18 ديسمبر، 2024 10:51 م

انقِلاب 14 تموز 1958 ومَحكمَته الثورية الهَزلية

انقِلاب 14 تموز 1958 ومَحكمَته الثورية الهَزلية

عِند الحَديث عَن إنقلاب 14 تموز الأسوَد الذي سَتحُل علينا ذكراه المَشؤومة بَعد أيام، لابُد أن نعَرج على أحَد أبرَز المَشاهد البَشِعة التي أرتبطت في ذاكرة العراقيين بهذا الإنقلاب بَل وباتت ماركته المُسَجلة، فبَعد نَجاح الإنقلاب لجَأ عبد الكريم قاسم الذي نصّب نفسَه رَئيسا للوزراء لتشكيل ما سُمِّي بالمَحكمة العَسكرية العليا الخاصة، التي سُمّيَت فيما بَعد بمَحكمة الشَعب أو ما تعارف العامة على تسميتها بمَحكمة المَهداوي نسبة للعقـيد فاضل عباس المهداوي إبن خالة قاسم الذي عُيِّن رَئيساً لها. وقد جاء بقرار إنشاء المحكمة إن مُهِمّتها مُحاكمة شَخصيّات العَهد السابق البارزة ومُحاسَبَتِها على أعمال تُعتبَر مُؤامَرات أو مُشَجّعة للفساد في ذلك العَهَد، وهي مُهِمّة لعَمري نَبيلة إن كانَت بقصد إحقاق الحَق والعَدالة ومَن سَيَقوم بها ذو نيّة صادِقة ونفس سَليمة، لكن للأسَف الباطِل والأنتقام كانا مِن وَراء القَصد، ونيّة السوء والنفوس المَريضة هي التي حَكمَت ونفّذت، ولا غَرابَة في ذلك فالإناء يَنضَح بما فيه، وإنااء إنقلاب 14 تموز التآمُري الدَمَوي لم يَكُن ليَنضَح بأقل مِن هذه المَحكمة البائِسة.
لقد أجمَع الحُكماء وأصحاب العُقول مِمّن كتبوا عن تأريخ العراق الحَديث على أن هذه المَحكمة هي مَهزلة ونكسَة بتأريخ القضاء العراقي، بالتالي تستوجب الخجل وتنكيس الرُؤوس لا الدفاع عَنها ومُحاوَلة تجميلها كما يَفعل بَعض مَن لا زالوا أسيري الأفكار الصَدِأة، التي وبَدلاً مِن تجديدِها يُحاولون بَين حين وآخر بَعثَ الروح فيها وإعادة تصديرَها للأجيال اللاحِقة، ولا عَجَب في ذلك، فهؤلاء أضاعوا بوصَلتهُم ويَدورون مُنذ زمَن بَعيد بحَلقة مُفرغة مِن رُؤى وأفكار عَفى عَليها الزمَن، وهو أمر مُؤسِف مِمّن يَدّعون تبَنّيهم لأفكار ديمُقراطية وما يَرتبط بها مِن شَرعِية دستورية قانونية. فهُم مازالوا يُعَظِّمون هذه المَحكمة ويُرَوّجون لها ولتفاهاتها، رَغم أنها لا تمُت لما يَدّعونه مِن قيَم قانونية وأنسانية بأي صِلة، مُبَرّرين ذلك باسم الشَرعية الثورية التي تناقِض الشَرعية الدستورية. فهي أولاً مَحكمة عَسكرية تتنافى مَع مَفهوم الدولة المَدنية الذي يُردّدونَه دائِماً، وتمَيّزت بأجواء سيرك هَزلية جَعَلتها أضحوكة وأخرَجَتها عَن وقارها، إضافة لإستِخدام ألفاظ وأساليب لاأخلاقية في التعامُل مَع المُتهَمين تُعيب أي مَحفل تتردّد فيه وتتنافى مَع القِيمَ الأخلاقية التي يَدّعيها المُثقفون الثوريّون، ناهيك عَن مَفهوم العَدالة الذي غابَ عَن جَلساتها وأستُعيضَ عَنه بمَفاهيم الحِقد والثأر والأنتقام التي تجَسّدت بأبشَع صُوَرها في مُحاكمة سَعيد القزاز،الذي فشِلت المَحكمة بإثبات أي تُهمة حَقيقية عَليه وفق السِياقات القانونية، لكنها رَغم ذلك حَكمَت عَليه بالإعدام.
لقد كانَت الإهانات والتَجاوزات وبَذيء الكلام هيَ الصِفة المُمَيّزة والعَلامة المُسَجّلة لهذه المُحاكمات،وبقدَر ما كانَت أجوائها عامِل تسلية للعوام والرُعاع الذين إستأنَسوا بها، فإنها كانَت إهانة لحُرمة القضاء وإنتهاكاً للعدالة، وكانَت تُعرَض بالتلفزيون ويُشاهدها الناس كأنهم يُشاهدون مَسرَحية هَزلية. كانت المُحاكمات تبدأ عادة بخِطاب حَول قضايا الساعة، سُرعان مايَتحَوّل الى شتائِم وإهانات للمَوجودين أمام المِنَصّة باعتِبارهِم مُذنبين ومُجرمين، رَغم أنهُم خليط مِن مُتهمين وشُهود ومُحامين، وكثيراً ما كان يَتم قطع المُحاكمة لألقاء خُطبة أو قصيدة تَنتَهي أحياناً بدَبكة. لم تكن مَحكمةً بالمَعنى القانوني ولاحَتى المَجازي للكلمة، كانَت عِبارة عَن مُتنفّس لأمراض وعُقد كانت ولاتزال مُتجَذرة في نفوس عَوام الشَعب العراقي ورُعاعِه.
