23 ديسمبر، 2024 3:33 م

انهيار العملية السياسية

انهيار العملية السياسية

ظهرت نتائج الانتخابات ولم يفز.
استبد به القلق من المصيرالذي ينتظره، لكنه كان احتاط ببعض الاجراءات الاحترازية…ارصدته وعقاراته في الخارج تؤمن له مصروفا يكفيه ويكفي نسله لا لعقود بل لقرون…جواز سفره الدبلوماسي يوفر له المرور من حدود الدول التي يمر به ريثما يصل الى ملاذ آمن…ما بحقيبته من الدولارات يسهـّل له العقبات التي قد تعترضه في الطريق ريثما يهرب، فالفساد الذي رفض مكافحته سينفعه في هذا اليوم في جميع نقاط خط الهروب.
 اذا لم ينفع الفساد فربما ينفعه تلفون من لصوص الطبقة الثانية وهم انصاره الذين صعدوا على اكتافه ففازوا في غفلة من الناخبين..ربما يسدون له خدمة خوفا من  ان يكشف ملفاتهم لو تنكروا له، فلصوص الطبقة الثانية وعدوا ناخبيهم بمحاسبة لصوص الطبقة الاولى لو فازوا في الانتخابات.
أول خطوة اتخذها كانت تغيير محل اقامته في العراق.
بعد اطمئنانه لعدم وجود اجرءات سريعة بحقه حـَزَم حقائبه وتوجه الى المطار.
حقيبة الدولارات التي وضعها الى جانبه كانت مفتوحة. كلما مر بحاجز تناول منها كمية ليدسها في يد العسكري الذي يمر عليه فتسير الامور بسلام.
في المطار فعل الشيء ذاته فلم يتأخر في كل الاجراءات ومرّ بسلام ايضا.
بعدما وصل الى مأمنه خارج الوطن جلس يستريح.
مسكنه يحتوي كل وسائل الراحة، عائلته ستلحق به في الاسبوع القادم، لديه مهمة عاجلة: الاستماع الى الاخبار لمعرفة ماذا جرى بعد فضله في الانتخابات.
ضحك عندما علم ان اول اجراء عمله مـَنْ خـَلـَفَه في منصبه هو اصدار امر بمنع سفره..يا له من قرار صائب كان قد اتفق معه على صدروه بعد ساعات من اقلاع الطائرة. انه يقدّر الضرورات التي دعت خـَلَفَه لاصداره. بدون هذا القرار لا يستطيع ان يبقى بمنصبه الجديد والناخبون يطالبونه بالوفاء بالوعد الذي قطعه لهم بمحاسبة اللصوص قبل ان يهربوا، واللص في التعريف العراقي الجديد هو:” كل مسؤول جاءت به العملية السياسية” فالمسؤول لص حتى تثبت براءته، هكذا تعلّم العراقي من تجربة  العراق الجديد.
لكن مرور الايام اثار فيه الربية، فالخـَلف الذي حل محله حاصرته نقمة الجماهير التي خدعتها الوعود لعدة دورات انتخابية فصارت تطالب باجراءات حاسمة وفورية ضد اللصوص…لم تعد تكتف بلجان التحقيق وسائر الاجراءات الشكلية التي كان يتخذها لامتصاص النقمة يوم كان هو في السلطة.
لقد صعد في الانتخابات الجديدة بعضُ النزيهين الذين عرف الناس طهارة يدهم من زهدهم واعراضهم عن المناصب التي عرضت عليهم من قبل اللصوص فلم يقبلوا بها. هؤلاء الذين توجه اليهم الناخبون لكي يرشحوا أنفسهم بدل ان يتوجهوا هم اليهم ليستجدوا منهم الاصوات، هؤلاء اصبحوا كابوساً للطبقة الثانية من اللصوص التي فاز كثير منهم على غفلة من الناخبين. لقد صار للعدد القليل من النزيهين الفائزين سلطة غير مرئية فرضت نفسها على لصوص الطبقة الثانية.
قطار الطهارة ونظافة اليد انطلق من بضعة افراد نزيهين ما لبث ان ركبته الطبقة الثانية من اللصوص وهم الذين لم ينكشف امرهم فقرروا اللحاق بقطار النزاهة قبل ان يفوتهم فيفقدوا مناصبهم.
 
