23 ديسمبر، 2024 5:12 م

انفجـار المشـرق العربـي من تأميم قناة السويـس إلى غزو العـراق

انفجـار المشـرق العربـي من تأميم قناة السويـس إلى غزو العـراق

 بمـا إن كتابة التاريخ هي بمثابة جهد عقلاني لوضع الأحداث في ساحتها المشهدية التي تجري فيها الوقـائع التاريخية . فالمؤلف في كتابه الذي نحن بصدد مراجعته ، حاول أن يرسم ملامح هذه الساحة وان يفكك أنواع الخطابات التي استخدمها القادة الذين صنعوا الأحداث وصنف المشاعر المختلفة للرأي العام على ضفتي البحر الأبيض المتوسـط .
    مـن اجل ذلك ، حاول المؤلف ، كما هو شأن كل مؤرخ ، أن يغوص في الماضي السابق للإحداث لكي يحـدد مختلف الصيغ الممكن اعتمادها في وصف الأحداث من خلال القراءات المختلفة للماضي أو للطموحات المستقبلية التي تحرك المجتمعات في الزمن الراهـن .
    جـرى اختبار هذه المقاربة من قبل المؤلف في قراءة الأحداث نظراً إلى التنوع في تأويلها والى التنـاقضات المضمرة في غالب الأحيان في المناهج القائمة المختلفة التي من خلالها نقرأ منطق الأحداث . أن هـذه المناهج تفترض في صورة عامة تعدد اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين ، ولـذا بني السرد التـاريخي للمنطقة بمستويات متعددة وبصيغ مختلفة من الإخراج ، وذلك للمزيد من الفهم والإفهـام .
    إن مـؤرخ المنطقة معرض لأفخاخ منهجية كثيرة حاول المؤلف أن يدرسها بمزيد من التفصيـل حيث لا يمـكن أن يبقى تناول قضايا المنطقة عبر إشكاليات مبسطة ، وهي منطقة التلاقي والتقاطع والتفارق بـين الحضارات الكبرى والديانات والإمبراطوريات السياسيـة .
    لقـد استمر هذا الشرق خلال أربعمائة عام منذ بدايـة القرن السادس عشر وحتى بداية القرن العشـرين ، منهكاً من التاريخ الذي يحمله ومن صدمة الخراب الذي خلقته الغزوات المغولية ، هامداً وخـامداً في ظل الهيمنة العثمانية . ثم انتقل بعد ذلك مدة ربع قرن لم يتح له فيه أن يلتقط أنفاسه إلى قبضة الجيش الفرنسي والانكليزي . وأطلت نشوة الحرية عليه غداة الحرب العالمية الثانية التي جسدت مأثـرة تأميم قناة السويس وبها تبدأ رواية المرحلة المتميزة بالانبهار بالإمبراطورية الأميركية في الغرب وبالإمبراطورية الروسية في الشرق ، وكأنه مسار شبه خيالي بعد كل هذه العصور من الركود يختلط فيه الحلم بالواقع ابتدءا من الهزائم العسكرية الضخمة إلى ما أمطره الله من منّة نفطية على هذه الصحاري المكتنفة بالغموض والتي ظلت مجهولة لفترة طويلة وتحول هذا البئر النفطي بين عامي 1973 و 1982 إلى آله هائلة لسيل الأموال الجارف شدت إليها أنظار العالم كله . وأخيـرا السقوط إلى الجحيم بعد أن اجتـاح العراق الكويت وبدد في شهور كل المكاسب التي اعتقدت المنطقة أنها أحرزتها خلال النصف الثاني من   القرن العشرين.
    لقـد جاهد المؤلف من خلال محاولته الدخول في مغامرة سيرة تاريخية تنسيق الإحداث الكبرى التي هـزت المنطقة خلال نصف القـرن المنصرم … مـن تأميم قناة السويس عام 1956 ، إلى اتفاقيـات كمب ديفيد في 1978 و 1979 ، التي أقامت السلام بين مصر وإسرائيل إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ، إلى الحرب المدمرة بين العراق وإيران التي امتدت عواقبها في احتلال العراق للكويت عام 1990 ، ثم حرب الخليج التي دفعت الولايات المتحدة إلى نشر قوات عسكرية هائلة في المملكة العربية السعـودية وتحرير الكويت واجتياح العراق عام 2003 .