هنالك مُحاكمَتين بارزتين لابُد أن نُشير لهَما في هذا المَقال لأهمِّيَتهما التأريخية في الكشف عَن حَقيقة هذه المُحكمة وطبَيعة أجوائها. الأولى مُحاكمة السَيد سَعيد القزاز الذي كان وَزيراً للداخلية أيام العَهد المَلكي، والذي لم يَحظى بمُحاكمَة عادلة بل كان يُواجه أعداء استحوَذت عَليهم شَهوة الثأر، فكانَت جَلسات مُحاكمَته نموذجا جَلياً للانتقام بكل مَعنى الكلمة، ما جَعله على يقين بأن مَصيره سَيَكون الاعدام، لذا وهو المَعروف بتمَسّكه بقيَمِه ومَبادءه لم يَهتز أو يَنهار أو يَتنَصّل مِن مَسؤولية ما قام به مِن أعمال، أثبَتت المُرافَعات وشَهادات الشُهود أنها كانت خدمة للبلاد وضِمن إطار القانون، رَغم عِلمه أن ذلك سَيُسهم في تضييق حَبل المشنقة حَول رقبَته، وفعلاً حُكِم عَليه بالاعدام شنقا ونُفِّذ فيه الحُكم عام 1959. أما الثانية فهي مُحاكمة السَيد أحمد مختار بابان آخر رئيس وزراء في العهد الملكي، والذي كان سِجله نظيفا لا تشوبه شائبة بكل المَناصِب التي شَغلها في ذلك العَهد، فهو الآخر لم يَتخاذل ولم يفقد هَيبته ومَنطِقه خلال المُحاكمة رَغم الإساءة والتَجريح، وقدّم مُرافعة دافَع بها عَن مَوقفه ودَحَض كل التُهَم التي وُجِّهَت له، ورغم شَهادة الشُهود التي كانت بمُجملها مُنصِفة له وفي صالِحِه، فقد حُكم عَليه بالاعدام شَنقاً، ولكن الحُكم خُفِّف للسِجن المُؤبّد لأسباب مَرَضِيّة ثم أطلِق سَراحه مَع آخرين في إحتفالات الذكرى الثالثة لإنقلاب14 تموز.
لقد مَثلت مَحكمة الشَعب بحَق الوَجه الحَقيقي البَشِع لإنقلاب 14 تموز، وكانت المِرآة التي عكسَت الصورة القبيحة الهَمَجية لنوعيّة الأشخاص الذين قاموا بهذا الإنقلاب وتسَلموا وأمثالهم مَقاليد الحُكم في العراق مُنذ ذلك اليوم وحَتى يَومنا هذا، وللعَوام التي إنساقت وَرائهُم ولاتزال تهتف لهُم ولأمثالهم مُنذ ذلك اليوم وحَتى يَومنا هذا. صورة قبيحة ووَجه بشِع حاول البَعض تجميلهُما لعُقود برُتوش شِعارات كاذبة، وحَديث مُفتعَل عَن إنجازات لقوانين وبنى تحتية قام بها الإنقلاب، أظهَرت الأيام بأنها كانت سَتحصُل أصلاً كونها مُدرَجَة ضِمن خُطط وزارات ودَوائر ومُؤسّسات ومَجلس إعمار النظام المَلكي، وقد وجَدها الإنقلابيون أنفسُهم في أدراج مُوظفيها وقاموا بتنفيذ بَعضَها ونسَبوا الفضل لأنفسِهم.
قيل الكثير عَن هذه المَحكمة المَهزلة التي كانت ولاتزال وَصمة عار في جَبين العراقيين حَتى يتبرؤا مِنها ومِن أفعالها وقراراتها، فقد وَصَفها البَعض بمَسرَح لتمثيل الروايات الهَزلية ، وَوَصَفها البَعض اللآخر بالسيرك، كما شَبّهَها آخرون بالمَقصَلة التي يُساق اليها الناس للحُكم عُليهم وليسَ لمُحاكمتهم وفق القانون، ولكن تبقى كلِمات الراحِل سعيد القزاز وهو يَعتلي مِنصّة المِشنقة أبلغ ما قيل فيها وفي زمانِها وفي وَصف النُخبة البائِسة التي جائَت بها حينَما قال نُبوئته الخالدة “سَوف أصعَد المِشنقة وأرى تَحت أقدامي رُؤوساً لا تستحِق الحَياة” .

[email protected]