انا شخص ميال الى العزلة، عشت اغلب سنوات عمري ومازلت بعيداً ما امكنني البعد عن الناس. احب خلوتي، لا ازور انما ازار، ولا اشارك في فرح او مأتم. قليل الكلام، احب ان اسمع اكثر مما اتكلم، حذر ومتحسب، امارس السرية والكتمان على مجمل ما اقوم به. معتد بشخصيتي، عزيز النفس، ليست لي طموحات مادية، لي ميول متنوعة، احداها اقرأ بنهم كبير وفي مختلف العلوم والفنون. نظرتي للامور دائما سديدة، لأني اخطط كثيراً قبل الاقدام على اي عمل، فأرى ما لا يراه الاخرون. اضع افكاري في مكانها وترتيبها الصحيح، فأنعمَت برؤية استشرافية قلما اخطأت، وهذا ما جعلني اتميز بقدراتي وبارائي الى درجة اسفه رأي الاخرين واتشبث برأيي ولا ارضى عنه بديلاً الا اذا اقتنعت بصوابيته اقتناعاً تاماً.
اتظاهر امام البعض باني مصدق لما يقول الى حد اتظاهر امامه بانني غبي حقاً، وادعه يظن بانه ذو ذكاء حاد، وانني غير قادر على ادراك ما يبطن وما سيتصرف به، فانني اعرف مساحة معرفتي امام الذي يعرف اقل مني وامام الذي يعرف اكثر مني، وعلى هذا الاساس اتعامل مع الآخرين، ومن هنا جاءت واقعيتي، اعرف ما استطيع وما لا استطيع وما الممكن.
اعيش بعض الاحيان بعصبية مزعجة، واشعر بالانزعاج من اقل الاشياء لا سيما الغبية. اعمل بجد وسعادة اذا لم يشغل بالي شيء او يشتت تفكيري او يعكر مزاجي امر ما، فالاجواء المتوترة تؤثر على عطائي وتزعجني.
متواضع في علاقاتي مع الاخرين اذا كانوا على مزاجي والا فان العلاقة معهم تصبح مفقودة، لهذا تجدني اتحفظ في اقامة اي نوع من العلاقات مع هذا الآخر، ولا احب نقاش تفاصيل حياتي معه.
اغفر فلا انتقم او أثأر، فأنا لا اعرف الحقد والتعقيدات، احقق الرجاء لكل من تقدم به الي وكان بامكاني ان احققه من اجل اسعاده، فاعطي من دون ان اخذ، واقاسم الغير زادي، اتنازل لمن يستحق عن جزء من مدخولاتي واحياناً ما تمنحه لي والدتي من مال- انا وحيدها- وهي لا تمنع عني شيئاً ارغب فيه.
غرفة مكتبتي، ملاذي، لا اخرج منها، ولا ارد على اي كان او اتحدث الى مخلوق الا لضرورة. اقرأ، فافهم ما اقرأ، واستمع الى موسيقى من نوع خاص بيّ فتنتشي روحي وتسمو وتغرق نفسي في الرضا والغبطة العميقة. اشعر فعلاً بانني سابح في نعيم السلام والسكينة الداخلية التي توفرها لي والدتي على الرغم من تيار الشعور المكتئب الذي ينتابني بين حين وآخر، فادور في المنزل لا ارى احداً اشكو اليه ولا يكلمني.
حياتي تمضي على وتيرة واحدة، وعلى نمط واحد وانما هي في العادة مليئة بالخبرات والتجارب المتنوعة التي تبعث فيها مختلف الانفعالات والعواطف، اذ اشعر بالحب حيناً والبغض والكره حيناً آخر. اشعر بالخوف والقلق تارة، وبالأمن والطمأنينة تارة اخرى. احس بالفرح والسرور بعض الوقت وبالجنون والكآبة في بعض الاحيان، وقد يمتلكني شعور بالاخلاص والتفاني والتضحية احياناً آخر, وقد تستولي عليّ اوقات غضب شديد فأثور، وقد اخلد في اوقات اخرى الى الهدوء والسكينة فانعم بلذة الحياة وبهجتها.
