بعيدا عن النكوص إلى تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة ومجرياته، وهو تاريخ يكاد يكون معلوماً لمعظم المتابعين، فإن واقع الحال أنتج عراقاً بأربعة عشر لواءً صارت ثماني عشر محافظة فيما بعد منها ثلاث محافظات تشكل شمال العراق وهي: (أربيل، السليمانية، دهوك) ذات أغلبية كردية وهي موطن أكراد العراق يخالطهم فيها قليل من التركمان والعرب والمسيحيين وأقليات أخرى.
إلى جانب هذه المحافظات توجد كركوك المحاطة بجدل التاريخ والديموغرافيا والثروة والسلطة والتي يتنازعها التركمان والأكراد، والتي أضحت بعد عمليات متعاقبة من تعريب ثم تكريد بواقع ذي أغلبية كردية وهيمنة للكرد خصوصاً بعد أحداث 2014 حيث تفرد البيشمركة والأسايش بملفها الأمني، وقادة الاتحاد والديمقراطي بمقاديرها الإدارية والاقتصادية وثرواتها وسط خلاف طويل الذيل مع بغداد.
لم يحصل الأكراد كما هو حال الشيعة ومعظم سواد السنة على فرصة للحكم والشراكة في إدارة الدولة وشؤونها وثرواتها ،وبقي الحكم متداولاً ما بين ملكية قادمة من خارج الحدود وجمهوريات بدوائر ضيقة من المشاركة أنتهت بحكم العائلة في أواخر الحقبة السابقة ،وأستمر هذا الحال لحين عام 2003 ،ما عدا الفترة من عام 1991-2003 وعلى أثر ما صار بعد غزو صدام للكويت وما تبعه من أحداث حيث أقيمت مناطق حظر للطيران بمظلة أمريكية وأنفصل الأكراد بمحفظاتهم الثلاثة في إدارة مستقلة برئاسة وزراء وبرلمان وتخللت تجربتهم صراعات دموية كان أبرزها قتال الديمقراطي والاتحاد في منتصف التسعينات والذي تم الاستنصار بصدام من قبل البرزاني فيه ليحسم المعركة لصالحه بعد سفك غزير للدماء بين الأخوة.
وعلى طول تاريخ الدولة العراقية تعرض الأكراد مع معظم أطياف الشعب العراقي لعمليات اضطهاد وقمع وتهجير واحتجاز وقتل وإبعاد وكانت مأساة حلبجة وغيرها من المحن الكبيرة في تاريخهم وبمجاورة هذه الظروف والمجريات كان الحلم الكردي بالانفصال وتأسيس دولة مستقلة لهم يظهر ويخفت بحسب الأوضاع وهو حلم كل الأكراد في المنطقة سواء في العراق أو إيران أو تركيا أو سوريا.
شارك الأكراد في عراق ما بعد 2003 وقد رغب الأمريكان مؤسسو ومشرفو العملية السياسية الجديدة بمشاركة فاعلة لهم، وكانوا ولا زالوا أصحاب السهم الأوفى لدعمهم، وقد حصل الأكراد من خلال ذلك على فترة ذهبية لم تمر بحياتهم، تمثلت بفدرالية ظاهرية كونفدرالية في واقعها، وضمانات قانونية مسطرة لهم في الدستور والقوانين ،ونسبة ثابتة من موازنة الدولة العراقية ،ومناصب سخية بأعلى المستويات في بغداد بالإضافة إلى فرصة المناصب في الإقليم ،ومشاركة جوهرية في كل مجريات الدولة العراقية ،وفرص ثرية للتطوير الإنمائي والاقتصادي والاستثمار ،وفسحة واسعة من الحريات المكفولة ،ومكانة واضحة ومهمة بين تكوينات الشعب العراقي ،ومجال خصب لتشكيل امتدادات عميقة على مستوى العلاقات الدولية ،وموقع محوري في لعبة توازنات القوى الداخلية ومسارات الاستقطاب ،على أن ذلك لم يخلو من فترات للتعكير وأزمات للتصعيد ،لكن الجميع يطبق على أن المستفيد الأكبر مما حدث في 2003 هم الأكراد ،وقد ساهمت السياسة الخاطئة والقراءات ضيقة الأفق من كل من الشيعة والسنة في تفخيم وتضخيم موقع الأكراد حتى وصل إلى موضع الانتفاخ.
