منذ الغزو الامريكي للعراق عام 2003، صار يتزايد الحديث عن امكانية قيام اقليم شيعي في جنوب العراق او حتى نشوء دولة شيعية منفصلة، ويعتقد الكثيرون ولا سيما في الغرب، هناك رغبة جامحة لدى سكان جنوب العراق لخلق كيانهم السياسي الخاص.
يتناول الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته لاول مرة، السجل التاريخي للانفصالية ومطالب اللامركزية في جنوب العراق. ويوضح، ان الانفصالية في جنوب العراق كانت من الناحية التاريخية ظاهرة هامشية، وحين كشفت مطاليب الاستقلال في الجنوب عن نفسها، فقد كان ذلك على اساس مدني وليس على اساس طائفي.
ويتوفر المثال الافضل عليها في حركة البصرة الانفصالية في العشرينات من القرن الماضي التي تزعمها تحالف واسع من النخب الحضرية، شمل السّنة والشيعة واليهود والمسيحيين، ودعا الى اقامة كيان سياسي منفصل من الفاو حتى القرنة الى الشمال من البصرة، على ان هذه الحركة الانفصالية اخفقت اخفاقاً ذريعاً ولم تكن هزيمتها نتيجة عنف او اضطهاد بل نتيجة انتشار افكار الوطنية العراقية بين نخبة شباب البصرة. ولهذا التراث التاريخي مضامينه بالنسبة الى النقاش السياسي الحاضر، فهو في الحقيقة يكشف ان اهم اتجاه في التاريخ الحديث لجنوب العراق، هو الوطنية العراقية وليس سواها، والتيار المهم الآخر في جنوب بغداد هو الاقليمية على نطاق صغير كالذي ظهر في الحركة الانفصالية في العشرينات، ومن ناحية اخرى فان الفكرة التي سادت منذ عام 2005، حول الانفصالية او الاستقلال الطائفي للشيعة من الخليج حتى بغداد لا تتطابق مع اية تجربة تاريخية.
حرص المؤلف ريدر فسر، على تناول تعقيدات الوضع السياسي البصري بلغة حيادية، وهو الباحث العلمي الذي قدم المادة الاساسية لمشروعه هذا ضمن بحث اكاديمي لشهادة الدكتوراه من جامعة اكسفورد. يهتم بالتاريخ والسياسة المقارنة، له الكثير من الكتابات حول تاريخ جنوب العراق وقضايا اللامركزية والفدرالية في العراق. ولا يستطيع القارئ الا ان يثني على ما قام به المؤلف من جهد استثنائي في مراجعة مواده ومصادره وفحص الاسس الفكرية التي تغذيها بنزاهة وحيادية مثلى تحسب له.
المؤلف في كتابه، ركز على هذا الفصل من تاريخ البصرة القريب منذ اواخر العهد العثماني وبالتحديد عريضة البصرة الانفصالية التي رفعها نفر من وجهاء البصرة الى سلطات الانتداب البريطاني عام 1921، متناولاً المواجهة التي حصلت بين الانفصاليين والوطنيين وبالتالي بالمفاهيم الثلاثة للعراق التي تكونت في ذلك العهد: المفهوم الثقافي للعراق، والمفهوم الجغرافي، والمفهوم القانوني. وحين يحاول الكتاب اعادة ما قام به الوطنيون من خلط هذه المفاهيم ببعضها ولا سيما في الحركة الانفصالية ذات الطابع الشيعي عام 1927، يجد ان علماء الشيعة قد انقسموا الى معتكفين هجروا السياسة وترفعوا عن الخوض فيها، وحركيين تبنوها وانهمكوا في اهتماماتها…..
ان الدعوة لانفصال الجنوب في العشرينات، لم تحظ بأي اهتمام من لدن المؤرخين الذين يكتبون عن العراق الحديث. ومع الاعتقاد بان الانفصالية في الجنوب تمثل تهديداً للوحدة العراقية، يكتسب هذا الالغاء دلالته. والحركة الانفصالية في البصرة هي المظهر التاريخي الوحيد في القرن العشرين تمثل مشروع انفصالي يتحدى هيمنة بغداد ويشكل حالة مثالية لدراسة كل من المطامع الاستقلالية المحلية، وكذلك القيود التي تعرضت لها فضلاً عن ذلك فهي تكون مثالاً تاريخيا ممتازاً للتركيز على بواعث الوطنية العراقية حين اصبحت القوى المعارضة للانفصال تتحرك الى اقصى مدى خلال هذه الحادثة التي تمثل التحدي الجذري بالتحديد.
