منذ وقت ليس قصير تشهد العملية السياسية في العراق ركود وتراجع يصاحب ذلك تراجع في ملفات أخرى لعل الملف الأمني أهمها و أكثرها خطورة يأتي ذلك بسبب تأزم الصراع السياسي بين المالكي وجبهة معارضيه المتمثلة بالقائمة العراقية والتحالف الكردستاني إضافة إلى التيار الصدري حيث عقدت هذه الجبهة سلسلة اجتماعات كان أولها في اربيل تمخض عنه عدة مطالب كان أعلاها سقفا مطلب سحب الثقة عن المالكي وحكومته الذين يشاركون فيها جمعيهم واستمر العمل على حشد الرأي وتكثيف الاجتماعات اللاحقة في النجف و اربيل حتى بدا هذا المطلب قاب قوسين أو أدنى , إن ما أود تسليط الضوء عليه هو كيف تشكلت هذه الجبهة وعلاما اعتمدت في مد الأواصر بين مكوناتها وكيف استطاع المالكي من فك هذه الأواصر فيما بعد وتبديد مقررات هذا التجمع وما هو الحل في الوقت الحاضر وهل سيكون هذا الحل وقتي وتبقى الإشكالات مؤجلة كجمرة تحت رماد كما حصل في سابق الأزمات أم سيشعر الجميع بضرورة الذهاب إلى حل جوهري والنزول عند المصلحة الوطنية العليا , أن تصحيح المسار مع كل أزمة تمر بها العملية السياسية طيلة السنوات السابقة اعتمد على منطق الصراع غير الطبيعي حيث تعمل الأطراف فيها على تجميع ملفات سابقة البعض منها قد صدرت فيها أحكام قضائية والبعض الآخر تخص قضايا فساد اداري ومالي ومن ثم التلويح بها من اجل حسم الموقف بأحد الاتجاهين كذلك استخدام ورقة الضغط الخارجي الإقليمي والدولي الذي يجد انسيابية في توجيه المواقف باتجاه المصالح والغلبة لتلك الأطراف يساعدها في ذلك الغياب التام لدور المواطن الذي فقدت النخبة السياسية ثقته وبالتالي غاب التأثير الشعبي في عملية الضغط و فرز الأمور بالاتجاه الصحيح وهذا ما حصل في الأزمة الأخيرة أيضا .
من الوهلة الأولى بدا الصراع صراع مكاسب الكل فيه يريد تحقيق مطالب سياسية معينة اتسمت أحيانا بالفئوية وضيق الأفق وهذا انطبق على جميع الأطراف فلو أخذنا مثلا جبهة سحب الثقة من المالكي تحديدا التحالف الكردستاني لوجدنا إن هذا الموقف قد تبلور بعد أن طفت إلى السطح خلافات بين حكومة إقليم كردستان وحكومة المركز بسبب مواجهة حكومة المركز رغبة حكومة الإقليم الواضحة في التمدد الحدودي في محافظات الموصل وكركوك وديالى ولعل ردة فعل حكومة الإقليم على انعقاد اجتماع مجلس الوزراء في كركوك أفصح بشكل أو آخر عن مدى تحسس الأكراد من ما يسمى المناطق المتنازع عليها واتضحت النوايا تجاه هذه المناطق , السبب الثاني في الموقف الكردي هو الخلاف العميق الذي تفجر بسبب العقود النفطية المبرمة بين حكومة الإقليم وشركة ( اكسون موبيل النفطية ) لتنقيب النفط في كردستان التي وصفت من قبل حكومة المركز بأنها غير دستورية وبالتالي مطالبة تلك الشركة بإيقاف العمل هناك أو إلغاء عقود العمل الحاصلة عليها في جنوب العراق ضمن جولات التراخيص مما حدا بالأخيرة إيقاف العمل في إقليم كردستان , وأسباب أخرى من بينها تصدير النفط من كردستان إلى تركيا بأسعار بخسة خارج شركة تسويق النفط العراقية ( سومو ) وهذا خرق دستوري حسب نائب رئيس الوزراء لشؤون الطاقة حسين الشهرستاني إضافة إلى الإشكال المتجدد مع إقرار ميزانية كل عام وهو المطالبة بتسوية ميزانية الإقليم البالغة 17 مليار دولار , كل هذه أسباب شكلت خلاف بين حكومة الإقليم ( التحالف الكردستاني ) وحكومة المركز وهي نفسها التي دفعت بالأكراد على العمل بقوة لسحب الثقة عن المالكي مما يجعلها بشكل أو أخر مطالب كردية خاصة وإن لم تعلن بشكلها الصريح , أما القائمة العراقية فان التحاقها بهذه الجبهة أمر طبيعي لما تحمله من ارث خلافي متراكم مع دولة القانون والمالكي تحديدا فهي مازالت تعتقد إن رئاسة الوزراء حق أفرزته الانتخابات النيابية لها وإنها تنازلت عنه مرغمة بعد أن تخلى عنها الجميع في الداخل والخارج وهي ترى في شخص المالكي سبب في استهدافها وتسويف موضوع مجلس السياسات الاستراتيجي الذي كان احد أهم بنود اتفاقية اربيل الأولى التي تمخض عنها تشكيل الحكومة بشكلها الحالي , إضافة إلى تشكيكها بالدوافع وراء استهداف شخوصها .
