مشهد الدم المسفوح والقتل بالجملة هو الذي عم العراق في 8 شباط المشؤوم عام 1963 ،ضد ثورة العفة والنزاهة في أذهان محبيه، وانطوت صفحة الجمهورية الفتية ، فرحة لم تكتمل وحلما توهّج وانطفأ، واعيد انتاج الظاهرة ( الإنقلاب الاسود) كلا او جزءا ، لمرات عديده ، الانقلاب التصحيحي كما سمي في 18 تشرين الثاني بقيادة عبد السلام عارف و17 تموز 1968 وعودة البعث ، لقد اغرق الإنقلابيون شوارع البلاد وسجونها ومعتقلاتها والتلذذ بدماء وآلام وأنين عشرات الآلاف من خيرة بنات وابناء شعبنا، من قادة العراق واصدقائه وحلفائه، من وطنيين وديمقراطيين ومستقلين شرفاء بطبقاته العلمية والثقافية المتعددة ، وجرى تحويل مدارس وملاعب رياضية ومبان حكومية كثيرة في اجزاء واسعة من البلاد الى سجون ومعتقلات مثل خلف السدة والنادي الاولمبي في الاعظمية والخيالة في الوزيرية وسجن رقم واحد وابو غريب وهو تحت الانشاء وقصر النهاية وثم الى سجن نقرة السلمان ومقرات الحرس القومي في الكرادة والفضل والكاظمية والثورة ومئات من السجون في المدن والقصبات العراقية لتستوعب تلك الأعداد الهائلة من المعتقلين والسجناء الأبرياء، وهم يجوبون الشوارع حاملين بنادق بور سعيد السيئة الصيط المجهزة من المخابرات المصرية باومر من الرئيس جمال عبدالناصروالمهربة عن طريق سوريا والاسلحة المتنوعة الاخرى التي تم السيطرة عليها وتوزيعها عن طريق الضباط المشاركين في الانقلاب الدموي من المعسكرات للاعتداء على ابناء الشعب من الطبقات المختلفة لافرق عندهم نساء كانوا او رجلاً دون استثناء والذين لا ذنب لهم سوى حبهم لشعبهم ووطنهم واستعدادهم للتضحية من اجلهما. 8 شباط كانت طاحونة الموت التي دارت في رحاب الوطن الذي تعافى من نظام ملكي تواً ولم تمض اربعة اعوام ونصف حتى حدث ما لم يكن يصدقه الشعب الذي ساند الثورة وزعيمها الذي ظلم كما لم يظلم أحد. ولا يمكن لاي باحث او مؤرخ منصف ان ينكر دوره كلما ذكرت ثورة 14 تموز المجيدة حيث كان الزعيم عبد الكريم قاسم مؤسس اول جمهورية عراقية وشخصية عسكرية وسياسية ذات نكهة عراقية خالصة لا تشوبها شوائب، هذه الحقيقة التي لم يتمكن أعدائه من طمسها ومن ينسى عار البيان رقم 13 الذي ظل يلاحقهم، وقد تلطخت أياديهم بدماء المئات من الوطنيين والشخصيات الديمقراطية والتقدمية، لازمت تلك العصابة التي حكمت وميزتهم. الذين استخدموا لقهرالشعب واذاقوه ابشع صنوف التعذيب، فأرعبهم الشعب بصموده وهزمهم بقوة إرادته وعمق ايمانه بمبادئه وثقته غير المحدودة بشعب لا يسكت على الظلم رغم ان جرائم الانقلابيين بلغت حدا أصبحت فيه عمليات التعذيب والاغتصاب والقتل مشاهد يومية، بحق كل وطني مخلص يمارسها مسلحو “الحرس القومي” في مقراتهم وفي المعتقلات الكثيرة والمنتشرة في المدن، بحق كل وطني مخلص وكل من يشتبهون في عدم ولائه لمشروعهم الهمجي والعنصري البغيض. حيث ظهر فيما بعد من قبل قادة الانقلاب المشؤوم الذين هربوا من السلطة فيما بعد ولا نبرء احد منهم في استنزاف الدم البريئ، او تم طردهم دون ذكر الاسماء .