الحديث عن تأريخ العراق الحديث، حديث ذو شجون، فهو تأريخ ساخن، ومشبع بالويلات والفواجع الكارثية، رغم أنه لم يخلو من نقاط مضيئة هنا وهناك، لكن حتى هذه النقاط المضيئة، حين نتذكرها أو نكتب عنها، فإننا نطالعها بحسرة وحزن، فلقد كانت عابرة وقصيرة شأنها شأن كل حدث عظيم يمرّ في حياة الأمم، ورغم كل الذي تركته من أثار طيبة وعميقة في شخصية ونفسية، المواطن العراقي.
في الثامن من شباط الأسود1963كان العراق على موعدِ مع واحدة من الإنتقالات الخطيرة في تأريخه الحديث، التي قادت إلى انفلات دموي، قادته عصابة شوفينية لم ترى من منهج لقيادتها للعراق غير منهج الدم والإقصاء والتخوين، والقوانين الجائرة، التي زرعت الخوف في كل زاوية وشبر من أرض العراق، ليستمر هذا الحال الشاذ عقوداً من السنين، كانت خلالها هذه العصابة الشوفينية، تقود العراق إلى منحدر طريق، ليس من نهاية له، غير الإندحار والسقوط.
في الثامن من شباط الأسود، لم تسقط تجربة ثورة 14 تموز الخالدة لوحدها، بل سقطت معها كل العناوين المشرفة التي أرادت للعراق الخير، وكانت في سباق مع الزمن لتضع العراق في موقعه الحقيقي بين الأمم، فكانت التجربة الفذة والمثيرة التي قادها المرحوم، الزعيم عبدالكريم قاسم، لينتشل العراق من حالة البؤس والفقر التي كانت تشل كل مفاصل الدولة ويرتقي به إلى حيث مكانته الحقيقية، فكانت قوانين تأميم النفط، والإصلاح الزراعي، وقانون الجنسية والأحوال المدنية، وانتشال الفقراء والمعدمين من الأماكن البائسة التي كانوا يعيشون فيها، ومنح الأراضي لهم وبناء المدن الجديدة، وحملات عمرانية متعددة في مجالات تعبيد الطرق والجسور، وبناء المستشفيات والمستوصفات الصحفية، في كل محافظة وومدينة عراقية، ومازال البعض منها عامراً يؤرخ لتلك الفترة الذهبية من تاريخ العراق، مثل مستشفى مدينة الطب، ونهضة علمية وتربوية كبيرة، من خلال الاهتمام ببناء المدارس بكل مراحلها التعليمية، وكذلك الجامعات الرصينة مثل الجامعة المستنصرية، والجامعة التكنولوجيا، وتطوير جامعة بغداد من خلال اضافة العديد من الكليات والاقسام لها.
لكن كل ذلك لم يستمر طويلا، فلقد كان كان خط الثورة العام وقائدها، الذي رسخ مفهوم الوطنية والعراقية الحقة، يتعارض مع المشاريع القومية والشوفينية في المنطقة، ولأجل ذلك تحركت القوى المعادية للعراق في أكثر من مناسبة، لإسقاط هذه التجربة العراقية الوليدة، فكانت حركت الشواف، ومحاولة اغتيال الزعيم أكثر من مرة، كلها علامات تنبؤ بما كان يدخر للعراق من مستقبل أسود، لكن قائد الثورة وزعيمها كان ينظر للجميع بعين الأبوة والأخوة ، حتى لألد أعدائه، لتكون النهاية الفاجعة صبيحة 8 شباط في يوم من أيامه السوداء في تأريخه الحديث.
حيث تحول الخونة والجلادين، إلى قضاة وحكام عدل، بعد غدروا بالثورة واستفردوا بقائدها، بعيداً عن الجماهير المغيبة، والتي كانت لم تزل متعلقة بحلم الثورة وجمهورياتها الخالدة، ليتوج ذلك اليوم الأسود باغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم، بطريقة خالية من كل النواميس والسنن الاخلاقية، لتبدأ بعدها مرحلة دموية اجتاحت العراق من شماله إلى جنوبه تقودها
المليشيات القومية الشوفينية، بكل ما تملك من سلاح وحقد، على كل ما تبقى من مشروع حلم الجمهورية الخالدة التي وعد بها الزعيم قاسم.