والمؤلف استخدم في كتابه هذا حركة البصرة الانفصالية في العشرينات لتفسير السبب الذي اختفت بموجبه الانفصالية الجنوبية اختفاءً مبرماً من السياسة العراقية طوال بقية القرن العشرين، وكيف افلحت الوطنية العراقية في الحلول محلها. وتسأل المؤلف: ما اذا كان هذا الانتصار الواضح للقوى الوطنية يعتبر نهائياً؟
في الوقت الحاضر تجري في الجنوب اتجاهات سياسية جديدة مثيرة لها نظائر سطحية متعددة مع ما حدث في العشرينات، فهل تمثل هذه الميول الاقليمية الاخيرة احياءً فعلياً للدعوة الاصلية لبصرة ذات وضعية سياسية خاصة؟
حين اعلنت الانفصالية في البصرة في العشرينات من القرن الماضي، فشلت فشلاً بائساً، اذ سادت الوطنية العراقية حتى حين كانت الدولة العراقية في اوهن حالاتها في السنوات الحاسمة بعد سقوط الدولة العثمانية في اثناء الحرب العالمية الاولى. ويقتنع الباحثون الغربيون في العادة بان الشيعة جميعا من البصرة الى بغداد، يريدون دولة فيدرالية خاصة بهم. ويخشى زعماء عرب كثيرون من احتمالات وجود هلال شيعي يمكن ان يهب لطهران السيطرة على مصادر النفط الواسعة في البصرة كنوع من الدولة الشيعية الكبرى التي تهيمن على منطقة الخليج باسرها.
ومثلما كان الحال في العشرينات، تحظى الافكار الاستقلالية اليوم في الجنوب باهتمام كبير من لدن الغرباء الخارجيين، لكن الاشارات تدل على ان شعبيتها لدى سكان المنطقة قد تكون اكثر محدودية في الغالب… هناك امكانية متميزة بانها ستكون اصداء للقوى الوطنية العراقية التي هزمت انفصالية البصرة في العشرينات سلمياً ودون ان تكون لديها ثروة من الموارد المادية.
لقد انحصرت الانفصاليات الفاشلة حين تعرضت لكراهية المستعمرين والوطنيين على السواء، بهوامش كتابة التاريخ، وكثيراً ما توصف مشاريع من هذا النوع في الروايات التاريخية بانها مجرد ضجيج اجوف، اي رؤى يوتوبية لا تتحقق توقف المسيرة المتواصلة نحو مشروع بناء امة اكبر. ويمكن العثور على مثل هذه الميول الفكرية حتى في اعمال كتّاب لا تربطهم صلة نهائيا بالنماذج الوطنية المعينة.
كثيراً ما توقع بعض الباحثين ان يتحرر جنوب العراق من سلطة بغداد، وبنى بعضهم اراءهم على اساس عوامل تاريخية واصفين العراق بانه اختلاف حديث وهش ومصطنع، وهو مجرد خليط موروث عن الولايات العثمانية السابقة التي تجمعت اعتباطاً بعد الحرب العالمية الاولى، وافترض آخرون ببساطة ان التعايش بين الشيعة في الجنوب والسّنة في الوسط في دولة واحدة امر مستحيل، وان المطامح الشيعية الانفصالية هي سمة كامنة متواترة في السياسة العراقية.
ان فحص فكرة العراق كتكوين حديث تعتبر اليوم واجباً ضرورياً ما دام البرهان على اصطناعية البلاد نادراً ما يستدعي للمساءلة… وما ان يترسخ مفهوم الاصطناع حتى تظهر في الغالب الاستنتاجات المتعلقة بالنزعات الانفصالية المتوسطة لدى الشيعة في الجنوب دون اية مناقشة متأتية.. ويعِّير حتى مؤلفو بعض احداث التأويلات واكثرها توازناً للتاريخ العراقي عن درجة الارتياب في الايحاء بان هناك هوية عراقية يمكن ان يعود تاريخها الى ما قبل الاحتلال البريطاني عام 1914.
