لعل شخصية عبد الكريم قاسم وانقلابه على الحكومة الملكية يوم 14 تموز عام 1958 من أكثر المواضيع إثارة للجدل في تاريخ العراق الحديث لان الناس غالبا ما ينظرون للتاريخ من جهتها العاطفية والإنسانية وليس من زاوية علمية . بل مازال الاكادميين انفسهم منقسمون من اعتبار التاريخ علما او فنا ام ادبا لان البعض يستدل على ان التاريخ ليس بعلم لعدم إمكانية اخضاع الاحداث التاريخية للفحص والتجربة وانما التاريخ بحاجة الى الخيال والعاطفة لمعرفة الاحداث وحتى القرائن التاريخية غير كافية لاثبات ذلك.
يتفق اكثر الناس وحتى اعداء عبد الكريم من القوميين والبعثيين على انه كان نزيها ولم يهمه الاموال والاملاك وكان ذو قابلية في الخطابة وفي اللغة وكان عراقيا أصيلا انجز عدة مشاريع سريعة للحد من مشكلة سكن الفقراء وزود رواتب العاملين في الدولة واصدر القانون رقم 80 للحد من النفوذ الغربي في الصناعات النفطية وقرارات هامة اخرى.
الا ان عهده امتازت بمتغيرات واحداث ثقافية واجتماعية وسياسية لم تكن في صالح الشعب العراقي على المدى البعيد منها:
1 – كانت قسما كبيرا من المظاهرات والتجمعات الجماهيرية في العهد الملكي ضد الدولة والحكومة وهي احد تعبيرات الثقافة الديمقراطية والليبرالية , ولكنها أخذت منحاً معاكسا بعد الانقلاب العسكري في عهد القاسم ,فجميع التجمعات الجماهيرية والنقابية والعسكرية والمهنية أصبحت لتأييد و التصفيق والهتاف للقائد الأوحد وللنظام الجديد مثلما فعلت البلشفية في روسيا !! فغيرت ثقافة التظاهر من المطالبة والاعتراض للحكومة والدولة الى تاييد الدولة والحكومة في كل شئ وبالتالي اصبحت التظاهر والخروج ضد الحكومة في العهد ألقاسمي وما بعدها لحد سقوط صدام حسين عام 2003 آخر معاقل العسكريتاريا في العراق جرما يعاقب عليه،وحتى ان قائد الضرورة (كما يسمي نفسه) صدام حسين سن قانونا بمنتهى القساوة والديكتاتورية والعسكريتارية يعاقب بموجبه بالإعدام كل من حرض الناس على رئيس الجمهورية حتى بالكلمات الغير المباشرة !!! .
2 – الغاء قانون الاحزاب والتعويض عنه بميليشيات المقاومة الشعبية التي سيطرت عليها الشيوعيين وتحول العراق الى نظام الحزب الواحد بعد ان كانت في العراق قبل 14 تموز 48 حزبا رسميا.
3 – الغاء الدستور الدائمي للعراق واستبداله بدستور موقت. ولازال العراق يأن من هذه الفعلة بعد مرور اكثر من نصف قرن على هذا الانقلاب العسكري , حيث بدأت في العراق فترة الدساتير الموقتة من عام 1958 ولحد عام 2005 حيث تم اقرار اول دستور دائمي للعراق لكنه يشوبه الكثير من النقص والمشاكل وعدم انطباق الكثير من بنوده لثقافة الشعب العراقي واحتوائه على الغام تقسيمية للعراق تحت مسميات فضفاضة مثل الفيدرالية وتوزيع الثروة الطبيعية بل تحتوي على 70 مادة مثيرة للجدل، فلو طبق هذا الدستور حرفيا فلا تبقى دولة باسم عراق وانما دويلات وامارات تحارب بعضها الاخرى من اجل الحدود والمياه والثروة الطبيعية مثل النفط كما يحصل الان مع اقليم الشمال التي تسيطر عليها الاحزاب الكردية.
4 – عسكرة المجتمع واعطاء دور اكبر للجيش في الدولة والسلطة بعدما كانت نفوذ العسكر في العهد الملكي محدودا في المجتمع فتطورت الامور حتى اصبح بعض الشبان الطامعين في السلطة يدخلون الكلية العسكرية ثم تطورت اكثر في عهد صدام حسين وفي فترة الحرب العراقية الايرانية فاصبح اكثرية رجالات الشعب العراقي عسكريا خضوعا للقانون ونظام التجنيد فمن ناحية يحاصر الفرد الفقر فكان يتطوع للجيش ومن جانب التجنيد الاجباري ومن جانب اخر ميليشيات الجيش الشعبي.
5 – اهتم حكومة عبد الكريم قاسم بمشاريع قصيرة المدى دون الاهتمام الكافي بمشاريع طويلة المدى, فكانت مشاريع العهد الجمهوري قصيرة ا لمدى مثل بناء دور للعمال والموظفين وبناء المستشفيات في كل مدينة والذي له تاثير مباشر على حياة المواطنين, فالعهد الجمهوري الجديد لم يوازن بين متطلبات العراق كدولة بحاجة الى مشاريع ستراتيجية ومشاريع للطبقات المحرومة للشعب بينما كانت مشاريع العهد الملكي مشاريع ستراتيجية عملاقة مثل بناء السدود والطرق ومد انابيت النفط وغيرها.