    إن تفسيـر الأحداث المأساوية التي هزت الشرق الأوسط خلال النصف الثاني من القرن العشرين استـناداً إلى سببية أحادية الجانب تعزو كل شيء إلى خصوصيات أثينية ودينيـة ، أن هذا التفسير عائد إلى تحولات في التصورات التاريخية ، فقدت فلسفات التاريخ المهتمة بتفسير تطور العالم كل صدقيتها في حين إن دراسة عقليات المجموعات البشرية المغيبة عن التاريخ القومي وهيمنة سياسات الذاكرة قد غزتا مناهج القراءة التاريخية وفلسفة التاريـخ .
    فـي هذا السياق جرى توظيف حالات الصراع المأساوي في المنطقة توظيفاً بلا حياء من قبل تجار الـذاكرة وقد عالج الكثير من المفكرين ظاهرة التقوقع على الهويات التي سببتها العولمة والتي يحاول أن يغذيهـا ويوظفها إعلاميا نظام ضيق وشديد الوطأة على التعددية الثقافية ذو محدودية شديدة … فالصراعات والإشكاليات التي تجري في المنطقة العربيـة … كلها أحداث تاريخيـة تناولتها وسائل الإعلام بتبسيط وإفراط ، وكذلك بمسايرة لا حدود لها لإقناع المشاهد بأنها كلها أحداث تعود إلى مشكلات الهوية التي تُستغل لخداع الخصوم والرأي العام فتخفي بذلك الهدف الحقيقي الذي ترمي إلى بلوغه أشكال العنف المتعلقة بتوكيد الهوية وهو هدف يختزل في غالب الأمر بالسعي وراء طموحات دنيوية متعلقة بالسلطة وبمصالح مادية داخل الجماعات المعنيـة .
    هكـذا تبلورت رؤى متعلقة بالمشرق العربي متناقضة كلياً ومستندة إلى ذاكرات متنازعة والى مطالبات وادعـاءات متناقضة في ما يخص التراث الحضاري . وكشفت النقاب عن هذه المنظورات وغذتها وسائل الأعـلام العالمية والأبحاث المسكونة بوسواس صراع الحضارات ، وبعودة الهويات البدائية الاثنية أو الدينيـة .
    بيـد إن مجموعة الذاكرات الدينية المتنازعة في المشرق العربي لم تبق محصورة في هذه المشكلات بـل هي شملت أيضا النزاعات بين السنة والشيعة في مسألة خلافة النبي (ص) وكذلك في تيارات وتراث فلسفي وروحاني كانت قد فرقت من قبل الكنائس الشرقية بمعارك ضاربة ومشاحنات حول طبيعة المسيح . ومنـذ ظهور الإسلام كتبت مراحل كثيرة من تاريخ المشرق العربي على إيقاع الصراع بين المدرستين الفلسفتين اللتين طورتهما ورعتهما كل من الطائفتين الإسلاميتين الكبريين الاجتماعيتين والسياسيتين . ومازال مضمون هذا التصادم بين هذين التصورين الدائمي التأثير موضوع سجالات ومشاحنات انبعثت على وجه الخصوص مع قيام سلطة شيعية في إيران عـام 1979 .
    إن كثيـر من الأحداث التاريخية في هذه المنطقة شكلت معالم هذه العقود المضطربة التي كانت المجـتمعات العربية خلالها قد تعرضت للاهتزاز في حربين كبيرتين مع إسرائيل عامي 1967 و 1973 ، وفي فورة النفط الهائلة وانبعاث الأصولية الدينية ذات الصبغة الإرهابيـة .
    نصـف قرن تمزق خلاله المجتمع العربي وتوزع بين الدعوة إلى الثورة والتغيير الجذري العلماني الحداثـي من جهة والرغبة في الهدوء واستقرار النظام وثبات التقاليد والبرجزة من جهة أخـرى .
