من أور حيث ولادة اﻷب الرحيم إبراهيم وحيث إبتدأ التأريخ وفجر الحضارات واليها نعود.
الرسالة اﻷولى
المكان: أرض الرسالات السماوية
الزمان: الفترة المحصورة ما بين 2324-1850 قبل الميلاد
يا سماء الشرق طوفي بالضياء
وانشري شمسك في كل سماء
ذكريه واذكري أيامه بهدى الحق ونور الانبياء
أور مدينته الفاضلة. بولادة نبيها ابراهيم، سيزداد فضول هواة التأريخ ورقيماته بحثا عما تحمله هذه المدينة وابنها من ألق، وسوف لن يغمض لهم جفن الاّ حين يغوصوا عميقا وصولا الى معرفة كنه ما يخفيان. لِمَ لا فاﻷبن ومدينته كانا قد رسما سوية خطان متوازيان من المجد ومن مستقبل أرادوه أن يكون زاهيا فكان كذلك. سيلتقيان بعد قليل وعند المنعطف الذي ستبدو فيها الشمس آيلة للرحيل ليمسكا قرصها بيدين من محبة ونور، هذا ما إتفقا عليه ومنذ ابتدأآ الخطوة اﻷولى. فبعد أن إطمأنت أور للخط الذي سيسلكه ولدها والمؤدي حتما الى جهة القلب
حيث الراحة والسكينة، وبعد أن شعرت بأن في ساعديه من القوة بحيث يواصل مسراه وحيدا، قالت له: عليَّ أن أعود من حيث أتيت، آملا أن تكون رجلا لا تشبه الرجال بل ستكون أكثر حكمة وأرجح عقلا وظني بك لن يخيب، وغير هذا وذاك فلك قلبا مجبولا بالرحمة والرأفة.
أراد إبراهيم أن يبقي مدينته أور برفقته فترة أطول وحتى إنقضاء الليل فالوحدة وحشة، غير انها ردَّت عليه: لك أخوة هناك ، منهم مَنْ ضربه البرد، ومنهم ما زال يخط بيديه حروف اﻷبجدية اﻷولى كما أوصيتهم. لم يرق لإبراهيم جواب مدينته فراح معترضا: لكنهم سوف لن يقضوا جوعا، فقالت له مدينته أنا لم أقل انهم بدون أكل فالبيت الذي فيه نخلة لا يجوع، فما كان عليه الاّ أن يسلم أمره ويتوادعا.
كانت الدنيا ظلاما حوله وهو يهدي بخطاه الحائرينا
مشى بضع ليال ومثلها من النهارات، مشاغلا نفسه مرة بغرته ذات الثنايا السبع، ومرة أخرى يحاكي صوت أحد الطيور، إذ ظل برفقته كالنديم أو الخليل أو الرفيق، متخذا منه أنيسا وأي أنيس. لم يكن زاد إبراهيم الاّ الصبر والخيال الخصب حتى اجتيازه الحدود المسموح بها. عندذاك أوقفه أحد العسس الواقفين بالطرف اﻵخر، فتح له سجلا قيلَ لإبراهيم بعد أن إستعصى عليه ما يرادُ منه: ان الواقف أمامك شرطيا يتبع لمحمية أخرى، وتهمتك عبور الجهة اﻷخرى من دون إذن فمن تكون ومن أين أتيت؟
لم تخف ولم تتلعثم فقلت لهم اني إبراهيم ومعي صُحفي ورسالتي. لم يدعه المحقق يُكمل حديثه ليستفهمه بسؤال آخر: أهي صحف إبراهيم؟ ردَّ عليه أجل، ثم راح المحقق مكملا أسئلته: ومن أي أرض أتيت؟
فردَّ عليه إبراهيم: أنا من أور، مدينة النور و المعرفة
أرضها لم تعرف القيد ولا خفضت إلا لبارئها الجبينا
كيف يمشي في ثراها غاصب يملأ الأفق جراحا وأنينا
راح يردد البيتين اﻷخيرين بأعلى صوته حتى تنبهت له والدته التي كانت تنام في الغرفة المجاورة له، لتأتيه مسرعة: ما بك يا ولدي؟ لم يرد عليها بل راح مزيدا من صراخه حتى وجدت نفسها مضطرة لإيقاضه، فراحت تهزه بتؤدة وحنان فاستفاق والعرق متصبب من كل جوانبه، وآخر ما كان يردده: انها أور حيث بدأ الحضارات واليها نعود. بعد أن صحا تماما قالت له والدته: لا تخف يا ولدي فقد كنت تحلم وأظنه حلما جميلا، وأور ستبقى سيدة المدن.