 تعقدت الامور اكثر..اصبح لزاما على لصوص الطبقة الثانية ان يثبتوا براءتهم من لصوص الطبقة الاولى التي انتهى دورها بفشلها في الانتخابات.
بدون اجتماع سري وبدون اتفاق مسبق عرف لصوص الطبقة الثانية- كلٌّ على انفراد- ان السبيل الوحيد لبقائهم في مناصبهم هو ملاحقة لصوص الطبقة الاولى للايقاع بهم وكشفهم ومحاسبتهم.
عليهم فعل ذلك ليثبتوا نزاهتهم أوّلاً وبعد ذلك يمكنهم ان يبحثوا عن طريقة مبتكرة لممارسة اللصوصية في الحكم، فقد انكشفت كل الطرق التي مارسها لصوص الطبقة الاولى ولم يعد بالامكان تكرارها… لابدَّ من طرق لصوصية جديدة، فاللصوص -كالصوفيين- لهم طرقهم ومشايخهم ومجالسهم وأسرارهم واذكارهم ومسابحهم ومجالسهم وشعائرهم.
واللص – كالصوفي- لا يخون شيخه ولا احداً من المريدين أو أحدا من السالكين أو العارفين.
وبكلّ حزم قرر لصوص الطبقة الثانية كشف ملفات فساد الطبقة الاولى من اللصوص. الكشف هذه المرة سيكون عملا صادقاً لا وعدًا كاذبا.
عندما كان الحكم بيد الطبقة الاولى من اللصوص كان الشعب يسمع التهديد بكشف ملفات  الفساد…تهديد يصدر من  اللصوص من سائر الملل و النحل، لكن احداً منهم لم يكن يكشف أي ملف.
ملفات الفساد كانت متراكمة ومكدسة في ادراج لصوص الطبقة الاولى.
أحيانا كانت تظهر أغلفتها امام شاشات التلفزيون حيث يمسك بها لص يهدد بها شركاءه الذين اختلف معهم، لكنه لا يفتحها، لأن سرعان ما يطفئ الله النائرة وتصطلح الفئتان من اللصوص الذين اقتتلوا وبغت احداهما على الاخرى، وفاءت التي تبغي الى العملية السياسية.
 لم تكن تلك الملفات تصلح الا لابتزار بعضهم بعضا.
كان التعامل مع ملفات الفساد قائما على نظرية جديدة غفل عنها مونتسكيو في كتابه ” روح القوانين” والذي قال فيه ان القوانين تقوم على اساس العقد الاجتماعي. النظرية التي اكتشفها لصوص الطبقة الاولى هي نظرية “العقد الاقتصادي” بدل العقد الاجتماعي…نظريتهم هذه دوّنوها في كتاب “روح السلاطين” وخلاصتها: “أستر عليَّ أستر عليك، فان كشفت ملفاتي كشفت ملفاتك”.
 
بعد الطبقة الثانية من اللصوص لم يتأخر الوقت قبل ان يلتحق لصوص الطبقة  الثالثة بقطار النزاهة، فمن لا يتعاون مع لصوص الطبقة الثانية في حملة ملاحقة لصوص الطبقة الاولى قد يفقد منصبه في الدرجات الخاصة.
وهكذا سرت موجة النزاهة الى لصوص الطبقة الرا بعة والخامسة والسادسة …الى العاشرة، كما سرت موجة اللصوصية بعد السقوط من الطبقة الاولى الى الطبقة العاشرة، فاذا بالجميع يشاركون في حملة النزاهة وسط دهشة اللص الهارب الى بلد بعيد والجالس في مقعده الوثير يتابع الفضائية التي تذيع تباعا تطورات انهيار العملية السياسية في العراق.
تابع الاخبار بقلق شديد فأصابه دوار لم يفق منه الا على صوت جرس الباب. لما فتح الباب وجد شرطيا مؤدبا يسأله عن اسمه وبعد ان تأكد من هويته ابرز له ورقة عليها شعار الانتربول.
لقد انهارت العملية السياسية.