    نصـف قرن خضع فيه هذا المجتمع لتجزئة وشرذمة لم يشهد لهما مثيلاً من قبل على يد قوى متنابذة منقـسمة على نفسها سياسياً وإيديولوجيا مطحونة بثروة نفطية ساحقة موزعة توزيعاً مناطقياً واجتماعياً رديئا ، وقد أنجرت إلى حروب وأعمال عنف متتاليـة .
    الكتـاب يشمل مدخلا نقديا ومنهجيا لطرائق كتابـه تاريخ منطقة الشرق الأوسط و خمسة فصـول مسبوقة بسرد تاريخي يمتد من تأميم قناة السويس 1956 ، حتى غزو القوات الأميركيــة للعراق 2003 .
    الفصـول الخمسة الأولى للكتاب تحلل بشكل نقدي أنظمة الإدراك والمقاربات المنهجية والمصطلحات والعبـارات والتسميات المختلفة والمتناقضة التي يستعملها الأكاديميون والصحافيون ورجال السياسة من الغـرب ومن الشرق في تناول أوضاع المنطقة أو سرد أحداثها التاريخية . وقد قام المؤلف بهذا التحليل النقـدي لما رآه من تناقضات صارخة تجافي الوقائع الموضوعية في الرؤى المختلفة لمنطقة الشرق الأوسط وبالأخص المشرق العربـي .
    ثـم ختم المؤلف كتابه بسلسلة من الملحقات المتعلقة بمواضيع معينة مثل تصنيف المجموعات العرقية والمـذهبية في الوطن العربي ، ومسألة انهيار السلطنة العثمانية ، وكذلك تأسيس جامعة الدول العربية وأدائهـا ، وتاريخ الصهيونية والتطور الاقتصادي للمنطقة . وفـي كل ملحق ذكر وتقييم للعديد من المراجع سواء باللغات الأجنبية أم باللغة العربية ، هذا مع ذكر العديد من المراجع في ملحق خاص للدول العربية الرئيسية . قد لا تكون كل هذه المراجع شاملة إنما تعطي القارئ نظرة عامة عما يُكتب من أبحاث ومؤلفات حول المنطقـة .
    أمـا لماذا منذ عام 1956 ، لان تاريخ المشرق العربي الذي يسرده المؤلف في كتابه أراده في الأسـاس سردا للأحداث الكبرى التي هزت الأقطار العربية منذ فجر الاستقلال . وفي اختيار المؤلف عام 1956 الـذي أممت فيه الحكومة المصريــة قناة السويس وتعرضت غالبا إلى هجـوم عسكـري فرنسي – انكليزي- إسرائيلي ، أراد أن يشير إلى انه تاريخ أول قرار سيادي تتخذه حكومة عربية وتدرجه في النظام الدولي . وقـد أدت ردود الفعل المعادية لهذا القرار في الغرب إلى خلق نمط من التوتر الدائم بيـن المشرق العربي والغـرب .
    منـذ ذلك التاريخ بدأت تظهر حالات مشابهة من التوتر في الشرق الأوسط ، وتفاقمت في صورة خاصـة عام 1967 و 1982 و 1991 و 2003 ، وهكـذا يمكن أن يكون عام 1956 نقطة البداية الملائمة لسرد هذا التاريخ . فهي تكرس في الحقيقة مرحلة من سوء الفهم وتزايد التوتر في العلاقات بين العالمين الغربي والعربـي . أن تاريخ المنطقة المعاصر متميز بشكل متواصل بهاتين السمتيـن .
    فـي الواقع ، إن إشكالا من سوء التفاهم الثقافي والسياسي بين الغرب والشرق العربي أخذت تميز تـاريخ هذه المنطقة من العالم منذ غزو نابليون بونابرت لمصر عام 1798 حتى المواجه مع شفارتزكوف قائد الحملة العسكرية الأميركية على العـراق عام 1990 ، ثم مع تومي فرانكس قائد القوات الأميركية التي احتلت العراق عام 2003 .. قد كرسا منحى واضحاً في المسار ألانحطاطي للمجتمعات العربية وعجزها عن أن تكون شريكا محترما في النظام العالمي المعاصـر .