أما التيار الصدري فلطالما شهدت العلاقة بينه وبين المالكي مد وجزر وانتهج مواقف بنيت على شعور الاستهداف المباشر له المتمثل بضرب جيش المهدي الجناح العسكري للتيار الصدري بعملية صولة الفرسان واعتقال أعداد كبيرة من المنتمين له شكل إطلاق سراحهم فيما بعد مطلبا ً رئيسيا ً ونقطة خلاف مع المالكي إلا انه أي التيار سرعان ما اتخذ خطوات مفاجئة قلبت الموازين وهذا ما حدث في أكثر من مناسبة فبعد الاستفتاء الشعبي الذي أجراه لاختيار مرشح التحالف الوطني لرئاسة الوزراء إبان الانتخابات النيابية الأخيرة والذي أسفر عن اختيار إبراهيم الجعفري عاد ليدعم نوري المالكي بأصواته داخل البرلمان لتوليه هذا المنصب مع هذا بقي الخط البياني للعلاقة بينهما متذبذب ووصلت الأمور إلى الانسحاب من الحكومة ومجلس النواب بسبب ما أسمته الكتلة بالإخفاق الحكومي في أداء واجباتها تجاه امن المواطن وخدماته وما أن انعقد اجتماع اربيل حتى بدا حضور التيار فاعلا من حيث القرار والتمثيل وكان السيد مقتدى الصدر احد الداعين إلى عملية سحب الثقة كونه يرى في حكومة المالكي شكل آخر للتسلط والنهج التفردي في إدارة البلاد مما يشكل انحراف في مسار العملية الديمقراطية , مع هذا شهد موقف التيار تحولا قلب الموازيين أيضا تخلى فيه عن عملية سحب الثقة وأتجه إلى استجواب رئيس الوزراء داخل قبة مجلس النواب ويبدو أن هناك ضغوطا مورست على التيار الصدري جعلته يغير موقفه خاصة بعد أن شكل التحالف الوطني لجنة الإصلاح برئاسة رئيسه إبراهيم الجعفري التي تأخذ على عاتقها إجراء إصلاحات معينة من بينها تنفيذ قانون العفو العام وقوانين أخرى من شأنها تسوية الأزمة , الا انه هناك ثمة شكوك تجعل التيارات السياسية لا تؤمن بالإصلاح السياسي بسبب التجارب السابقة من قبيل ما أسفرت عنه مهلة المائة يوم للإصلاح والتي لم يسأل احد أين أصبحت هذه الإصلاحات ألان مع أنها الوحيدة التي جاءت بسبب ضغط شعبي متمثل بمظاهرات شعبية تزامنت مع ما يسمى بالربيع العربي , في النتيجة وأيا ً كانت الأسباب فان عملية سحب الثقة فشلت لأسباب وعوامل داخلية وأخرى خارجية أما الداخلية منها فتكمن في ان معظم تقاطعات معارضي المالكي معه أثبتت ان الجميع لديهم مطالب سياسية ضيقة غاب المواطن عن أغلبها مع وجود تأييد بحجم معين في الرأي العام يصب بصالح المالكي من أهم أسبابه هو النهج الذي انتهجه خصومة طيلة الفترة الماضية حيث أدى البعد في المسافة بين الكتل التي تمثل مناطق الانبار والموصل مثلا وقواعدها الشعبية إضافة إلى التفكك الذي أصبح سمة عامة تتسم بها هذه الكتل السياسية جعلها تخفق بالإيفاء بأبسط برامجها ووعودها التي انتخبت من خلالها مما زاد هذه الفجوة وبالتالي رجحت كفة المالكي وحتى في الجنوب فالتأييد الواسع للمالكي