تيار من الشعور، مكتئب، جارف، يجتاح كياني بين مدة واخرى، مثلما تجتاح عاصفة ترابية سماء صافية. شعور سوداوي تدفق في وجداني الصافي المستمد من صفاء المنزل وهدوئه، ربما احلم بفك قيود اسر الوالدة وطقوسها، بحيث شعرت للمرة الاولى بالضآلة امام شيء في الوجود غير ملموس وغير مرئي. هذا الشعور المتدفق بقوة، جرف الكرى من جفني، جعل عيني تمتصان طلال الليل وتسكبانه في القلب الجريح النازف بالحب. حفرتان تكدس فيها السهر والكآبة والعجز.
تنوح امواج الحسرة مستعرة، تستوقفني، تتداولني آهات تدك صدري مجردة الا منها، واسافر من جديد لمذاق الغربة والرحيل، اسافر من سماء البحر، من سراب الحلم منهوكين، الم يحتطب نبض قلبي، استعيد من الحياة بعضه لا كله، فيكون لي ان استعيد شذا الروح ولو قليلاً، واحمل النور بكفي لكل بيت يشكو العتمة، احمل همس الريح امام الحقل، انفض الذكريات، اطلق لها العنان بارضها، اشلاء الصور تملأ اركان غرفتي، واسماء اصدقاء المصالح تمزقت مع تلك الصور، وتمزقت حروفها واضحت طلاسم لا معنى لها.
كم ورقة امتلأت، وكم مقالة كتبت وامتلأت بالألم المرير، ألم المفجوع في كل شيء، ألم من دفع ثمن كل شيء مقدماً، وما زال الجرح ينزف والألم يستمر بلا عقبات، والسكين تستكن باصرار في ضلوعي المهشمة.
اتخيل العدد اللامحدود من الاحياء الذين مكثوا فوق نفس الرقعة من الارض، وابدأ بلا كلل او ملل اسرد اسماءهم، ومع بزوغ فجر اليوم التالي اعلم المجهول/ الطيف في عدة لقاءات وعدة تناقضات فيمن يعيشون داخلي، وليبدأ الصراع بين العديد من الارواح الهائمة بلا حصر على تبوء القيادة في نفسي، حيث تتم عملية تناسخ اللامحسوس لأصبح بوقاً يعزف الحاناً مختلفة على نوطة الحياة التي لا تنتهي الا وهي الروح لتصنع مني مخلوقاً حياً يختلف عن كل الباقين، بسر رباني عظيم هو الخالق للروح التي هي من عمله هو وحده لا غير.
تنفست الصعداء، سحبت كمية من الهواء لاطفئ حريقاً اشعلته شهب الاحلام في هشيم الذكريات الذي امتص حياتي. اطلقت لذهني العنان سارحاً في جنات الخيال، داعبني حلم جميل، ثم فررت وبقيت في الظلام. لم اغادر مكاني قيد انملة لكني تمتعت بشيء من الحرية في اثر انطلاقة فكرة حالمة.
انهض من بين كومة الكتب التي اسيج بها نفسي والقي بكتاب كنت اطالعه جانباً. اشعر بأن جسدي الثقيل تحول الى فراشة تتحرك برشاقة في ارجاء ملاذي، غرفة مكتبتي، اتقدم من جهاز التسجيل وادفع بكاسيت الى داخله لتنطلق موسيقى من نوع خاص، لكن الامر مؤخراً اصبح بالنسبة لي غير ذلك، حيث لا ادري لماذا اخذت تتملكني كل هذه النوبات من الغضب الجنوني كلما استمع الى هذا النوع من الموسيقى، فمن شدة انفعالي اكور قبضة يدي ملوحاً بها في الفراغ، واتمنى لو كان في قدرتي ان امسح عن وجه العالم كل قبحه ووحشيته.
