23 ديسمبر، 2024 12:44 م

انور عبد العزيز بين انتحالية القص وخفايا الاصل

انور عبد العزيز بين انتحالية القص وخفايا الاصل

مراهقة الكتابة في النهايات العمرية
قراءة في قصة ( لعبة الاصابع )
منذ فترة قصيرة قرأت مقالا منشورا في صحيفة الزمان الغراء لأنور عبد العزيز ، يتحدث فيه الكاتب بطريقة غريبة عن كتاباتي المنشورة في الصحيفة ذاتها، و القارىء عندما يطالع ما جاء به المقال و صاحب المقال ، لربما سوف يلاحظ بشكل سريع ، بأن هناك أمرا محيرا ، ينم على ان صاحب المقال محملا بعشرات الاحقاد ، و عشرات التربصات الدفينة ، بشخصي و قلمي .. و المحير في الأمر أكثر ، هو أنني لم يسبق لي في أي لحظة من لحظات حياتي ، التفكير بالكتابة عن أطياف نصوص هذا الرجل الكهل لحد الافراط ، و الذي هو في الحقيقة في نهايات زمنه الأدبي ، و نهايات مجده الذي لم يحصل في أي وقت من الاوقات الماضية و الحاضرة ، و هذا الأمر هو بدوره ، ما لم يجعلني أبادر في الرد على ما كتبه حينذاك من أنفعالات شيخوخية . ولا يحتاج ان أبين للقارىء محتوى لغة و تفاصيل مقال أنور عبد العزيز ، من تجنيات وطفرات و لغة المسكنة و الحرص و التعاطف المفتعل ، لاسيما و نحن بصدد قراءة لقصة ( لعبة الاصابع ) التي ينصب عليها بشكل مباشر مبحث مقالنا هذا .. و قبل الشروع بالبدء في دراسة مقالنا للقصة ، أتمنى ان لا يتصور

الآخرين أو صاحب القصة ، من أنني غاضبا أو أنني أكتب هذا المقال ، بمثابة فعل الرد على ما جاء به مقال صاحب القصة ، بل العكس تماما من كل هذا ، فقط أردت من خلال مقالي هذا ، الاشارة الى مسألة هامة جدا ، تتعلق بعوالم قصص هذا الكاتب ، فلذلك أخترت تحديدا قصة (لعبة الاصابع ) انموذجا ، لما عليه حقيقة تنصيصات نصوص هذا الكاتب ، و بشكل معروف و متفق عليه .. من هنا لعلنا سوف نتعرف على قصة

( لعبة الاصابع ) لنطلع من خلالها على حالة متفردة من أطوار سر الصنعة في كتابة و تدوين النص القصصي ، وهو في رحلته . ان فعل القراءة لنص ( لعبة الاصابع ) تتطلب من القارىء القصصي ، الاهتمام و المجاهدة بمجالية موضوعة ، لحظة ( لغة الفعل / الرائي / ايقاع الحبكة / المختزل التماثلي) و بهذه المجموعة من جملة الوحدات السردية و الاسلوبية و البنائية ، راحت تتكون قصة ( لعبة الاصابع ) لتشكل في

ذاتها التكوينية ، ثمة علامية خاصة من روح ، النداء و المنادات ، و من أجل الخروج من بنية الرتابة الاجناسية ، الى ما يشعرك ، بمدى تحقق فعل منظومة الاحاطة الادائية و القرائية ، السائرة نحو واقع ما قبل ، حدوث زمن وقائعية مدلول النص و ما بعده . و القارىء لقصة الكاتب ، لربما يستطيع الفصل و في كثير من الدقة و العناية ، ما بين مستوى

( التماثل الصنيع ) و ما بين طاقة ( التماثل التجسيدي ) و ما بين حدود لحظة فضاء التصوير المشهدي في الواقعة السردية و ما بين مستوى التوصيف الذهني ، و بين خطوات أفق القراءة ذاتها .. وتبعا لهذا الامر تبقى مراحل النص ، في القراءة خاضعة لسلطة ، أفق الرؤية الانطباعية ، و محطات مراجعات السارد لصوت الاشياء فيه و من حوله . و هذه