وافضل شهادة هي للملك الاردني حسين لمحمد حسنين هيكل الاعلامي والكاتب المشهور، ما نصه: “.. اسمح لي أن أقول لك إن ما جرى في العراق في 8 شباط (فبراير) قد حظي بدعم الاستخبارات الأمريكية.” ولا يعرف البعض من الاجيال ما جرى في بغداد اليوم هذا الأمر. لعبة السياسة الدولية ومصالحها كان لها دور في تشجيع أو تأييد الخصوم أو جني ثمار نزاعات الأطراف المتصارعة، لقد عقدت اجتماعات عديدة بين حزب البعث والاستخبارات الأمريكية، وعقد أهمها في الكويت. ويكفي ان نعود الى كتاب “المنحرفون” الصادر عن سلطة انقلاب تشرين 1963 التي اطاحت بحكم العفالقة المجرمين وحرسهم القومي، والذي نقل عن الضابط والوزير نعمان ماهرالكنعاني قوله آنذاك: “ان اليوم الذي شهد ولادة الحرس القومي ومكتب التحقيق الخاص لن يذكره التاريخ إلا بشعور من الخجل والعار”. لقد لعبت المخابرات الأجنبية، وخاصة البريطانية والأمريكية، دوراً كبيراً وبالأخص الـ CIA، وكانت اذاعة محطة سرية تبث إلى العراق من الكويت تزود رجال الانقلاب الاسود( يوم 8 شباط – براير) بأسماء وعناوين الوطنيين هناك للتمكن من اعتقالهم وإعدامهم والعديد من الذي تورطوا في ذلك الانقلاب الاسود لقد اعترفوا بمكانتهم ودورهم في تلك الجريمة الشنيعة ربما في صحوة ضمير ولا اعتقد ان يصحوا ضميرهم او بالاصح تأنيب ضميرهم بعدما أخذت السنين منهم ماخذاً وكذلك بسبب اخفاقهم في تحقيق الشعارات البراقة والكاذبة التي كانوا يطلقونها باسم الوحدة والحرية والاشتراكية المزيفة لم يجني منها سوى الخيبة والاوجاع ، ومنهم من دعاة الوحدة العربية الكاذبة والذين ساهموا في تفكيك الروابط القومية حتى في ابسط اشكالها وتقف اذاعة صوت العرب التي كانت تبث من القاهرة وعرابها احمد سعيد في مقدمتهم . هذه الايام ونحن نستذكر بأسى وحزن عميقين احداث 8 شباط 1963، الدامية وطيوف شهدائه وضحاياه الخالدين، وصور البطولة النادرة التي سجلوها في مواجهة الجلادين، في شوارع بغداد والعديد من المدن ومقاومة تلك المؤامرة الدامية بحق شعبنا حري بنا، وبلادنا تمر في واحدة من أعقد ازماتها السياسية والإجتماعية في السنوات الأخيرة، ان نستعيد شيئا من دروسها. ان غياب الديمقراطية الحقيقية و الدستورية الصحيحة ، والتجاوز على الحريات العامة، والميل للإنفراد بالسلطة، وتهميش الآخرين من القوى الوطنية الحية واغفال تضحياتها، والاستهانة برأي الجماهير الشعبية، كلها كفيل بخلق انسب الاجواء والظروف للانقضاض على الثورات والمنجزات مهما كانت كبيرة وعميقة.
ان وحدة الشعب الوطنية وتراص صفوف قواه المؤمنة بحياة ديمقراطية دستورية حقيقية في ظل نظام مدني ديمقراطي اتحادي يضمن حقوقا متساوية لجميع العراقيين على اختلاف قومياتهم واديانهم وطوائفهم، هي ضمانة لقطع الطريق امام المحاولات الشريرة التي تستهدف البلاد ومصالح الشعب العليا.الشعب العراقي امام مهمة للتصدي لسراق حقوقه وفضح سراق المال العام على ان تكون من المهام الاولى في نضالها اليومي والعصيب، ولن تنجح في مهمتها الوطنية هذه من دون جر اكثر فئات الشعب تضررا من سياسة حكامه الجدد الى ساحة النضال المطلبي. كون استمرار الاحداث وتوزيع مراكز القوى بالشكل الذي عليه اليوم سيفرز حتما اوضاعا سياسية تستكمل المهام المؤجلة لانقلاب شباط 1963 وهو ايجاد خارطة جديدة للمنطقة تبدأ من وطننا. أن مصير الظالمين واحد، فعلينا أن نتقي الله، الظالم لا بد أن ينتقم الله منه، سواء كان حاكماً أو حزباً أو حتى رب الاسرة في بيت أو في مدرسة، أو في إدارة حكومية، الظالم هو الذي يورث الأحقاد، والظالم هو الذي يجعل الأمة تتفرق وتختلف قلوبها، فالظلم لا يمكن أن يجمع، لأن الفتنة والفوضى ليست بديلاً عن الظلم، هذه حقيقة يجب أن يعرفها الناس علينا أن نبدأ في الأخذ بالأسباب بقدر ما يعيننا الله تبارك وتعالى عليه، لكي نحقق ما نصبوا اليه.