نظرت في المرآة، لم اصدق نفسي؟! انكسة كبيرة شملتني؟ لا ادري؟ بقايا عزيمة شبه واهنة تحصي ضجر السنين، اشهق وجعاً والألم يخترق كامل احشائي، واعضاء جسدي مرغمة بتذوق طعم الحجر، انهكها موت عصي فبانت تئن من قلق نيء.
يتابعني ارق الغربة- الذي عانيته سابقاً- من بعيد برغم تشقق الجسد تعبيراً عن ضياع زمنه الآتي. رغم اتساع الضحكات من منبتها –الصوت-.
يطوقني الحزن الهازج، يكبلني كالخطايا، يسلبني ويواصل…. التقط انفاسي الشاردة، انهض، اقف، اخرج في الفضاء محاولاً ابعاد انفاسي عن هذا الجو الخانق من دون جدوى، ويبدأ الشريط العتيق يستحثني على تذكر اولئك الاصدقاء الاحباب من زملاء الدراسة في لبنان وفرنسا الذين رحلوا، اولئك الذين رحلت عنهم ، فلا املك سوى الانصياع لذلك النداء، لتلك الضحكات التي تثير شجوني.
اشخاص اوفياء رسمتهم في مخيلتي ومازالت تنبض بهم وتثبت ذكرياتهم، والايام الحلوة التي سامتنا القدر كي نعرف بعضنا بعضاً عن قرب، فاصبحت املك ذلك الاحساس الحميم نحوهم، وحزنت جداً ولم املك سوى الصمت والهذيان امام طوفان الايام، وهو يجرفهم على مرأى مني فحملت معي ذلك الشعور الغريب بالحنين والرغبة في العودة الى تلك الاماكن وملء ذلك الفراغ القاتل الذي خلقته سنين العمر بعيداً عن كل ما تتمناه الجوانح والشعور بالحاجة اليهم.
اصبح القلم رفيقي على مدار اللحظات، أنفس بمداده ما يختلج في صدري من اهات حارقة ومشاعر جياشة مخزونة في صدري، وافرغ عن طريقه ما يحتويه رأسي من افكار كثيرة… وعلى الرغم من كل ذلك فاني اقسو عليه احياناً بل اكون قاسياً جداً، فهو الوحيد القادر على تخفيف آلامي، فانا وقلمي صديقان، كلانا يشارك الاخر افراحه، واحزانه، فهو صديقي الذي ينصت الى شكواي، وأنيسي الذي يشاركني فرحتي، وان غلبتني الحيرة لجأت اليه، وان ملكتني الحسرة شكوت اليه.
لا اخفي عليه سر، فقد فتحت له قلبي، وصرت اسرد له عما يجول في نفسي من كلمات موحشة تهز كياني، وعندما اشعر بان اليأس قد قيد يدي واغلال الغم قد اثقلت جسدي، ابدأ بنشر آهاتي المكبوتة على السطور وآلامي المدفونة في مشاعري على الورق.
اصبحت الكتابة حياتي، تسري في شراييني، وتتغلغل في نبضات احساسي، الجأ اليها في كل وقت لا افارقها، خاصة في المساء، حتى اعتدت ان اسهر وحيداً الا من ورقتي وقلمي، واظل ساعات طويلة مع سكون الليل الذي يخيم على اجواء غرفة مكتبتي، ملاذي الدائم.حينها يشجعني قلمي ويهمس عقلي بالكتابة، فتبدأ اناملي بخط الكلمات، فكل الارهاق يهون، وكل اللالام تهون، مادام قلمي هدفه الابداع في الخلق والصدق في التعبير عن ذوات الآخرين.