ان اغلب الدراسات التي تهتم نقدياً بهوية الاراضي في عراق القرن العشرين، لا تضفي على البصرة سوى وجود شبحي. وغالباً ما يسلم الكتّاب الذين ينطلقون من موقف بنائي خصوصية البصرة عائدين للنموذج التبسطي ولكن غير الصحيح تماماً عن بصرة شيعية وبغداد سنية وموصل كردية، واحيانا يحدسون وجود خصومات اقليمية محصنة فقط على اساس هذه الاداة التحليلية.
والحقيقة، ان ولاية بغداد العثمانية كانت تضم اربع مدن مقدسة شيعية بالاضافة الى اكثر العشائر في منطقة الفرات الاوسط مما يترك الفكرة القائلة بان البصرة هي المعقل الرئيس للتشيع في هذه الفترة، فكرة يتعذر الدفاع عنها تماماً. ومن ناحية اخرى تغيب الحركة الانفصالية التي تجسدت في البصرة عام 1921، غياباً ملحوظاً عن هذه التحليلات، والحقيقة انها تركته ولم يشعر بها ابداً الكتّاب ذوو النزعات الوطنية والبنائية ونزعات المراجعات على السواء.
واذا سلمنا بالتوتر بين مختلف التأويلات لظهور العراق باعتباره مفهوماً عن الهوية الوطنية، فان اهمال حركة سياسية محلية اصيلة ذات برنامج مضاد للعراق يمثل ثغرة تاريخية حقيقية بالذات، لان هذه الحركة بقيت معادية للوحدة مع بغداد طوال العشرينات لتنهار فجأة وتختفي دون ان يلاحظها احد. وبهذا المعنى تلقي النزعة الانفصالية لدى البصرة من خلال قصة انحطاطها ضوءاً على واحد من اهم انجازات الوطنية العراقية ادهاشاً.
ظهرت اول بوادر الحركة الانفصالية البصراوية خلال اجتماع بين برسي كوكس واثنين من كبار التجار من ملاك الاراضي في المدينة هما احمد الصانع وعبد اللطيف المنديل في 7/ نيسان/ 1921. وقد طالب البصراويان في المقابلة بأدارة منفصلة للبصرة تحت الحكم البريطاني المباشر، وزعما ان البصرة مدينة تجارية ذات مصالح تختلف عن مصالح بغداد. وقد اعربا عن مخاوفهما بأن يكون حكم بغداد بلوى اسواء من بلوى النظام العثماني. وفي الوقت نفسه بدأت تصل شبكة الاستخبارات البريطانية شائعات، بان عريضة قيد الاعداد تطالب بانهاء النفوذ العربي في الادارة المحلية واعادة تأسيس نظام بريطاني خالص يمتد من الفاو الى القرنة.
وفي ايار رفع عبد اللطيف المنديل واحمد الصانع عريضة للمندوب السامي يطلبان فيها الحكم البريطاني مساعدتهم في تنفيذ هذا المشروع. وقد اقر المسؤولون البريطانيون رسمياً بوجود حركة انفصالية بينما في الوقت نفسه اوعزوا فيه للصحف المحلية ان تعيد نشر خطبة مناصرة لفيصل القاها تشرشل في مجلس النواب مندداً فيها بالمخططات التي تتحدى رؤية المملكة المتحدة، وقد ورد فيها ذكر البصرة بالتحديد.
وفي 20/ حزيران قدم العريضة رسمياً الى المندوب السامي وفد يتكون من ستة اشخاص سافروا الى بغداد من البصرة. كانت العريضة تنطوي على عنصرين:
الاول: تقديم الحجج لدعم دعوة البصرة في المعاملة الخاصة وتشمل هذه الحجج المناخ المؤيد للبريطانيين في البصرة منذ الاحتلال عام 1914، وعدم وجود اخلال بالامن في المنطقة خلال ثورة 1920 والموقع الخاص للبصرة كميناء دولي منفتح ذي طبيعة تجارية قوية، والاعتقاد بان تقدم البصرة سيكون مخالفاً في نوعه وسرعته لتقدم العراق. وكانت هذه الاحوال تعني ان اهالي البصرة يجب النظر اليهم بوصفهم فئة الاقلية بين سكان المناطق الخاضعة للسيطرة البريطانية ولا توجد اية اشارات الى اي تراث تاريخي او ديني او عرقي بمعزل عن وضع البصرة كمنطقة منفتحة عالمياً.
