لست متأمركا رغم اني اقيم في بلاد الاميركان منذ خمس سنين ، فمازالت ذاكرتي العراقيّة تعجّ بالكثير من القيم الاصيلة والثقافة العربية الزاخرة بالمبادئ والتقاليد التي تربّينا عليها ، هذه الذاكرة هي التي تقودني اليوم الى هذا الهذيان في هذا المقال .
كلّما استمعت الى خطاب من الرئيس الاميركي باراك اوباما أشعر بالشفقة على العراقيين وشعوبنا العربية ، حكّاما ومحكومين .
وككل المناسبات السابقة ، فان الرئيس اوباما يجبرني ( عن طيب خاطر ) على الاستماع الى مايريد قوله لرعيّته من ابناء الشعب الاميركي ( الذي يزيد تعداده على 317 مليونا و 440 الفا حتى ساعة هذا الهذيان ) في خطابه الاخير عن حالة الاتحاد ( وهو خطاب سنوي ) ، كان اوباما مفعما بالقوّة والامل بالمستقبل ، يمتلك اصرارا كبيرا على العمل والعطاء في مختلف ميادين الحياة رغم الصعوبات التي تعترض طريقه والتي يضعها منافسوه في الحزب الجمهوري المعارض .
لست هنا في باب مناقشة الافكار والخطط التي طرحها الرئيس الاميركي في برنامج عمله لعام 2014 ، فهذا امر قد يصعب على غير المقيمين في الولايات المتحدة الاميركية الالمام بكثير من جوانبه .
لكنني اجد نفسي ملزما بمسؤولية كبيرة في ان ابحث عن اصل الاشياء التي قادت ولدي الصبي ذي الثلاثة عشر ربيعا الذي هبط كالصاروخ من غرفته في الطابق العلوي ليضغط على زر التلفزيون وهو يذكّرني بموعد خطاب الرئيس ، ويجلس منصتا ، وكأنه في حضرة درس من دروس الكومبيوتر الذي يدمن استعماله ، ولا يستبدله بأي اهتمام آخر .
هذا هو اصل الاشياء الذي اتحدث عنه اليوم .
فلو كان هذا الصبي ( العراقي ، العربي ) في العراق ، او في اي بلد عربي آخر ، فهل كان سيعرف بموعد خطاب الرئيس ، وان ضخّت ماكنة البلاد الاعلامية ملايينا من رسائل التذكير بهذا الموعد ؟
وبعقلانية اكبر ، سأعيد ترتيب السؤال واقول : لو ان الصبي كان قد عرف مسبقا بموعد خطاب الرئيس ، هل سيجلس متسمّرا ( مثل ابيه ) امام التلفزيون ، ويجد ( متعة ) كبيرة في المتابعة ؟
سأترك الاجابة هنا ، لأنني وانتم نعرفها تماما .
كل ما اريد ان اثيره هنا ، ( وباختصار تماما ) هو ان الحرص والمصداقية التي يتمتّع بها القادة هي التي تدفع شعوبها الى الالتصاق بها دون الحاجة الى بطاقات دعوة قسريّة .
فبقدر المسؤولية الهائلة الملقاة على عاتق رئيس اكبر قوّة عسكرية واقتصادية في العالم ، تجد الرئيس يتلمّس حاجات الناس ، ويتلذذ بانجازها ، وسنّ الخطط والقوانين التي تردم او تقلل منها … هذا أولا ..
وفي المقام الثاني ( وهذا مهم جدا ) تجده يحثّ معارضيه بروح التحدي تارة ، واستنهاض الهمم تارة اخرى ، لأن يقدّموا وررقة اصلاح افضل للمشاكل التي يتصدّى لها .
القياديون ايها السيدات والسادة ، هم اللذين يتصدرون الناس في الحكمة على حلّ القضايا المعقدة في اي مجتمع ، وان يمتلكوا ( من بين المنافسين ) مفاتيح الجذب الايجابي ، وليس عصا الضرب على الرؤوس والتلويح بالعقاب اينما سنحت الفرصة لذلك .
في جانب آخر: فان القيادة التي تسعى لمجد مستديم ، لن تجده في بناء سلّم ضيّق لا يتسع الاّ لمجموعة محدودة من الناس ، فنشوة المجد لن تتحقق الاّ اذا كان الجميع يتشاركونها . وحينما تحرص القيادة على بلوغ قمّة عالية من هذا الانجاز ، فانها ستبلغه حتما على رؤوس واكتاف من نالوه ، وكلّما كان الفائزون فيه اكثر ، كلما طالت وتعالت تلك القمّة .
لا اريد ان اطرح نفسي هنا فيلسوفا بطرا يجلس في برج عال لا يحس ولا يشعر بما يعانيه الناس في بلداننا العربية وخاصة في بلدنا العراق .
لقد عانيت اربعين عاما ( مثل غيري ) من الالم والحرمان ، حتى منّ الله علي ّ بمن هددني بالقتل ان لم اترك بيتي وعملي ايام اصابة نفوس الكثيرين من ابناء جلدتي بمرض الطائفية عام 2006 وغادرت البلاد غير بطر .
لكنّي اليوم اجدني اكثر افاقة من ذي قبل في الوصول الى ضفّة الضوء لشعوبنا العربية بعد سنوات العتمة والتعتيم التي فرضت علينا .
رسالتي اليوم لا لبس فيها ولا تعقيد :
ايتها الشعوب العربية ، احرصي على ان تتخلصي من عقد الخوف من الانسان ( الاخ والصديق والجار ، الحزب المعارض ، التيّار الآخر ، الطائفة الاخرى ، القومية الثانية والثالثة والعاشرة ) .
ايها الناس المقهورون ( على ايديكم ) جرّبوا تغيير نظرتكم للآخرين .
لمرّة واحدة اعملوا من اجل ان يعمّ الخير جميع من حولكم ، وابدأوا بمن هو اقرب اليكم .
تشاركوا في صنع من يجمعكم ككل . ويضمكم اليه ، واقطعوا الطريق على من يسعى اليكم ( وبكم ) على حساب الآخرين . فسوف يأتي اليوم الذي يظهر آخر ممن يبرزه القدر ليبعدكم ويقرّب آخرين غيركم .
تذّكروا دائما ان الخلاص لا يأتي بالغنيمة ، والنعمة لن تعم اذا حازها واحد دون آخر .
تذكّروا هذا معي ،
واني لا أرجوا مما قلت سوى مستقبل اكثر بهجة لأولادي وأولادكم ، بناتي وبناتكم .
ودعوا اولادكم يتسمّرون امام شاشات التلفزيون ليتابعوا خطاب الرئيس .