فانا، كما يعرف قلمي، انحني بخشوع امام قلم الابداع اذا كان نظيفاً، واهتف للقلم الذي يمسح دموع الحزن اذا كان في خدمة الحق والعدالة، ولست مع الذين يتصورون ان القلم في خدمة الحق والباطل على السواء.
فعمر القلم الصادق اكبر من عمر البشر، فعندما يبحر القلم في محيطات اللغة بحثاً عن مواطن الكلمة الصادقة وموانئ الفكر الهادفة، حينها يجد لذة في مقاومة التيارات المضادة في سبيل الوصول الى ما يصبوا اليه. فهو يخترق دهاليز الذاكرة عنوة ويدخل القلب بعد ان يفتح صمامات بشوق وهدوء، ويحمل في ثنايا الروح بشرى حتى يدعنا نغني اغنيات الصباح الفيروزية ببهجة، ونرقص على انغام ايقاعاتها التي خطت عناوين جديدة جميلة.
حاولت الكتابة، الكتابة عن اي شيء، لم اتمكن، شيء ما استشعر بيّ، فعصفني بمداه، حاورت نفسي، اكلمها تارة واعابثها، وتارة اسايرها. استمر في محاورتها وانسى كل ما هو لي وانظر بعينين لا تريان شيئاً سوى غشاوة بيضاء كثيفة، واهز كتفي لا مبالياً، وبين حين وآخر تتوارد خواطري الآف الخواطر، تتصارع في عقلي الغائب عن سطحيات الامور، اقتفي أثر الارواح الشاردة والساكنة، وتأتي الاصوات مزيجاً غريباً كنداءات من عوالم اخرى، توجهني على انها نفسي التي تحدثني وتستجوب ما بداخلي عمن يسمعني ومن يرد على اسئلتي: ماذا اكتب اليوم؟ اي الكلمات؟ اجلس وانزوي وحدي واظل اسرح وسط خيالات هي مجموعة اطياف تمر من امامي.
احياناً اجد نفسي بلا فكرة مسبقة ولا استعداد مسبق، فامسك بقلمي فأجده يكتب وكأنه قلم سحري. فقناعتي تدلني عليه وهو يستدل على طريقي، وهكذا قيل، وهكذا يشير الضمير ايضاً.
الكتابة عندي اشبه بالحب، لا تخضع لقوانين ولا مواعيد ولا اعداد… وقد افاجأ بحالة من السيولة الفكرية بعد حالة من القحط واليأس، تماماً كما يفاجئك الحب بعد ان يظن انك قد احكمت اقفال قلبك بعد ان خاض آخر تجاربه.
احياناً، اجدني اريد ان اكتب رغم استعدادي لذلك، وفي هذه الحالة اعاني من حالة رفض او يأس شديد، وهذه الحالة يصاب بها كل شخص يحاول ان يكون صادقاً مع نفسه او يحس ان الكتابة فعل ورصد وتعرية وتغيير وتحدٍ وجهاد وتعبير عن واقع اكبر من الذات.
ترى، هل اطلعنا او اطلع البعض على ما كتبته الاقلام النزيه؟ وهل اطلعوا على ما سطرته الاقلام المأجورة التي تبحث عن التزييف بعد ان فقدت الضمير؟ وشتان بين هذا وذاك. فمن يشوه الحقائق وينطق الكذب ويلهث وراء الزيف، يسقط، ومن يسبح وسط مناخ قائظ ليكسب بالخديعة نقطة فهو غافل، والخديعة ما عادت تنطلي حتى على السذج من الناس.
البعض يدور في حلقة مفرغة في قراءة ما يكتبه البعض والرد عليه، ويعتقد البعض ان من دونه اغبياء وجهلة وهو الوحيد الذي يمتلك ملكة الفهم والاستيعاب والذكاء، وينسى هؤلاء كلهم ان اغلبية الناس مسحوقة ومشغولة ولم يعد لديها الوقت لتقرأ حتى جريدة بائسة بتفاهاتها….