ثانياً: قدمت العريضة مخططاً لاستقلال سياسي منفصل للبصرة، ويعتمد هذا في الجوهر على صيغة اتحادية حيث توضع ولايتا العراق والبصرة المتحدتان تحت الوصاية البريطانية ويحكمها امير عربي او اي حاكم ينتخبه اهالي العراق وفق اجراءات لم يرد لها تحديد. على ان الجزء الاكبر من العريضة كان يهتم بقضايا الحكومة التي يجب فصلها عن السلطة الاتحادية وتفويضها بدلاً من ذلك الى الحكومة المحلية: تسمية حاكم محلي يعينه حاكم الولايتين المتحدتين من بين ثلاثة افراد ينتخبهم مجلس البصرة وقضايا الدفاع والامن الداخلي حيث للبصرة جيشها الخاص وقوة من رجال الشرطة خاصة بها، وكذلك قضايا التشريع ونظام الضرائب، فللبصرة مجلس تشريعي منفصل يسيطر على المداخل المحلية. ويجب حصر الوظائف الحكومية المسندة للسلطات الاتحادية بالانظمة المشتركة للبريد والبرق والنقود والمقاييس والاوزان وسكك الحديد وطرق الملاحة الداخلية والخدمة الدبلوماسية في الخارج ومسؤوليات الاشتراك في دفع الغارات الخارجية والدفاع عن البلد، ولم تتضمن العريضة اية مطالبة بوضعية خاصة للغة العربية ولا الدور العربي في الادارة كما لم يتم تعيين صدور الدويلة المقترحة للبصرة برغم ان المنطقة الممتدة من الفاو الى القرنة حصراً كانت تفهم باعتبارها المنطقة المستهدفة بالحكم الخاص.
كان نظام الحكومة المقترح يؤكد على الانفصال بين العراق والبصرة اكثر من تأكيده على وحدتهما، وقد ذهب باتجاه اللامركزية الجذرية اكثر من مخطط الحكومة المحلية الذي كان يتطلع اليه بعض البصريين قبل الحرب الاولى.
ان غالبية كبار اهالي البصرة كانوا ينحازون للعريضة، وصارت توصف الحركة الانفصالية باستمرار، بانها التيار السياسي المحلي الاكثر شعبية… ولم يستطع المستشار البريطاني للبصرة ان يذكر سوى شخصيتين اثنتين فقط لم يوقعا على الوثيقة التي تدعو للانفصال، وقد اخبر برسي كوكس لندن، انه برغم وجود عريضة مقابلة تحمل 1500 توقيع فان جميع الافراد ممن لهم وزن من الناحية العملية يقفون الى جانب الانفصاليين. واعتقدت المس بيل ان العريضة تحظى بدعم التجار والملاك المتنفذين عملياً… وبعد سنة واحدة من تقديم مطاليب البصرة نشرت الصحافة الوطنية في بغداد عدة مقالات تناولت الظروف المحيطة بالمشروع ووصفت العريضة بانها في جوهرها مجرد عملية احتيال اذ لم يعرف الغرض الحقيقي من هدف الانفصال سوى سبعة اشخاص ولم يكن على دراية بمحتوياتها الدقيقة سوى اثنين فقط، وينحدر هؤلاء الرجال السبعة من النخبة التقليدية للمدينة. اما اهل المدينة الاميون فقد خدعوا او اجبروا على توقيع العريضة… وقد وصفت بالمقابل خصوم المشروع بانهم احرار المدينة اي مفكروها الاحرار.