    إن المنهـج الذي من خلاله كتب المؤلف كتابه ، هو منهج نقدي صارم لا يقبل التساهل في وصف الأمـراض والمآسي التي تعاني منها الامة العربية سواء على يد الدول الكبرى أو على يد العرب أنفسهم ، بل سعى المؤلف باستمرار إلى استكشاف الخيوط الخفية التي تتحكم بتصرفات كل من الدول الغربية الكبرى بمنظومتها الفكـرية والعلمية والأكاديمية تجاه منطقتنا وكل من الأقطار العربية ونظم إدراكها ونمط تصرفاتهـا .
    إن المسعى المبذول في هذا الكتاب يهدف إلى أثارة الاهتمام حول ظاهرة الانحطاط المتواصل الذي يصيـب المجموعة العربية وذلك عبر نقد منهجي لمعظم الأطروحات والآراء والمنظومات المفاهيمية التي تعتمدها الدوائر الغربية بما فيها إسرائيل أو يعتمدها المثقفون العرب والقيادات العربية المختلفـة .
    فقـد حان الوقت لان نعي عمق المشكلات التي نتخبط فيها وعجز الرؤى المختلفة ، أسلامية كانت عربيـة علمانية أم غربية في تناول مشكلة الانحطاط ، وما أسماه المؤلف بدينامية الفشل الذي نتخبط فيـه .
    قـام المؤلف بهذا الجهد النقدي في الجزء الأول من كتابه كمدخل منهجي لابد منه قبل الدخول في الأجـزاء التالية التي تسرد الوقائع والأحداث التاريخية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط وبالأخص في المشرق العربي بالذات ، من تأميم قناة السويس إلى غزو الولايات المتحدة للعراق عـام 2003 ، ومـن ثـم إعادة زعزعة استقرار لبنان ومحاصرة الحكم السـوري .
    وعمـلا بالمنهج الذي اتبعه المؤلف في هذا الجزء من كتابه فقد سعى إلى سرد هذه الوقائع التاريخية مـن خلال الرؤى المختلفة للقوى الفاعلة في المنطقة وخارجهــا لكي يفهم القارئ أعـرابيا ( التسمية للمؤلف ) كان أم غربيـا ، الأوجه المختلفة للحدث الواحد بحسب موقع المشاهدة والمصالح المعنية . ذلك أن فهم منظومات الإدراك والعواطف والمصالح التي تساهم في صنع الحدث – وفي حالة العرب صنع دينامية الفشل – لهو أمـر في غاية الأهمية أيضا من اجل استكشاف الطريق إلى بناء أنماط تصرف جديدة وخلاقة تكسر هذه الدينامية القاتلـة .
    هـذه الرؤى تنبع من الأهواء والعواطف التي تتميز بها القوى الدولية والإقليمية التي تتصارع من اجل الهيمنـة على هذه المنطقة من العالم المتميزة باضطرابات متواصلة منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا . وقد لاحظنا مراراً أن الإعمال الأكاديمية الصادرة عن الجامعات الغربية بما فيها أعمال الطلاب العرب متأثرة إلى ابعد الحدود بمنظومات من المقولات والمفاهيم غير الدقيقة وغير المتناسقة مما يساهم في تشويه صورة المنطقة وبشكل خاص صورة المجتمعات العربية ليس تجاه الدول الغربية وحسب وإنما أيضا تجاه المجتمعات العربية نفسهـا .
    فـالتقاليد العربية في الكتابة عن المنطقة بما فيها الاتجاهات الإسلامية في الكتابة ، هـي أيضا متأثرة بنظـم أدراك مشوهة سواء نتيجة مآسي تاريخ العرب منذ انحطاط الخلافة العباسية في القرن العاشر والحنين إلى الأمجاد التي ولت من دون رجعة ، أم بسبب تأثير الفكر الغربي ونظرته إلى المنطقة على العرب أنفسهـم .