مع كل هذا الحال وشكاية الأكراد لا تنقطع ونواحهم بالمظلومية لا يتوقف وتهديدهم بالانفصال مستمرا، وكان آخر فصوله موضوع إجراء استفتاء شعبي لتكوين مخترع جديد سموه بـ “الكردستانية” والتي تعني بحسبهم المحافظات الكردية وكركوك والمناطق المتنازع عليها والمناطق التي دخلتها البيشمركة بعد احداث 2014 وأستولت عليها والكرد في أي مكان من العالم، على أن يمثل هذا الاستفتاء تخويلاً شعبياً بحق تقرير المصير الذي تتبعه مرحلة الانفصال في دولة مستقلة، معللين ذلك بتنصل الحكومات العراقية عن التزاماتها وعدم تطبيق المادة 140 وخرق الدستور ورغبة الشعب الكردي في تقرير مصيره ،ويقود هذا التوجه مسعود البرزاني وحزبه وتؤازره معظم الغالبية الكردية على ذلك.
يقابل ذلك جهد تحاوري وخطاب استرضائي من بغداد وجميع قواها السياسية، وأصوات إقليمية ودولية ومزاج شعبي عام منعكس في الخطاب المعلن يتمنى على الأكراد التخلي عن فكرة الاستفتاء وما يتبعها من انفصال في إطار حزمة من المزيد من الترغيب وقليل جدا من الترهيب، ويصل الحد بالكثيرين بوصف انفصال الأكراد نهاية العراق وتفتيت وحدته واضمحلال قوته ،وربما سيقود الوضع إلى حرب أهلية ،لذلك يدفع هذا الوضع البرزاني إلى المزيد من الانتفاخ وتصعيد رغبة المضي بالاستفتاء وتوسيع دائرة مريديه في إطار خطاب حماسي مدعوم بالتلويح ببعض التهديدات كما قال من يريد أن يجرب فليقترب وليرى ماذا نفعل وغيرها من عبارات بروباغاندا “الأكراد مقتدرون” ،وصوت ضعيف من العرب في المناطق المستولى عليها ،وعبارات خجولة من قيادتهم ،وتشتت في الموقف التركماني في ظل ضبابية الموقف التركي وضعف وضع بغداد وصفقات المصالح.
يهتم هذا النص بمصفوفة أسئلة تمثل “التفكير بصوت مرتفع”، وأولها: “لماذا يصر مسعود البرزاني على الاستفتاء ويقود عملية التصعيد؟”، وجوابه: بعد الفراغ من تكرس النزعة القومية لديه بوصفه أحد المتشددين تجاهها، وأن عملية الاستقلال متسقة مع حلم معظم المكون الكردي، وليقوم بدوره كزعيم لدفع وتنظيم وتحريك مطالب ورغبات وحاجات إتباعه إلا أن هناك موضوع لم يتم التركيز عليه يتصل بشخصية مسعود نفسها ،فالرجل مشغوف بالرمزية أكثر من صدام وهتلر وغيرهم ،وهو يرى أن أهم المكاسب التي حصلت في حياة أكراد العراق بل والمنطقة تحققت على يده وفي وجوده وهو مهندس هذه المطالب ،وأن العودة إلى الوضع السابق للإقليم مع المركز مع أصرار أطراف كردية على انتهاء رئاسته وعدم أحقيته للعودة إلى المشهد المناصبي يعني أنه سيغيب تدريجي عن الذكر والوجود ،ولن تكون محبوبيته أقوى من محبوبية “مام جلال” الذي يكاد يلفه النسيان ،فهو لن يقوى على تحمل مثل هذه النتيجة وشغف الرمزية لديه محاصر برموز مثل محمود الحفيد ووالده مصطفى وجلال طالباني وعبد الله أوجلان ،وهو يرى بنفسه وضعا متقدما على كل هذه القائمة لذلك فإن مجرد أن يكون هو أول من أسس دولة واقعية للأكراد يصعد به إلى أعلى الرمزية ويصير أيقونة القومية الكردية ،فضلا عن ضمان بقائه على سدة القيادة العليا مازال على قيد الحياة.