ان حركة خلق كيان سياسي منفصل في البصرة اخفقت لان الاحتمال الذي وجد لم يشتغل فلم يكن الفشل بسبب الافتقار الى الموارد المادية، لان داعمي المشروع كانوا ينتمون الى جماعات اجتماعية مهيمنة في البصرة فرضوا سيطرتهم على التجارة المزدهرة للمدينة، وكذلك على الاراضي الزراعية التي امتازت بانتاجيتها الزراعية العالية، وكذلك لم يأت الفشل نتيجة قمع مارسه بريطانيون عليهم. وبرغم ان كبار صناع القرار السياسي البريطاني كانوا يضمرون العداء لرؤى انفصالي البصرة، فان معارضتهم للمشروع كانت تلطفها معرفتهم بالموقف الداعم لبريطانيا وراءه وكثيراً ما وضعت كبار الشخصيات في الادارة البريطانية في العراق وفي لندن ايضاً نصب اعينها امكانية انسحاب بريطاني محتمل الى رأس الخليج العربي حتى بعد ان تلاشت الحركة الانفصالية وكذلك لم يتحطم مخطط الانفصال على يد النظام العراقي الجديد الذي اقامته بريطانيا على العكس من ذلك اتخذ هذا النظام موقفاً سلبياً جداً في مواجهة المشهد السياسي المحلي في البصرة في اثناء النصف الاول من العشرينات واستمرت هيمنة المحرضين الذين كانوا يدعمون المطاليب الانفصالية لبعض الوقت.
بل يكمن السبب الرئيس للفشل الانفصالي في الخيارات الاستراتيجية التي تبنتها النخبة الاجتماعية وراء المشروع. فبعد ان خاضوا حركتهم من منطلق مديني منفتح عالمياً وعلماني بعريضة تطالب بنظام سياسي خاص ركن الزعماء الانفصاليون الى السلبية. فلم يطوروا احلامهم في المخطط لكي تتوافق مع التدابير الفعلية للسياسة العملية اخفقوا في ان يثيروا الحماس الشعبي لتصورهم عن المستقبل المثالي للبصرة، ولم يفعلوا شيئاً يذكر لتوسيع التحالف وراء المخطط.
وكنتيجة لهذه السلبية تمكن المدافعون عن الرؤى المنافسة من فرض سيطرتهم على المسرح السياسي. وكانت الطاقة السياسية للسكان المحليين تصب بالنتيجة في عدة اتجاهات مختلفة: حاولت بعض الجماعات ان تقيم اطراً محلية اضيق بتقسيم منطقة البصرة نفسها الى اقسام اخرى، وبحث اخرون عن انصار في اماكن اخرى في المنطقة بما فيها طهران والرياض والمدن المقدسة عند الشيعة ولا سيما في النجف وكربلاء، بينما اكدت فئة ثالثة ممن تحدوهم على الروابط مع العاصمة العراقية الجديدة في بغداد. ولكن لم ير اي من هذه المشاريع في مدينة الميناء ومنطقتيها الخلفية المباشرة نقطة مثالية للتركيز على جماعة سياسية. وهكذا تهشمت النظرات السياسية للاقطاب الاقوياء الذين يدعمون الرؤية الانفصالية بالتدريج برغم العوامل المادية التي تعمل لصالحهم.
ولم ينبثق المشروع الانفصالي الشيعي الطائفي الخالص في الجنوب حتى عام 1927، وسرعان ما اثبتت انه لا يقل عدم فاعليته عن حركة الحكم الذاتي التي تأطرت بالفاظ مدنية منفتحة كوزوموبوليتية ولكن لاسباب مختلفة. ولم يتردد الزعماء الشيعة في نقل افكارهم الى الميدان العام وتمكنوا من دعم مطاليبهم برمزية قوية. لكن مشكلتهم كانت كانت تكمن في موقفهم كنخبة داخل الطائفة الشيعية.
بالتأكيد كانوا شباباً واصحاب افكار ابداعية غير ان موقعهم في التراتب الشيعي المدرسي كان متواضعاً في الاغلب. فهيمنت مثل عليا اخرى اكثر رسوخا في النظام لان نزعة الاعتكاف عن السياسة والنزعة المعارضة للطائفية اللتين مارسهما كبار العلماء كانتا قد غلبتا على التقاليد السائدة في الفكر السياسي الشيعي، ولم يكن في هاتين النزعتين خزين فكري يمكن ان تستمد منه وتبني عليه الانفصاليات الطائفية، ولذلك سرعان ما انقلبت الحركة السياسية الشيعية في فترة الحرب الى برنامج غير اقليمي تاركة للآخرين ان يحددوا الاطار الجغرافي للسياسة المحلية.