آه، ياقلمي العزيز، عندما حاولت ان اكتب عنك خفت ان لا اوفيك حقك، فانت الذي امددتني بالشجاعة الكافية التي من خلالها اصبحت قادراً على مواجهة اختلاف وجهات النظر. فكلماتي التي اكتبها فيك قليلة في حقك، فكثيرون من تحولت حياتهم بسبب اقلامهم المتزنة التي لم تنحرف عن طريق الصواب. اما انا، فلست منهم بل شخص اصبح يعشق القلم مثل عشقه لسهر الليالي من اجل رفد مدادك. فقد قامت صداقة كبيرة بيني وبينك ان لم تكن عشقاً، فالعاشق يتشبه بمعشوقه، اما انا، فاتشبه بك واتخيلك متقلداً الوسام الذي بودي ان امنحه اياك. فقد عبرت معي حاجز الخوف والتردد الى عالم ابداء الرأي والمشاركة وعدم الخوف في قول الحق خشية من لومة لائم غبي وحقود وحسود، فلك ان تتخيل حالتي وانا بعيد عنك، انها حالة اشبه ما تكون بحياة الصحراء، فكل شيء فيها مخيف ولا يتحرك.
ليتك تعرف شعوري عندما تجبرني الظروف واكون مجبراً على الابتعاد عنك، انه شعور من فقد عزيزاً لديه، فقد عاهدنا بعضنا ان نكون سوية ولا نفترق الى الابد.
ان كلماتي التي اكتبها تعجز احياناً عن وصف شعوري ومدى تعلقي بك، انه شعور الرسام عندما يمسك بريشته، يغرق معها في احلامه وطموحاته، وانا كذلك.
لقد عرفت معك احلام العالم المسمى بعالم الخيال، مبحرين الى اعماقه، مستمدين منه المادة لتحفظ اجمل عبارات الثناء والتقدير لك، متمنياً ان تظل صداقتنا الى الابد، وان لا يكون هناك مزق يبد هذه العلاقة.
عندما وجدت ان واقعنا اليومي لم تعد تجدي معه الكتابة ولا الكلمات، قررت بارادتي ان اريح قلمي واضمه ال مجموعاتي من الانتيكات والاثريات والى ما اجمعه من انواع السبح والساعات والاقلام، لانني احسست انه مطلوب مني ان اغير مداه وازيفه لازيف بالتالي حقيقة الواقع، لانني اخذت ارى البعض يبيعون اقلامهم وافكارهم لمن يدفع اكثر او اولئك الذين يحاولون ان يظللوا الجماهير ويلونها بتجاويف يسمونها ادباً ثورياً وشعراً جماهيرياً، بينما جمهرة الناس مشغولة بتوفير لقمة الخبز التي تزداد صعوبة الحصول عليها كل يوم. اما الاهم من ذلك، فهو ان الجماهير تعرف مقدار الزيف الذي يبيعه البعض.
لذلك، هي ترفض ان ينطلي عليها كل هذا الهراء وتدير ظهرها للذين يدعون انهم يتحدثون باسمها وهم يتحدثون باسم المال والسلطان، وتكتب الجماهير بطريقة واسلوب مختلف وتلتهم كتباً من نوع آخر، وتقدس اناساً من نوع مختلف.
اخذت انعم بالوحدة بعد ان ارتضيت حياة العزلة، على الرغم من احساسي احياناً بالكآبة تتخلل مهجتي والحسرة تملك وحدتي. اما الوحدة، شجرة باسقة لم تحظ بمجد عاشق ما، كتب عليها اسم حبيبته المجهولة، في مثل تلك الاساطير البعيدة. على اية حال، الوحدة هي الوحدة، في الفلسفة والاشعار والاساطير، والحياة لا تحمل معنيين، مع ذلك لها نكهة خاصة.