والسؤال الثاني: “ماذا قدم الأكراد للإقليم العربي طيلة وجودهم ضمن الدولة العراقية؟” وجوابه : بعيداً عن عبارات النفاق والمجاملة ومع حفظ الاحترام والمحبة للشعب الكردي كمكون إنساني محترم ومع التقدير لبعض الحالات الفردية المميزة ،فإن الأكراد لم يضيفوا لحياة العراق أي شيء مما هو مهم واستراتيجي ،فلم يكن وجودهم العدد يمثل إضافة قوة بشرية للقوة العراقية ، ولم تكن أرضهم إضافة موارد من الخيرات ، ولم تكن علاقاتهم وامتداداتهم كسند وظهير للعراق ،ولم يكن ولائهم تعزيز لهوية وطنية عراقية متماسكة ،ولم يكن هواهم متجه نحو تطوير هذا الجزء الآخر من العراق ،اللهم أن إضافتهم الوحيدة هي توفير بحبوحة من الجو المعتدل مقابل صيف لهاب يهرب إليها الكثير من العراقيين للاستجمام، ومنطقة يحرك البعض ثروته بعيدا عن العيون ،ومحل لعقد بعض الصفقات التي أمامها الكثير من علامات استفهام ،أما الأعباء فهي كبيرة وكثيرة ومنها حروب ونزاعات ،وإستنزاف شره في الفترة الأخيرة قائمة على فلسفة “خذ وطالب”.
وأما السؤال الثالث والأهم: “ماذا لو أنفصل الأكراد عن العراق؟”، وجوابه: مكرراً بعيداً عن لغة المجاملات والنفاق، فإن الأمر ليس فقط لا أضرار ولا عواقب سلبية، بل هو راحة من هذا “النق” المستمر، و “الابتزاز” الذي يحلب ببغداد دون رحمة، ووضع للأمور في نصابها الصحيح، وإعادة العرب شيعة وسنة للتفكير بالوطن والشعب والالتفات إلى مشتركاتهم وهمومهم ومصيرهم بعيدا عن توظيف الأكراد في لعبة “شد الحبل”.
يا أيها الحكومة والقوى السياسية والمجتمعية في العراق إتركوا الأكراد ينفصلوا وشجعوهم على ذلك وقولوا لهم بالعافية عليكم دولتكم الجديدة ولا تذرفون لأجلهم دمعة واحدة ولا تشمتون بهم في ذات الوقت، فإن استقام حالهم ومشت الأمور وهو مستبعد فحظهم ونصيبهم، وإن لم تستقيم وهو المؤكد وتقاتلوا فيما بينهم على الغنائم والسلطة والسيطرة فعليهم وزرهم وهم يتحملون خطيئتهم وإن عادوا مجددا سيعدون بشروطكم لا بشروطهم دعوهم يجربون الأمر من قريب ودعوا شعبهم يعرف قيمة وقدر خيرات العراق التي كان يتنعم بها وبحبوحة الأمان والثراء التي استفاد منها ،لا تقلقوا إن جاءت إسرائيل وفرشت في بيوتهم ،ولا يرعبكم تشجيعهم للبهائية والبابية والإنجيلية والبوذية وكل أمر مستغرب ،وخلوا بينهم وبين تركيا وإيران وسوريا لتحملوا كلفة الصراع معهن، وقولوا لكل مسؤول كردي تنعم في السلطة ببغداد “شرفتمونا أهلك ينادونك” ،ولكل كردي يؤمن بالانفصال رافقتك السلامة ،وأما من لا يريد ذلك فكل العراق بيته وهو على الرأس والعين.
بقي هناك أمر آخر يحتاج أن نفكر به بصوت أكثر ارتفاعا والمتمثل بكركوك والمناطق الأخرى خارج حدود الإقليم الرسمية والتي يصر الأكراد على قضمها، فالأمر سهل وواضح، فأما أن يكون لدينا “قوة الردع” وأقول قوة الردع وليس شيء آخر يراهن عليه البعض، فقولوا للأكراد بوضوح لن تأخذوا شبرا غير المحافظات الثلاثة، وإن لم يكن بكم قوة فسكتوا ولا تتوسلوا أحد ،ودعوا الأمور تسير كما فرضها الواقع ،فإني وإن كنت لا أتمنى لكركوك أن تخرج من حضن العراق إلا أني أقول لكم بشارة لم يلتف إليها الكثير ،وهي إن أخذ الأكراد كركوك فهي التي ستكون سبب اختلافهم وصراعهم ،وسيتقاتلون من اجل الانفراد بها ،وتصارعهم تركيا من الجانب الآخر من أجلها عليها لذلك ستكون كركوك نقمة عليهم وليست نعمة كما يتأملون.
أرجوكم لا تطالبوا الأكراد بتأجيل الاستفتاء ،ولا تدعوهم إلى مفاوضات ليس فيها إلا المزيد من الذل والغطرسة المسعودية ،وكرروا للجميع “مودعين لا يستحق فراقكم التوشح بالسواد”.