الاجرائية في نص الكاتب ، تبدو و كأنها ترجمة دقيقة لدلالات لسانية ، مصدرها نوازع تصويرية جاهزة البرهان و الاطارية ، التي هي مسبوقة في ذاتها ، بجملة أفكار و مواقف و تحققات تماثلية سابقة في موضوعة التأليف ، الاذهاني المكتسب . و بهذا المضي المتميز ، نعاين قصة الكاتب و قد اصبحت ، بمثابة الصفقة التحققية في الرؤية و الاداة و المستعار المشهدي و التوصيفي ، و بطرائق من الافعال الجديدة ، في صنع دال الاشياء ، ضمن خيارات الاخراج المقترن ، بحدود أعادة ممارسة ، صارت تتخطى طرحية الاول الانشائي و المستعار ، لتنصب بذاتها ، في مدارية رؤية جديدة ، في لغة الانشاء و التشكيل ، ومن احداث زمن دلالة موضعية جديدة في الصياغة و الفضاء و الفعل .

( الصورة ما بين الاقتباس و الانتاج )

ان طبيعة الظاهرة النصية في قصة أنور عبد العزيز ، تمتاز بروح ايقاع الاخذ و العطاء و الأخذ في مجال الاعلان و الاخفاء ، أي أنها مركبا دلاليا ، يبدو لنا قرائيا ، و كأنه عملية استرجاع ، ثم الاحالة بعد ذلك الى شكل من اشكال الذاكراتية ، ثم بعد ذلك الى مجموعة تواصيف ، مصبوبة في حالات من الواقع و المجاورة المخيالية ، المنقادة نحو نزوع النص الى منطقة الانطلاق و الاطلاق السردي المكثف فعلا و شكلا ، و الحال في مشاهد النص ، تبدو صادرة عن مؤشرات

( حلم / شبق ) و ضمن حدود لغة ( كشف / ضمور / أفق) و هناك حالات عديدة في مشاهد النص ، نجدها و كأنها مخصوصة الى مرجعية حكائية ، ذات سمات معزولة الاطار

العام ، بيد أنها من جهة ، تقود فعل القراءة نحو عتبة ( زمان / محيط / مراجعة ) من هنا و بعد هذه المقدمة شبه الكاملة ، سوف ندخل الى فسحة أجواء ( لعبة الاصابع ) لكي نوضح حقيقة خطاطة مكونات و تفاصيل قراءة النص القصصي ، ثم بعد ذلك شرح ، ما يحمله النص من دلالات حضورية دالة

( على الدكة المثلومة الضيقة رجل منطرح بدشداشة قصيرة فاضحة .. حمار تحرر من قيود العربة و رائحة النفط الكريهة و زنخ صاحبه و حتى من القيود الكابحة الممزقة للشدقين .. صار حرا و مع الحرية علا نهيقه خادشا السمع حتى في ذلك الزقاق الذي تآلف مع عواء الكلاب الليلية و اصوات الديكة و معارك الصغار و سفاهات بعض نساء الحي و أصوات الباعة الخائبة الملحاحة و طنطنة ضربات مطرقة الحديد على براميل الوقود و مصفوفات الغاز و أغاني المذياعات الهادرة المتدخلة المتشابكة .. كل هذا في زقاق من عشرة بيوت لا تشكل كلها غير مساحة قصر باذخ بحديقة في الاحياء الجديدة .. الحمار و قد أستأنس و سكنت وخزات ندوب ظهره الدموية المتجمدة جعله الحر و وخمة المكان و سكون حركته مطمئنا لراحته رغم أنه لا يعرف من معاناته مع صاحبه ان مثل هذه الراحة لن تطول لذا فقد ملخ نفسه لذة السكون والتمتع بالحالة و ترك لشيئه حرية التمدد و الاسترخاء حتى بات ملامسا لتراب الارض .. بائع النفط المنفلت بطريقة انبطاحه على الرصيف مع حماره المتصلب المتوتر في استراحة التعب المضني في زاوية مخنوقة من الزقاق و بمواجهة الدكة الحجرية المتآكلة ثمة بيت أو قل غرفة طينية واسعة مبنية بالسخام و الجص و الطين .. بيت ينبئك أنه ليس أكثر من جدران مسلوخة و سقف طيني و أرضية عارية و سرير عريض .. باب قمىء و كوة تمنح المرأتين فسحة مرفهة