كان هدف الانقلابين الأول هو القضاء على رمز الثورة وقائدها، لأنه كان يمثل النموذج العراقي الثوري الأصيل بما كان يمتلكه، من مؤهلات ومزايا كاريزمية، قلما عرفها العراق بشخص من يقوده خلال قرون من السنين من تأريخ العراق، فلقد عرف عن الزعيم المرحوم عبدالكريم قاسم، سمحاته ونزاهة روحه، ونظافة يده التي لم تمتد للمال العام، بشيء يمس قدسية هذا المال وخصوصيته، سواءاً كان لنفسه أو للمقربين منه من أفراد أسرته، كان عفيفاً في روحه، وزاهداً بما وفرته له السلطة من امتيازات ومباهج، كان يمكن له لو أراد لكان من أثرى أثرياء العالم، لكنه استعاض عن كل هذا بحبه للعراق وللعراقيين، وخصوصاً فقرائهم، وكانت له الكثير من القصص، التي تروى عن حبه لشعبه وحرصه الدائم، على أمنهم وسلامتهم ورفاهيتهم.
ولأكثر من 5 سنوات قضاها الزعيم عبدالكريم قاسم في سدة الحكم، لم يعرف عنه، مذهب ولا دين، غير انتمائه الوطني للعراق، حيث كان يحرص أشد الحرص خلال تأديته لطقوسه الدينية والعبادات، أن يكون بعيداً عن أعين الناس وحتى المقربين منه، وحين أراد أعدائه الطعن به لم يجدوا من تهمه يلصقونها به غير يطلقوا عليه تسمية (ابن العجمية) نسبة إلى امه الزبيدية، وهي من زبيد أصل عشائر العراق وفخرها.
في 8 شباط الأسود رحل الزعيم المرحوم عبدالكريم قاسم مع الثلة الشريفة من رجال العراق المناضلين، دون أن يترك له أعدائه، حتى أن يدفن في قبر، كما هو المتعارف عليه في الديانات الإلهية، فلقد كان يرعبهم في حياته وفي موته، لم يأخذ من الدنيا إلا ما يسد رمق يومه، خرج منها نظيف اليد واللسان والقلب، ليترك العراق من بعده نهباً، للمقامرين والإنتهازيين، والساعين إلى السلطة وامتيازاتها وثرائها، كما فعل من جاء من بعده، الذين أدخلوا العراق في نفق مظلم من 8شباط وحتى 2003 يوم سقوطهم المخزي، على يد أصدقائهم وحلفائهم الأمريكان، بعد أن حول طاغية العراق صدام البلاد، إلى ضيعة عشائرية وعائلية وحزبية، وجرده من كل تاريخه الحضاري والثقافي، وأدخله في اتون حروب طاحنة مع دول الجوار، راح ضحيتها الملايين من أبناء العراق، بين قتيل وأسير ومعوق ومفقود، في حروبه العبثية الطائشة، كحربه مع الجارة ايران، في ايلول 1980 مدفوعة الثمن كما تصور الطاغية من دول الخليج، والتي استمرت لأكثر من 8 سنوات، وكذلك احتلاله للدولة الشقيقة الكويت ومحاولة ضمها للعراق في آب 1990.
وما شرعه من قوانين جائرة، بحق العراقيين الأصلاء، مثل قوانين اسقاط الجنسية العراقية، وقوانين الترحيل والتهجير الإجباري، لآلاف من العوائل العراقية، بعد أن أقدم على اعدام رجالهم وابنائهم، وقوانين الإعادم والملاحقة للمنضمين للأحزاب العراقية المعارضة، لنظام البعث وبأثر رجعي، والاستحواذ على ثروات العراق واثاره ومردودات النفط، له وللمقربين منه، والمنتفعين من نظامه، من رجال سياسة وإعلام وثقافة، عرب وأجانب، بما عرف بعد ذلك (بكوبونات النفط) في وقت كان يعاني العراقيين الأمرين، من الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة بعد اجتياحه الكويت آب 1990.
ذلك كان النظام البديل، لثورة تموز 1958 وقائدها المرحوم عبدالكريم قاسم، نظام دموي فاشستي، دمر العراق وقاده إلى تقطيع أوصاله، بعد أن أضعفه، وانتهك مؤسساته وخصوصاً العسكرية.
في ذكرى 8 شباط الأسود لا يسعنا نحن العراقيين، إلا أن ننحني بكل تقدير واحترام، لروح قائد ثورة تموز وبطلها، المرحوم الزعيم عبدالكريم قاسم، وإذا كان نظام البعث قد حرمه من قبر يدفن فيه جسده الطاهر، فقبر الزعيم المرحوم عبدالكريم قاسم في أفئدتنا وفي قلوبنا، ومكانه في عقولنا، وبين حدقات عيوننا، فسلاماً سلاماً لروح الزعيم الطاهرة ورفاقه ممن قضوا في ذلك اليوم الأسود من تأريخ العراق.