وتمددت هذه العقلية الى عهد صدام فاصبحت اكثر استفحالا نتيجة سيطرة ثقافة الريف على المدينة!! فاصبح السيارة التي تعطى لاهل المقتول في حروب النظام او افراد الجيش هدية الرئيس وقطعة الارض المستولى عليها من قبل الحكومة فيتم توزيعها باسم عطاء الرئيس وسخائه ……..وهلم جرا.
ولم تسلم العهد الجديد بعد السقوط النظام عام 2003 من اثار تلك الثقافة التي وضع اُسُسها عبد الكريم قاسم الى يومنا هذا حيث المشاريع القصيرة المدى مثل التطوع للشرطة او الصحوات وزيادة الرواتب بدلا من بناء المصانع والمزارع المنتجة ولا زلنا نعاني من مشكلة الماء والكهرباء بشكل كبير ولا زلنا نعاني من مشاكل كان من المفترض لم تصل الى يومنا هذا، فما الفائدة ان يستلم مدير الدائرة على عدة الاف من الدولارات شهريا وطفله يذهب الى المدرسة عابرا الشوارع الوسخة والغير المشجرة والارصفة المتهرئة وما فائدة بناء البيوت العشوائية والتي تفترض ان تبنى قبلها المجاري للامطار واخرى للمياه الثقيلة وتبلط الشوارع مع خدمات الطاقة من كهرباء وغاز والمياه النظيفة.
6 – عدم القدرة على حل المشكلة الكردية. ارتكب عبد الكريم قاسم خطأ فادحا عندما دعا الملا مصطفى البارزاني الى العراق باعتقاده انه سوف يحل المشكلة ,عدم دراية منه عن حقيقة التمرد الكردي وهي ان الحركات والاحزاب الكردية هي بندقية مأجورة تارة للشرق وتارة اخرى للغرب،كما وصف عبد الكريم الشعب العراقي في دستوره الموقت بانه يتكون من العرب والاكراد ضاربا عرض الحائط التكون التاريخي للشعب العراقي التي يتكون الى جانب العرب والكرد من قوميات مهمة اخرى كالتركمان الذين هم جزء مهم من تاريخ العراق والتي كانت السومريين يتكلمون احد لهجات التركية (تاريخ الشعوب الاسلامية –المستشرق النمساوي كارل بروكلمان- دار العلم للملايين بيروت) بالاضافة الى الكلدو اشوريين الذين يمتد تاريخهم الى العصر البابلي والاشوري.
بينما كما وصف الدستور الملكي لثقافة و تركيبة الشعب العراقي اكثر دقة في الدستور الملكي.
7 – حصول جرائم سياسية كبرى في عهده مثل جريمة القتل العام للتركمان من قبل الشيوعيين الاكراد في كركوك يوم 14 تموز في الذكرى السنوية الاولى للانقلاب ( او الثورة كما يسميها التاريخ الرسمي العراقي) حيث شهدت كركوك قتل التركمان وسحلهم والتمثيل بهم بعد قتلهم في الشوارع، وعرفت ب مجزرة كركوك ،وهي الثقافة التي جاء بها انقلاب قاسم حيث قتلوا الملك الشاب الصغير فيصل الثاني وافراد عائلته وقطعوا نوري سعيد اربا بعد مقتله!!!!.
كما حصلت جريمة اخرى في مدينة الموصل في قضية الشواف المعروفة.
8 – عدم وجود برنامج سياسي واضح في العهد القاسمي وتعريف دقيق للمرحلة، فهل كانت تلك المرحلة مرحلة انتقالية الى عهد ديمقراطي انتخابي ودستور دائم ام حالة راكدة يشوبها تثوير الجماهير بالخطب ومواجهتها بالمشاكل حصرا؟،فقد افنى الزعيم اكثر من 4 سنوات ونصف السنة في الحكم ولم يجري اي استفتاء على الدستور ولم تجرى انتخابات رئاسية او برلمانية فقد وصف عبد الكريم قاسم عهده بالجمهورية الخالدة وهي التعبير الذي يجعل من انقلاب قاسم اكثر غموضا منه الى الوضوح!!.
9 – اعتماد النظام على كاريزما عبد الكريم قاسم ووصفه بعبارات الزعيم الاوحد والرئيس وتعيين الكثير من العسكريين في مرافق الدولة بدلا من اعتماده على موسسات ثابتة قوية فاصبح في بعض الاحيان يخاف الضابط من الجندي لكون الثاني من افراد الحزب الشيوعي وكانت تلك بداية دخول الحزب بشكل رسمي الى الموسسة العسكرية العراقية رغم ان الزعيم كان يقول ان الجيش فوق الميول والاتجاهات، وقضية دخول الحزب الى الموسسة العسكرية استفحلت رويدا فرويدا حتى وصلت الى عهد الرئيس صدام حسين فاصبح البعث والجيش حالة واحدة !!فأصبحت هذه الحالة الوريث لنظام 14 تموز مع الاختلاف في المسميات واستعمال الشدة والعنف والرعب والقتل والدمار بشكلها الأوسع والواضح والعلني.
وكما يعرف المؤرخ هيردوتس التاريخ بانه عبرة الماضي للحاضر والمستقل ،فلتكن عبد الكريم قاسم وانقلابه الدموي وثقافة العسكريتاريا الذي سَنَهُ للحكام الذين لحقوه عبرة لنا جميعا كعراقيين نريد بناء وطن مستقر وآمن , دولة مدنية حرة بعيدا عن العسكرة والعسكريين!!.
[email protected]