بعد اندلاع موجة التغيير الاولي في الشرق الاوسط و التي عرفت بـ”الربيع العربي” في تونس و مصر في خواتيم العام 2010م و مستهل 2011م ثم امتدادها الي ليبيا و اليمن ..؛ تلك الموجة التي اسفرت عن سقوط حكام كل تلك الدول (زين العابدين بن علي، و حسني مبارك، و معمر القذافي، و علي عبدالله صالح) و اسفرت عن تغيير سياسي في القطرين الاولين (تونس و مصر) و قيام نظام سياسي جديد كلياً في بلد وحيد هو تونس، و بعد اندلاع الحراك السوري؛ و الذي نجحت عملية عرقلته و الابقاء علي حكم الاسد بفعل عوامل خارجية عديدة أقلها التدخل العسكري الروسي لصالح الحكومة السورية،
بعدها طالعنا دراسات و مقالات عديدة تبحث و تتحدث عن أثر تلك الثورات و انعكاسها علي السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي، و مما قيل في هذا الشأن حينها ان الواقع السياسي و التاريخي لبلدان الخليج يختلف كثيراً عن واقع بقية الدول التي اندلعت فيها ثورات التغيير، و ذلك بحكم الارث الوطني المختلف بسبب اختلاف نوع و طبيعة الاستعمار و لاختلاف الطبيعة الديموغرافية-السكانية و اختلاف البني الاقتصادية.. الخ .
كل تلك الاختلافات كان حريٌ بها ان تطمئن انظمة الحكم الأسرية في الخليج؛ برغم اندلاع احتجاجات البحرين؛ و التي كان يمكن السيطرة عليها بقليل من التنازلات و كثير من الحكمة!
لكن علي ما يبدو ان قوة الهزة التي ضربت المنطقة كانت اكبر من درجة تحمل و صبر الانظمة الخليجية (يمكن اضافة حكام ايران هنا) فانطلقت تسعي في سبيل ايقاف عجلة التغيير قبل ان تصل اليها!
لم تكن بلدان الخليج منقسمة بالعمق مثلما هو بادي الأن ، بل ازعم انها كلها كانت متفقة حول ضرورة السيطرة علي درجة و نوع التغيير؛ فالقطريين كانوا يشجعون التغيير ليدفعوا حلفاءهم من تنظيمات الإسلام السياسي ليصلوا الي سدة الحكم بديلاً للانظمة التي خرجت عليها الشعوب، و من ثم يسهل السيطرة علي الأمور مستقبلاً بفضل احكامها السيطرة علي حلفاءها من تنظيمات الاخوان المسلمين و الحركات السلفية المتشددة، بينما السعوديين الأماراتيين و البحرينيين كان لهم تكتيك مختلف و هو دعم الانظمة لتصمد أو دعم نواة من داخلها لتحل محل القديم! و بين الموقفين و التكتيكين توزعت مواقف الكويتيين و العمانيين.
بسبب الموقف الخليجي ذاك و ما يتوافر له من اسناد مالي و لوجستي تحولت ثورات التغيير الي حرب اهلية في كل من ليبيا و اليمن اضافة لسوريا! و أصبحت شعوب المنطقة تخاف التغيير اكثر من خوف الحكومات منه! و أصبحت اي صيحة احتجاج لها فعل الكابوس.
لكن لأنه مامن قوة علي الأرض بمقدورها لجم إرادة الشعوب التي “يستجيب لها القدر” و ما من سلطة يمكنها منع عجلة التاريخ من الدوران؛ فقد انطلقت نسخة جديدة/ثانية من ثورات التغيير، انطلقت من السودان الذي و برغم ان شعبه اختبر ربيع التغيير منذ ستينات القرن الماضي إلا انه عاني الأمرين في العقود الثلاث الاخيرة، اختبر فيها فظائع دكتاتورية الإسلام السياسي و قمع و ظلم دولة الاخوان المسلمين، الذين تسببوا في تفكيك مؤسسات الدولة دون ان يأسسوا بني دولة “الخلافة الاسلامية المزعومة” ثم انتهوا الي تفكيك جسم الولة و عظمها نفسه أي الأرض و الشعب باستقلال جنوب البلاد و أزمة دارفور و الاقاليم التي تعرف اليوم ب”الجنوب الجديد”، ثم سري لهب ثورة التغيير الي الجزائر صاحبة كابوس “العشرية السوداء” التي كانت بشراكة غير زكية بين حرس الدولة القديمة “جبهة التحرير” و دعاة دولة الإسلام السياسي، و الي لبنان و العراق اللتين تشهدا مأساة طائفية ممتدة..
ان النسخة الجديدة من ثورات التغيير (التي تبلي حتي الان بلاءاً حسناً) سيكون لها تأثير اكبر؛ ليس فقط علي السياسة الخارجية لدول الخليج مثلما احدثت النسخة الاولي؛ انما علي سياستها الداخلية و علي بنية العلاقة بين الحكومات فيها و المواطن، و بين مؤسساتها فيما بين بعضها البعض، فاعتبار ثورات التغيير شأن دولي اقليمي تتدخل فيه دول الخليج كان ترفاً سياسياً و دبلوماسياً و مخابراتياً وفرته النسخة الاولي، أما النسخة الجديدة فهي اكثر حذقاً و تضرب في العمق البعيد لتعيد تشكيل العلاقات بين مكونات الوطن السياسية و الإجتماعية و تعيد بناء المؤسسات.