الرسالة الثانية
المكان: مدينة ناصر السعدون، أرض البسالة
الزمان: 2020 ميلادية
من كان منكم بلا شجاعة فليرجمها بحجر، وعذرا للسيد المسيح على هذا
التجديف.
حين جيء به شهيدا لم يهدأ لإفطيمة إبنة عشيرة الظوالم العدنانية، الواسعة الإنتشار في الفرات اﻷوسط وجنوب العراق، وسليلة شعلان أبو الجون ورميثة ثورة العشرين الاّ أن تنشد وبصوت عالٍ، أسْمَعَ الحجر قبل البشر والطير قبل الشجر: جن ما هزيتي ولوليتي…. هزيت ولوليت لهذا.
هي غنَّت لهذا المجد ولهذا الفخر، فالموعد قد أزف، والتأريخ سيعيد نفسه بعد مرور قرابة القرن من الزمان، يوم تصدى اﻷسلاف وبصدورهم العارية قوات الإحتلال البريطاني. فها هن أمهات الضحايا في مدينة الناصرية ومدن العراق اﻷخرى الباسلة، يتصدرن الصفوف اﻷولى في مسيرة تشييع جثامين أبنائهن، وعلى إيقاعات من التحدي والتصدي للقوى الغاشمة، معطرين ضحاياهم بعبق الياسمين، ناثرات أغصان الزيتون والياس.
فيا أيها الشهداء اﻷحياء، من أي معدن جبلتم؟ لقد قرأنا في الأديولوجيات والسياسة ومن مشارب مختلفة، فمنها ما خطه هيغل وماركس المصنف على خانة الإلحاد كما يسمونه، ومنها ما جاء في كتب اﻷديان، وصدق منها من صدق وأكثرهم كاذبون. قرأنا أيضا في كتب اللاهوت وضربنا الودع ورمي الحصا وتشكيلاته ودلالاته، وإستخرنا المرآة لقراءة المستقبل، وأصغينا لما تقوله العرافات من على شاشات التلفزيون عمّا يخبئه برجنا، ورحنا نبحث في كتب اﻷولين كي نقف على ما يجري فلم نجد تفسيرا، فعجزنا عن وضع هذه التجربة الفذة والشجاعة النادرة في أي من الخانات السالفة الذكر، انه المستحيل بعينه وانها النبوءة التي لم يتوقعها أحد، فلا التلمود ولا الإنجيل ولا القرآن ولا الهندوس ولا المجوس ولا بوذا ولا ولا ولا أي طرف آخر جاء على ذكرها.
هي بإختصار إخترقت كل اﻷعراف والحسابات لتخرج مكللة بالغار، مزهوة بكبرياء وشموخ، لتعلم العالم، العالم كله كيف تجري الثورات وما هو منطقها وأدواتها وكيف تنجح، وعلمتهم أيضا أن هناك شعبا عظيما، سيرسم صرحا من الكرامة والشموخ، لتسير من بعده قبائل وشعوب ودول، انه زمان الفتية ذوي الصدور العارية، انه زمن الشهادة والجباه العالية .