    إن مـا ينقص وطننا العربي هو هذا الاستقلال الفكري المبني على تراكم معرفي متماسك . فقليلون هم المثقـفون العرب الذين يعملون ويفكرون بعيدين عن وطأة الظروف الآنية ، بل الحدث اليومي أو أراء الدول الغربية بجامعاتها ووسائل أعلامها حول المنطقة ، ومـا يقال ويشاع عن مميزات مكوناتها الاجتماعية …. ماعدا استثناءات قليلـة .
    إن المثقفيـن العرب لا يبنون أعمالهم على منظومة فكرية عربية – وهي مفقودة في الحقيقة – ولا يسعـون إلى أبراز إعمال غيرهم من المثقفين العرب وتطويرها بل في معظم الأحيان نراهم يكرسون جهودهم الفكرية إلى التصدي لعوامل ونظرات ظرفية والى مناقشة أراء الباحثين الغربيين حول العرب والمسلميـن .
    إن تأسيس منظومة فكرية عربية يبنى عليها نظام إدراكي متماسك يسمح برؤية الوقائع والإحداث في سياقهـا الحقيقي لهو مهمة ملحة ، هذا أذا أردنا أن نبين المظاهر العديدة لحرب أهلية عربية كامنة نعيش تداعياتها السلبية المتواصلة منذ عقود ولو أردنا أيضا أن نستكشف سُبل مستقبل أفضل لهذه الأمة التي تعيش بطريقة مأسـاوية تراجعية ومليئة بخيبات الأمل منذ عهود تحقيق استقلال الأقطار العربيـة .
    إن مـا قام به المؤلف في سرده الوقائع التاريخية هو مسعى لتبيان تأثير كل من العوامل الداخلية والخـارجية وأنماط التشابك الوثيق بينهما . وان هذا التشابك بين الداخل والخارج هو الذي يميز دينامية الفشل والانحطاط ويفسرها إضافة إلى عوامل اقتصادية عملاقة قليلا مـا يتم أخذها في الحسبان بكل أوجههـا . في هذا السياق يمكن النظر إلى بروز الصحوة الإسلامية كبديل لكل من الرأسمالية والاشتراكية الآتيتين من الخارج من نتاج الطفرة النفطية . ولا يبدو اليوم أن هذه الصحوة قد أوقفت المسار ألانحطاطي ودينامية الفشل ، بـل على العكس من ذلك فهي زادت من ضبابية مشكلة الهوية عند العرب وتنكرت لكل تراث النهضة العربية الأولـى . وبذلك كانت حلقة من حلقات قطع الجذور وصنع التراكم المعرفي الذاتي . فالنهضـة العربية الأولى تميزت في شكل ايجابي بمسعاها في التوثيق بين أفكار الحداثة الآنية من أوروبا بعد الثورة الفرنسية وبين التراث المحلي . إمـا اليوم فقد أصبحنا أسرى الأدبيات الهزيلة لحوار الحضارات والأديان فيما مشكلاتنا الأساسية لا تمت بصلة إلى مثل هذا الحوار ، فهذه الدعوة إلى الحوار هي الهاء عن القضايا المصيرية الأساسية سواء أكانت هذه القضايا تتعلق بالعامل الخارجي أم بالعوامل الداخليـة .
    هـكذا صار المشرق العربي والغرب محبوسين في حلقة مفرغة أدت إلى تفاقم التعقيدات الجيوسياسية وتعميق أسس الانحطاط ذي الوتيرة المتسارعة ، أن التمسك بالأمل في تحسين الوضع في المنطقة يبدو في السياق الذي عرض له المؤلف داخل هذا الكتاب كأنه ضرب من الخيال أو سراب . فمن احل تفكيك الخيوط المتشابكة في علاقات المجتمعات العربية بالغرب ، ومن احل استكشاف الضياع المؤلم للمجتمعات العربية ، لابد من البدء بقبول الجردة الواقعية لنصف القرن العشرين ، كما لابد من وضع هذه الجردة في السياق التاريخي الاشمل والعمل على تغيير الأطر المتناقضة للذاكـرة والإدراك .
    المشـرق العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى في وضع متفجر و متشظ  وخاضع لسياسات تسلط عقيمة فالتـه من عقالها ، غير انه لم يعد ممكناً معرفة ما سيتفتق عنه هذا الوضع من عوامل جديدة في زعزعة الاستقرار والتركيبات الجديـدة .
