا الجانب هو تقديم سيناريو موثوق بشخصيات حقيقية تحاورت في موضوع الموسيقى.
اراد المؤلف في كتابه، اظهار اكثر من حقيقة في تراثنا العربي الاسلامي، فعلى صعيد الابداع، ابرز المؤلف مختلف اشكال الثقافة العربية الاسلامية ووجوها في تلك الفترة من شعر وادب وفن وموسيقى. كما ابرز موقف مختلف التيارات السياسة والفكرية والدينية من هذه الظاهرة، وابرز دور العقل الديني والفلسفي في الدفاع عن هذه الظاهرة. كما اثبت رؤية حضارية للفن الاسلامي متمثلا في الموسيقى والغناء كأحد ابرز مظاهر هذه الحضارة والموقف الرسمي والشعبي منها.
* الكتاب:
اوراق بغدادية من العصر العباسي، تأليف- خيرالله سعيد، ط1، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2010، 240 صفحة.
[email protected]