وبالنتيجة كان الوطنيون العراقيون اكثر منافسي انفصالية البصرة فاعلية. ولم يكن تحقيق هذه البروز في المواقف قدراً محتوماً، فقد كانت البصرة قبل الحرب العالمية الاولى محوراً يربط الهند وجزيرة العرب وفارس بالمقاطعات العثمانية الداخلية وتضم شبكة مواطنيها سكاناً من جميع هذه المناطق. وكانت الروابط المناطقية بالمحمرة والكويت لا تقل قوة عن الروابط ببغداد في ذلك الوقت. ومن ناحية اخرى فان الزعم المتكرر بان العراق لم يكن يوجد على الاطلاق في الازمنة العثمانية الاخيرة مما لا يمكن الدفاع عنه ايضاً، لانه كان يوجد فعلاً على الاقل في اذهان بعض البصريين الذين فهموا منه المنطقة التي تمتد من الخليج حتى الحدود الشمالية لولاية بغداد العثمانية.
لقد تمكن هذا الجيل الجديد من المثقفين الذين يصدرون عن خلفية من الطبقة الوسطى او الدنيا في الاغلب من فرض رؤيتهم حول الاراضي العراقية في البصرة في سنوات الانتداب الانتقالية الحاسمة. واذ كانوا معروفين بتنبؤ سلم المناصب الادارية في مناطق شمال المدينة الخليجية، فقد بذلوا وسعهم في العشرينات لترقية جماعة سياسية اكبر تتناغم مع منطقة نشاطهم الجغرافية في اثناء الحقبة العثمانية رابطين البصرة ببغداد وما وراءها من المناطق. وقد تمت تصفية مفهوم العراق الموحد بالتدريج من خلال الصفوف الدراسية والصحف وفعاليات التنظيمات الطوعية وفي المبادئ الاولى للجمعيات السياسية. وكان الاثر التراكمي لهذه الجهود في الميدان العام الذي ساعدت عليه عطالة الانفصاليين مساعدة كبيرة من الفخامة بحيث ان اغلب البدائل المناطقية حين استقل العراق عام 1932 كان قد تم ركنها على الجانب في الاجزاء الجنوبية من البلاد، وكان هذا انجازاً ملحوظاً لكون النقاش ظل ذا طبيعة مفتوحة النهاية لمدة عقد وعلى الرغم من الوسائل الاقتصادية المحدودة التي توفرت تحت تصرف الوطنيين العراقيين الشباب. والموضع الذي تمكنوا فيه من كسر شوكة وجهاء البصرة الاثرياء واقنعوا علماء الشيعة فيما بعد في الوقوف الى جانبهم هو الميدان العملي لبناء وطنيات جديدة . ولقد كان على انتصارهم ان يمارس اثراً باقياً في السياسة العراقية دام بقية القرن العشرين وما زال يمارس فعله حتى اليوم اذ شرع العراقيون ببناء نظام ديمقراطي جديد للمستقبل.
ان المبادرات الانفصالية الفاشلة جم غفير في التاريخ الدولي للقرن العشرين. وقد تمكن عدد كبير من هذه الحركات الانشقاقية المجهضة من البقاء بعد انطفائها كمعارضة سرية او في المنفى ترعاها بعض القوى الاقليمية التي تجدها مقيدة لها او في المدن الكبرى البعيدة التي تتقبل افكارها وعادت كثير من الانفصاليات الهاجعة الى الحياة خلال التسعينات حين سهلت وسائل الاتصال الحديثة من ايصال وجهات نظر الاقليات.
اما الجماعات الفرعية الاصغر ذات النزعات الانفصالية الفاشلة فهي المخططات التي اختفت اختفاءاً كاملاً عن سياسة الدولة التي توجهت ضدها ولم تبدر عنها اية مبادرة انبعاث حتى خلال مراحل الاضطراب الشعبي الجذري، في مثل هذه الحالات تنطفئ شعلات الانفصالية التي غالباً ما ينظر لها كسلاح كلي القدرة في ايدي نخب اجتماعية مستعدة لاستغلالها دون ان تترك حتى ولا جذوة خابية. وقد لا يتم القضاء على نظرات الوجود السياسي المنفصل لكنها بالتأكيد تمسح من الميدان العام. والجوانب المثيرة في مثل هذه الامثلة هي اولاً ما يمكن ان توضحه عن القيود والعوائق التي تواجه النخب التي تسعى الى اعادة رسم المشهد السياسي في دعوة لتثبيت حدود وهويات جديدة وثانيا البصائر التي تقدمها حول قضية الكيفية التي تحرز بها الانتصار المتنافسون من حملة الايديولوجيات التي تشير الى مديات وطنية اكبر وهو انتصار غالباً ما يصل الى حد التأسيس لاحتكار حقيقي.