أنهض يا جلجامش ويا صاحبة الحانة وأنكيدو وارقصوا فرحاً، فالبحر أليف والموج هادئ واﻷفعى سوف لن تأكل عشبة الخلود كما حدث في المرة السابقة، فها نحن أبنائك الأوفياء قادمون، أبتُعِثْنا من جديد، وعلى العالم أن يقف على رجليه وينحني ويقبل جباهنا، فما نصنعه هي لحظة مصيرية، لم يشهد لها التأريخ مثيلا، لقد قصّرنا المسافات يا جلجامش بين النظرية والتطبيق حتى تماهت، فكان الإصرار والثبات سيد المواقف كلها، وكتاب الثورة في الثورة وصاحبه ريجيس دوبريه لم يعد مناسبا ولا مرشدا، والتحق به من نظَّرَ من قبله، وسقطت كتب سيد قطب وسقطت معه كتب الإقتصاد والفلسفة وصاحبها الذي وقف على الطرف الثاني من التفسير الفقهي والشرعي، ووقف النفري مذهولا أمام عظمة هذه ما نشاهده حتى ضاقت العبارة وضاق الوصف .
عن أي تجربة نتحدث؟ انه زمان (المجانين) والحماسات المنقطعة النظير بل لا نظير لها، انه زمن البسالة النادرة، انه زمن لم يكتب التأريخ عنه من قبل، لكنه اﻵن سيجد نفسه مجبرا على خطه بحروف من ذهب ومحبة وأمل، وسيأتي من يُقبّل جباهكم، فأنتم ملح اﻷرض وخضرته
أناديكم.. أشد على أياديكم
أبوس اﻷرض تحت نعالكم
وأقول أفديكم
وأهديكم ضيا عيني
ودفء القلب أعطيكم
فمأساتي التي أحيا
نصيبي من مأسيكم
…….
وقفت بوجه ظلامي
يتيما، عاريا، حافي
حملت دمي على كفي
وما نكست أعلامي
صدق الشاعر توفيق زياد وصدقنا من بعده ومشينا على عهده فكان الوعد، وعلى متطلعي وتواقي الحرية في العالم أن يقفوا جميعادقيقة صمت، بل ساعات من الصمت، إجلالا وإكبارا لشهداء العراق وبطولات شعبه. انه زمان التحدي والتسابق نحو الشهادة. طوبى لكم يا احرار بلادي وفخره.
الرسالة الثالثة
المكان: ساحة التحرير وشقيقاتها المنتفضة
الزمان: مطلع الشهر الرابع من عام الحب
جمهرة من العاشقين، حاملين باقات من الورود
جمهرة من الندامى، يقضون مساءاتهم على دكة وضلال وبصحبةسيدهم أبو نؤاس
جمهرة من العطاشى، يغرفون من دجلة الخير أعذبه
جمهرة من رواد الذوق الرفيع، يصغون لصوت فيروز وهي تشدو
جمهرة من النحاتين، يتظللون بنصب جواد سليم ويفترشون حديقة اﻷمة
جمهرة من عشاق يوسف عمر ومقاماته، يحملون معهم تسجيلات جقمقج
جمهرة من النسوة الكبيرات السن، يغنين لا خبر لا جفيه
جمهرة من أهلنا الجنوبيون، يأدون أحلى أغاني حضيري أبو عزيز وداخل حسن
جمهرة من أهلنا الكرد يدبكون على موسيقى هربشي كرد وعرب
جمهرة من البنات الصغيرات يرقصن على إيقاعات أم العباية
جمهرة من عشاق أم كلثوم، تركوا مقاههم العتيد في شارع الرشيد والتحقوا بساحة التحرير لسماع أغنية بغداد يا قلعة اﻷسود
جمهرة من الموسيقين، يعزفون نشيد موطني
هذا هو العراق الذي عرفته وهذه صورته كما تركته قبل أربعين عاما. وهذه هي ساحة التحرير وهذا هو جمهورها، فهم صلة الوصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين الحياة واللا حياة، فافسحوا لهم في المجال كي نراهم ونشم عطرهم ونطرب على أصواتهم ونستذكر ذاك الزمن الذي راح، ودعوا كل اﻷزهار تتفتح.
(تضمن المقال بعض القصائد المغناة فاقتضى التنويه)