    المشـرق العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى في وضع متفجر ومتشظ لسياسات القوى الخارجية العقيمة والتي لا ضابط لها ، مع ذلك فمن السابق لأوانه معرفة أي عوامل جديدة ستبنى مستقبلاً لتؤسس في ظلها حالة استقرار ايجابية أو معرفة بذور إعادة التشكيل المقبلة التي قد تنجم عن هذا الوضـع .
    لقـد أنهى المشرق العربي القرن العشرين كما بدأه أسيراً دوماً لإلية الانحطاط . أي إمام مستقبل ضبابـي وتحت وصاية القوى الخارجية الغربية بما في ذلك على الصعيد العسكري .
    إن مجتمعـات المشرق العربي بالرغم مما يجمعها لغة وتاريخاً وديناً هي اليوم أكثر من أي وقت مضى مفتتـه ومشتته في كيانات سياسية يرتاب الواحد منها غالب الأحيان بالأخر ، هذا إذا لم تكن حالة عداء صريحـة .
    الأنظمـة السياسية تسلطية ومستنزفة تعيش أخر أيامها من دون أن يظهر بديل ممكن من شأنه أن يشـق طريقا جديدا نحو مزيد من التماسك والاستقرار . ولهذا فالمنطقة تجتاز إحدى أكثر المراحل ظلمة في تاريخهـا . إن هشاشة الأنظمة أيا كان مستوى تسلطها والطبيعة العنفية لبعض قوى المعارضة وإيديولوجياتها المعادية للغرب … كل ذلك يدفع القوى الخارجية إلى ممارسة وصاية ذات وطأة متزايدة على مجتمعات المنطقة بصورة مباشرة أو بواسطة أنظمة عميلة وسيطـة .
    يـمكن قراءة هذا الكتاب بمثابة دراسة عن نموذج تاريخي من الانحطاط … نموذج أخفاقات المنطقة الممـاثل لإخفاقات مناطق حضارية كبرى في التاريخ العالمي .. والعالم العربي لم يسيطر على حيزه ولا على محيطه منذ عصور ، والعديد من محاولات الخروج من التخلف والانحطاط خلال النصف الثاني من القـرن الماضي كلها باءت بالفشل . إمـا اليوم فالمنطقة تشكل مساحة حدودية لمناطق أخــرى من العالم ، أي أوروبا والولايات المتحدة ونطاقها الداخلي ، يخضع للسيطرة وللنمذجة من الخارج . ويشكل كسر هذا النموذج من الانحطاط مهمة طويلة النفس تقتضي الخطوة الأولى منها ظهور وعي لعمق دينامية التقهقر ، فبعد كل محاولة لتغيير مضمون الدينامية يجري تثبيت النموذج . ولهذا ينبغي الخروج من زمنية التقهقر التي يعيش فيها المشرق العربي حيث التاريخ المقدس ممثلا بالتوراة أو القرآن بالحروب الصليبية أو بالأندلس المفقود يؤدي دور المعالم القياسية والمعيارية الطابع للتاريخيـة المهيمنة المستبعدة لأي معالم أخرى .
    إن نمـاذج الخيال الجماعي تبقى جامدة في ماضي الأمجاد والآلام التي تأخذ شكل المثال الأعلى أو الأسطـورة ولا وجود لمستقبل إلا بالعودة إلى العظائم المفقودة . وهكذا لا يعاش الحاضر العربي إلا كتكرار رتيب لانحطاط لا نهاية لـه .
    بـدأت دروب إلا خفاق عند العرب بعجز صحابة النبي الاتفاق على نظام الخلافة بعد موت النبي ، ما أدى إلى صـرع سني – شيعي عاد ليسمم الحياة السياسية العربية . وتعزى مسؤولية الإخفاق العربي في بناء مؤسسات الدولة المستقرة في الأغلب إلى البداوة القبلية في المحيط الجغرافي الذي تحدر منه مؤسس الديانة الإسلامية – القول للمؤلف – لقد فقد العرب السلطة بدءا من القرن العاشر وانتزعها منهم الأتراك والإيرانيون ، وفي نهاية القرن الخامس عشر استكمل الأسبان طرد المسلمين العرب والبربر من شبه الجزيرة الاسبانية ، وصار العرب والبرر في المغرب في موقع الدفاع في مواجهة القوة الأوروبية الصاعدة التي انتهت بالسيطرة عليهـم .