في البصرة يعزيه البعض إلى صولة الفرسان بسبب ما كان عليه المجتمع البصري وما أصبح عليه اليوم جعلهم يتناسوا كل مشاكلهم الأخرى من بطالة وكهرباء إزاء فسحة الأمن التي باتوا ينعمون بها ولو بشكل نسبي وجملة هذه العوامل شكلت حافز لدى المالكي وجبهته في التعامل مع المعطيات على رقعة خصومه بدءً من القائمة العراقية التي كالعادة لم يجد صعوبة في اختراقها متبعا ً الحكمة القائلة (( وداوها بالتي كانت هي الداء )) فما لبث أن أعلن عن جمع التواقيع الكافية لسحب الثقة عن المالكي حتى تعالت الصيحات من داخل القائمة عن عدم عائدية تواقيع البعض لأصحابها أي إنها مزورة في حين أفاد البعض الآخر إنهم وقعوا مرغمين وقاموا بسحب تواقيعهم بعد أن سلمت إلى رئيس الجمهورية من جانب آخر زادت الضغوط الداخلية والخارجية على التيار الصدري ليعلن في النهاية ان مطلب سحب الثقة قد انتهى ويحل محله في الوقت الحاضر الاستجواب بعد ان قدمت له تعهدات بالاصلاح ليبقى التحالف الكردستاني وحيداً إضافة إلى بروز أزمة لديه أعادت إلى الأذهان سابق الخلافات الكردية الداخلية والمتمثلة هذه المرة بموقف الرئيس جلال طلباني الرافض إلى مشروع سحب الثقة جملة وتفصيل بل ذهب إلى ابعد من ذلك مهددا بتقديم استقالته في حال مضي الكتل الثلاثة في مشروعها ولعل في هذا الموقف قراءة مسبقة للمواقف الإقليمية والدولية التي تعتبر من أهم أسباب فشل عملية سحب الثقة من المالكي فقد تخاطرت مواقف الولايات المتحدة وإيران بهذا الشأن على الرغم من التقاطعات التي تشهدها العلاقة بينهما في ملفات أخرى فغير خاف على الجميع إن إيران مارست ضغوطا كبيرة على كافة الأحزاب وهي تقر جهارا بأن لها تأثير وتأثير فاعل على الوضع السياسي والأمني في الساحة العراقية وفيما يخص موضوع سحب الثقة فإنها مارست هذا الدور خصوصا ًعلى التيار الصدري من اجل ثنيه وتراجعه عن موقفه وكان لها بالغ التأثير أما الموقف الأمريكي تجاه هذه القضية فمن الواضح أن أمريكا غير متحمسة لتغير المالكي على الأقل إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية وهي ضد أي هزة سياسية تحدث في العراق في الوقت الحاضر ولديها رؤية تأخذ بنظر الاعتبار الوضع الإقليمي لا سيما الوضع في سورية ونتائجه الكارثية المحتملة , أن جملة العوامل الخارجية هذه أضافت قوة للمالكي من غير الاعتماد على الاهتزازات داخل صفوف معارضيه ولا من القوة داخل صفوفه بقدر ما فرضه الوضع الإقليمي وفي كل الاحوال وأياً كان سيناريو الحل فأن هذه الإشكالات ستبقى قائمة وإن تأجلت بعض الوقت لان طبيعة الحلول مرتبطة بأكثر من أجندة وهي خاضعة للتنافس الإقليمي والدولي وتتأثر بانعكاساتها مع غياب ضابط قانوني دستوري تكون له السطوة والقول الفصل إزاء كل أزمة .
[email protected]