لمراقبة ما يجري من مكشوفات الزقاق و حتى خفاياه السرية المخبوءة .. سريرهما العريض كان هو أمان الغرفة و دفئها و حتى في مواسم الجماد رغم برد الطين فقد كان سريرهما متوهجا مشتعلا بالرغبة و الدفء ..) لعل المطلع على عوالم قصة ( أمنية القرد ) للقاص الخلاق محمد خضير ، لربما سوف يعاين مدى التشابه و المطابقة و مدى الحافر على الحافر ما بين الاجواء و المداليل و المضامين و طبيعة أختيارات الشخوص ، و لكن الحال في قصة محمد خضير ، تتكون من غجري و قرد و فتاتان ، و الحال في قصة أنور عبد العزيز ، حوذي و حمار و إمرأتان ، والقارىء المتمعن لهاتان القصتان ، حتما سوف يلاحظ حجم التشابه العظيم و الله أعلم . على أية حال سوف ندخل الى أجواء دلالات قصة

( لعبة الأصابع ) ، حيث سوف نترك عطايا التعليق في المرحلة الأخيرة من المقال ، ولا يعنينا حجم السطو الذكي ما بين القصتان ، لنقول ان مقدمة قصة ( لعبة الأصابع ) تحتوي على مقدمة وصفية عريضة ، حيث أننا بدورنا لم نرى بأن لها ذالك الحجم الترابطي مع أجزاء الفقرات المتوسطة و الأخيرة من النص ، لذلك لم نوردها بدورنا في مقتطفات عرضنا لأجزاء النص المحورية ، حيث أكتفينا بأيراد ما وجدناه مناسبا مع حيثيات بنية المداليل في النص .. أقول مجددا ، أن حالات تجربة المؤول التوصيفي في قصة أنور عبد العزيز ، قد حلت بفعل مظاهر انتاجية مناسبة في علامات الاظهار و الاسنادية الدالة في تعرفية التحيين الدينامي في موضوعة دليل وظيفة القصة .. فمثلا ان القاص راح يعرض عوالم مجريات ( الرجل / الحمار / المرأتان ) بموجب توزيعية مكانية ، و زمانية و نفسية و عاطفية ، مؤشرة الى أقصى حالات منطقة الاحالة العلاماتية و الرمزية

، أي بمعنى ما ، ان حالة وصف أعضاء الحمار التناسلية ، و ثوب صاحب الحمار ، و شكل سرير المرأتان ، و خفايا السرية المخبوءة ، ما هي ألا شفرات انتاجية ، أخذت تؤشر بدورها ، الى تمظهرات دوال شبقية و جنسية ، ترتبط بشخص المرأتان ، كما ان لعبة محورية (الأصابع ) هي الأخرى باتت تشكل ، فعلا وصفيا خاصا بعوالم ، معاينات فرضية جنسية ، لربما تتعلق بأوضاع رمزية قانون و طبيعة ايماءة ( لعبة / الأصابع / سرير / أرضية عارية / جدران / عواء الكلاب / حرية التمدد / حكاية طفولتها / الدغدغة / الرجل النائم وحماره / ألاعيب المرأة الخبيرة / أفردت أصابعها لتضمها على .. رجل .. حمار .. رجل .. حمار .. ثم المنفرجة لم تجد لتساؤلها حلا مقنعا ) و معنى هذا بأختصار ، يعود الى ان المدارات المختلفة في نص الكاتب ، مصحوبا بذوات علامية خاصة في روح تعريفية الاشياء في منطوق النص ، حيث أنها تبدو أحيانا ، غير منتشرة ، و لكنها تتجسد عبر ، سياقية أظهارية محكومة بمؤولات سننية ، تكون محفوظة من خلال تعرفية موحدة ، بل انها جاءتنا محملة بأدلة مرئية منصبة داخل تحققات صور وصفية و حوارية ذات معنى خاص ، و ذات دلالة قضوية اللاتأكد من الوقائع ، بل أنها من جهة أخرى ، عبارة عن علامات مشهدية ناتجة ، عن تطويعات مفردة مستورة من الشكل و المضمون الاباحي .. و تبعا لهذا نشاهد هذه الفقرات الأخيرة المتفرقة من النص