    أملنـا إن يكون هذا الكتاب صالحاً لانطلاق حوار بعيد أكثر واقعية وصوابية في ما بيننا كعرب لاستـكشاف سبل الخروج من مسار الانحطاط ودينامية الفشل ولإرساء دعائم نهضة عربية ثانية تخرجنا مما نتخبط فيه من أمراض جماعية وحروب داخلية وخارجية ولكي نتمكن من اللحاق بسائر الأمم ، فنوفر على الأجيال المقبلة أن تعيش العذاب نفسه والشعور بالعار ذاته الذي ينتاب كل عربي من الجيل الحالي والأجيال السابقة ، وكي نقضي على ما يمكن أن يولدّه هذا الشعور من خيبة أمل وعدم الاهتمام بمصير الوطن أو الأوطان العربية ، والبحث عن الخلاص الشخصي في جمع المال أو في الهجرة أو في الانتهازية القاتلة أو في أنواع مختلفة من العنف الذي يأخذ الطابع العبثي في بعض الأحيـان .
    هـذا الكتاب يسد ثغره كبيرة في المكتبة وبشكل خاص في تاريخ الأحداث الضخمة المتتالية التي تميز بهـا الوطن العربي في أطار العلاقات الصاخبة بين هذه المنطقة والدول الغربية الكبرى . والحقيقة أن المكتبة التاريخية العربية ما تزال فقيرة في ما يختص بتاريخ المنطقة المعاصر . ويأتي هذا الكتاب ليعطي للقارئ العربي المهتم بتاريخ وطنه ومصيره ، لـوحة تاريخية شاملة لكل أوجه الحياة في مجتمعات المنطقة منذ تأميم قناة السويس عام 1956 ، وحتـى غزو العراق واحتلاله من قبل الجيش الأميركي وحلفائه عام 2003 ، مستعرضا أيضا الروابط الخفية بين أحداث القرن التاسع عشر والقرن العشرين في كل من الشرق والغرب . ولعل هذه أول مرة يحاول مؤرخ عربي أن يشمل عمله كل جوانب حياة المنطقة الفكرية والعقائدية والاجتماعية وبشكل خاص الاقتصادية ، نظرا إلى انتاج النفط وارتفاع أسعاره المفاجئ من انقلابات في الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي ابتدءا من سبعينيات القرن الماضـي .
    إن هـذا الكتاب هو نتاج أكثر من خمس وعشرين سنة من التأمل والبحث من قبل مؤلفه إذ صدرت أول طبعـه فرنسية له في عام 1983 ، وأول طبعة عربية في سنة 1985 . وقـد تتالت بعد ذلك الطبعات باللغة الفرنسية ، وكان المؤلف في كل مرة يضيف ليس ما استجد من أحـداث مفجعة وحسب إنما أيضا ما يمكن استنتاجه من تطور السيرورة التاريخية العربية المتميزة بالانفجار والانحطاط في آن معاً امام هجمة المصالح الإسرائيليـة .
    وبنـاءا على قراءته المتعدد الجوانب لتاريخ المنطقة المعاصر ، يدعو المؤلف إلى إعادة نظر شاملة في الطروحات السياسية والفكرية السائدة بغية وقف هذا التدهور المريع في أوضاع العرب في النظام الدولي واستباحة أراضيهم وكرامتهم القومية والقطرية ، ناهيك عن التهميش الاقتصادي وهجرة الأدمغة التي تعاني منها المنطقـة .

* الكتـاب :
انفجـار المشـرق العربـي … مـن تأميم قناة السويـس إلى غزو العـراق 1956-2006 – جورج قرم ، ترجمة – محمد علي مقلد ،ط1 ، دار الفارابي ، بيروت ، 2006 ، 863 صفحة                                
[email protected]