ان مظاهر التيار الانفصالي في الجنوب كانت ذات نتائج ضعيفة وقياساً بالمناطق الشمالية من العراق حيث تكرر ظهور الانفصالية او اطلاق الدعوات القائلة بنموذج دولة اقل مركزية على الشائعات غير المؤكدة وهو نموذج استمر منذ استقلال العراق عام 1932 حتى سقوط نظام البعث عام 2003، وبرغم عقود من الضغط السياسي المتطرف لم تتبلور مشاريع محددة للانفصال الاقليمي ولم يتجسد مخطط مثل هذا اثناء السنوات الثمان الطويلة مع ايران، وكانت الانتفاضة ضد النظام بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 كهدف الى السيطرة الشاملة على الدولة العراقية باسرها وليس عزل الجنوب وخلال الاعداد لحرب العراق عام 2003 برز شيعة الجنوب على انهم من بين اكثر النقاد حتى لمشروع محدود لاستقلالية مناطقهم بصورة اجراءات فدرالية. صحيح ان نظام البعث كان يستخدم الانفصالية في الجنوب شعاراً لتبرير سياساته القمعية في المنطقة وبين الحين والاخر كان الغربيون يدعون لتدخل اجنبي لتقسيم العراق معتقدين ان التوتر السياسي يمكن ان يقل ببتر الجنوب والشمال عن بغداد لكن سكان المنطقة انفسهم لم يظهروا اهتماماً يذكر بمثل هذه المشاريع.
المؤلف، حين بدأ بدراسة تاريخ انفصالية البصرة توقع انه سيكون محاولة لخلق دولة شيعية منعزلة. ولكن ما كان ابعده عن ذلك وسرعان ما ظهر ان حركة انفصال البصرة في فترة الانتداب البريطاني كان يقودها تحالف اقليمي متعدد الطوائف وكانت تهدف الى اقامة دولة خليجية صغيرة وليس الى دولة شيعية تمتد من البصرة الى بغداد. وحين تجسدت في عام 1927 حركة انفصال شيعية اصيلة لاول وآخر مرة في التاريخ العراقي كانت من الناحية العملية محدودة بمجموعة صغيرة من السياسيين في بغداد والنجف واختفت هي ايضاً في غضون سنة من ظهورها.. وشهدت اتجاهات مماثلة منذ عام 2003، فلقد كانت المبادرة الفدرالية جنوب بغداد اقليمية لا طائفية وارادت خلق وحدة فدرالية على نطاق صغير محدودة باقصى الجنوب بالبصرة نفسها وربما محافظة او اثنين من المحافظات المجاورة لها. ولم يخص احد في مخطط فدرالي طائفي الا مؤخراً في اب/ 2005 وفي بواكير عام 2007، ما زال هذا المشروع يكافح لكي يصير ذا فاعلية خارج قاعدة دعمه الاساسي في النجف وبغداد….
ولكون جهد البصرة الانفصالي في العشرينات شهد الفشل والاخفاق فان تاريخها يجب ان يقدم الكثير من العبر لاقليميَّ الجنوب العراقي اليوم وبالتحديد هناك معرفة متبصرة بحاجة البصرة الى نقل تميزها ودعاواها الخاصة الى المجتمع العراقي الاكبر. وتبرز الحاجة الى التمثيل والحوار والحلول المؤسساتية التي تستطيع ان تبدد المخاوف على كلا الجانبين كأولوية اولى، اذ لفترة طويلة ظل الوطنيون العراقيون المتحمسون يخشون تاريخ حركة انفصال البصرة واليوم بعد 9/ نيسان/ 2003 يستطيع هذا التاريخ ان يسهم في تطوير العلاقات الطيبة بين البصرة وبغداد والنجف وبقية انحاء العراق في اطار عراقي موحد.
* الكتاب:
البصرة وحلم الجمهورية الخليجية، حدود الانفصالية الجنوبية ومنابع الوطنية العراقية، تأليف- ريدر فسر، ترجمة- سعيد الغانمي، ط1، دار الجمل، كولونيا (المانيا)/ بغداد، 2008، 444 صفحة.