ان المؤمنين لا يتخلصون من الوحدة الا اذا آمنوا بالتجرد. هكذا وجه شويترز كلامه الى اندريه مالرو، لكن احسب ان تلك الوحدة التي عناها شويترز لا تعني سوى هذيان فلسفي لا معنى له ازاء ذواتنا، لان حياتنا القاسية محت كل ما يحتمله ذلك المعنى من قلق وجودي يعيشه مفكرنا المسمى مالرو.
ان الوحدة لا تعني الايمان بالتجرد فقط، فانا مثلاً في لحظات العزلة ارى الاشياء المحيطة بيّ كما لو اني اراها لاول مرة، فاشعر ان الشارع ليس غريباً عني لكن انا غريب عن الشارع.
عندما يسقط الواحد منا لا بديل له. هذا ما نؤمن به، لا احد في الحياة يحل محل الاخر. بعضنا يأخذ وحدته الى القبر لينام بجانبها. البعض تأقلم مع تلك الوحدة، اصبحت تشبه تماماً، حتى ان امثال هؤلاء البعض لا يشعرون بجدوى ان ينفض احد عنهم الغبار العالق من بقايا الحياة. وهذا الكلام مقتنع به هذا البعض الى درجة تجد رماد السجارة لا لون له بين اصابعهم.
مع الوحدة والعزلة، كلنا ننتظر الموت دون ان نشعر برغبة للتعبير عنه، اشياء كثيرة بحجم احلامنا مؤجلة… البيوت النظيفة، السيارات الحديثة، النساء الزوجات، ولا تنسوا المال الوفير… انه اغراء شخصي لا اكثر، محاولة لاثبات اننا ما نزال على قيد الحياة لا اكثر، كأننا نقود سياراتنا في صحراء ثم نكتشف لهذه السيارات ابواقاً فتنتابنا رغبة مجنونة في الضغط عليها والتعرف على اصواتها.
بوق سيارة في الصحراء؟!
أهذا ما نفعل؟!!
افتحوا دفاتركم او حين تعلقون اعماركم على جدران الوهم، هل تذكرون الفنان فان كوخ حين قطع اذنه وقدمها للمرأة التي اعجبت بها، كان مجنوناً، لكن تستطيعون ان تقولوا انه جنون العبقرية. وضاعت تلك المرأة وضاع معها عمره وراح يعتزل الناس ويقال انه آمن بالوحدة والتجرد… ومات…
هل للموت لون؟!
حدث مثل هذا حين قالت احدى ملكات القبائل الافريقية لفيلسوف فرنسي:
ممنوع ان يتكلم احد عن الموتى والا ما يكون نفع الاحتفال الجنائزي الذي يقام لهم؟! ذلك ان الفيلسوف الاخرق اراد ان يفلسف لملكة ترى في الاقنعة الافريقية تعويذة ضد الزمن، هي تتحدث عن الميثولوجيا في بكارة المجرات وهو يلمس الموت في بؤس الواقع. انهم لم يسمعوا باعتراف ستالين: انتصرنا وهزمناهم، لكن المنتصر الاخير هو الموت.
ليس من ملاذ للموت سوى الموت. احدهم من الذين تأكلهم الوحدة على طبق العزلة والوحشة، اسلم نفسه للوحدة، على احد جدران المنازل يحدق ساهماً في الفضاء.
هل تعرف ان البيت بحر من الظلمات؟
حين يقول ذلك يثير اشكالية معمارية واجتماعية، ولم لا تقول ان بيوتنا التي نسكنها حالياً هي بحر الظلمات، ممنوع دخول الهواء اليها بفعل قوالب الاسمنت. ويجب ان نموت داخل هذا الحصار الذي اسمه البيوت العصرية.
اذن، عدنا الى الموت من حيث لا ندري!
هل فكر احدنا في اي قبر سيدفن؟
القبور واحدة، ما الفائدة؟
لكن، أليس من حق الانسان منا ان يرى قبره الذي يستريح فيه للابد؟ ليس مهماً، مادام الانسان لا يرى نفسه وهو يموت؟
ياللجواب الرائع؟!