( هل خدعها سمعها أم ان صديقتها قالته فعلا بعد ان تركز و جمد بصرها في كتلة الحمار بعيدا عن اسمال الرجل الملموم حتى بات و كأنه قد خرج من دائرة نظرها المقارن .. بعد ان يكون بائع النفط قد أنهى نومته مغادرا و بعد ان لم يبق من وجوده غير صدى ضربات قضيبه الحديدي و مع غلق كوة

المرأتين .. غالبا ما كان يلاحظ الاطفال المنتبهون بقعة لزجة على الدكة الحجرية لم تكن ماء ولا عرقا ناضجا .. لم يكونوا يأبهون لتلك البقعة أو يطيلون النظر أليها .. إذ سرعان ما تجرفهم لذة اندفاعات اللعبة بكرة المطاط الساحرة .. ظلت مقولة أليفتها عائمة تائهة في مخيلتها .. حيرة الجواب مضربة في الروح .. المرأة الصغيرة و استفهامها هدأت قليلا عندما أسترجعت أيامهما و تأريخهما معا .. ما سمعته و حتى ولو توهمته ليس أول لغزل من أسرار سيدتها المستورة المخبوءة فهي و منذ ان وقعت برضاها و تنعمت في شبكة المرأة الكبيرة الساحرة صارت عندها كل الاشياء من المخفيات ) و بهذا الشكل الأيقوني تنتهي قصة أنور عبد العزيز ، نهاية انزياحية شبه موفقة ، و شبه دالة ، و الى حد بات يشعرنا بأن ما قرأناه في مواطن و بواطن نص هذا الكاتب ، ما هو ألا حالة من حالات اللعب في ساحات صنيع أصابع الآخرين . و في الختام أجدني لا أملك سوى هذه الكلمات النهائية بشأن عوالم نصوص أنور عبد العزيز ، حيث أقول فيها ، لقد أكتشفت عن طريق الصدفة و من بعض الاصدقاء كتاب القصة ، بأن لأنور عبد العزيز ، قدرات هائلة و عظيمة ، في تحويل نصوص الآخرين الى نص واحد ، و بطريقة ذكية يصعب وصفها و استيعابها و شرحها ، فمثلا هو يقوم بتسخير هيئات و ملامح و صفات شخوص رواية من الأدب العالمي الكلاسيكي ثم يقوم بتوظيفها داخل وظيفة قصة قصيرة تكون تابعة له ، في حين تتبين لمن يقرأها و كأنها مشروعا ناجحا لقصة قصيرة مذهلة الادوات تحت أسم و يافطة ( أنور عبد العزيز ) .. و تبعا لهذا أجدني مشرعا في القول الجديد لشخص عبد العزيز .. ما مساحة الفارق بين من يسطو و يسرق و بطرائق مظللة و بأدوات هي في حقيقتها

من عصارة جهد مخيلة الآخرين ، و بين من هو في أول الطريق : فهل يستطيع كاتبنا المبجل الاعتماد على نفسه في كتابة نشيدا مدرسيا في أدب الاطفال ، دون أعتماده على أفكار و جهود الآخرين ؟ لا أدري في الواقع ان كانت اغلب كتابات هذا الكاتب في القصة القصيرة من هذا النوع من التشكيل أم تراها من جهة ما مجرد مجموعة أجزاء من هذا و ذاك أم أنها من جهة ما مجرد تناصات عقيمة القيمة الخطية و المرجعية .. بالمناسبة تظل هناك مشكلة كبيرة يعانيها هذا الكاتب القصصي وهو في نهايات عمره ، وهو عدم بلوغه مستوى الانتشار و المرموقية الكافية في مجال ما سلخ من أجله كل حياته ، و لدرجة صار أخيرا يمارس كتابة المقال و نشره هنا و هناك ، حيث تراه يقوم بمشاكسة هذا و ذاك ، لعله يحظى بفرصة ختامية لتعريف ذاته المنسية ،ياللخيبة ؟