قفزنا الى اللانهاية. ولماذا لا تقول الى اللابداية، حيث تعود الكلمات الى ينابيعها الاولى او لنكن اكثر دقة، تعود الكلمات الى اصلها الاشاري في العصور الحجرية السحيقة بحيث لا تعود المفردات… الموت او الوحدة او العزلة او حتى المبادئ…. اي دلالة سوى عجز الكلمة عن التعبير وسقوطها المريع في اللافعل.
ارجو ان لا يغضب المنظرين الذين يصرون بحماقة ان تكون الكلمة هي الفعل، لانه يخيل الينا بعد كل ما حولنا من العذاب والفاقة وتبديد مقومات الروح، ان حرفتنا في هذا العصر وتحديداً في هذه الارض، اشبه بحرفة حدادي القرى الاولين الذين يبددون حياتهم كلها على محاولة ابتكار اشكال جديدة ومغرية لحدوات الخيول ثم يكتشفون فجأة ان الخيول نفسها قد انقرضت من العالم.
ولكننا نكتب…. ومع ذلك نكتب
اولاً، ليسعد بالتفرج علينا هواة اللعبة.
ثانياً، لاننا بتنا اليوم بعد يوم بحاجة الى ما ندفع به عن ارواحنا مذلة انتظار الموت.
هكذا تمضي حياتي في تغير مستمر وتقلب دائم. وهذا بلا شك يضفي عليها جزءاً كبيراً مما لها من قيمة وما لها من متعة. فبغير هذه الاحساسات الوجدانية والانفعالات والعواطف المختلفة، تصبح حياتي مملة لا متعة فيها، وتصبح شبيهة بحياة الجماد الذي لا يحس ولا يشعر ولا ينفعل. وعلى الرغم من ذلك، فمازالت الحياة لغزاً لم يستطيع ان يفسره الانسان، فهو يولد على غير قصد منه، ويذهب عنها على الرغم منه، ليس ذهابه باقل عجباً من وجوده.
والانسان في ذاته مازال لغزاً فاق في غموضه لغز الحياة، بل هو لغز الالغاز، فما اسهل ما تصدر على بعضه احكام موضوعية، واذا به لا يخلو من تصرف مشين، وقد يظهر لك بمظهر التقي واذا به شهواني جامح. وقد يتكلم كثيرا عن معاني الانسانية ودفع الضرر عن الناس، ولكنه لا يتورع عن امساك السلاح وشن الحروب وقتل الانسان.
احياناً، افكر، اذ اننا نعيش ونلهو في هذه الحياة الدنيا، ونعصي ونتمرد، وايضاً نركض وراء ملذات الدنيا كأننا نعيش للابد، كأننا ملزمون بأن نملأ افواهنا وجيوبنا اكثر مما تطيق حتى تتكور بطوننا وتتهدل، وفي لحظة نغادر هذه الدنيا كما اتينا، فقط وبقطعة قماش بيضاء رخيصة الثمن، واحياناً او غالباً يغادر البعض بدون تلك القطعة؟!
ماذا نريد نحن؟
وراء أي سراب نلهث؟
لماذا نحس هكذا اننا عطشى بالرغم من اننا نعبئ من سراب اوهامنا؟
يخيل اليّ، ان الانسان شيطان رجيم في جانب كما هو ملاك رحيم في جانب آخر، وما نراه من تناقض في اعماله ليس الا نتيجة لهذا الصراع الدائر بين قوى الخير وقوى الشر فيه، ولست مبتدعاً شيئاً فيما اقول، فهذه هي النتيجة التي توصلت لها خبرة الانسان على مر العصور… وماذا بعد؟
لا اريد ان يفهم من كلامي، ان نركن وننزوي في زاوية ما، ونضع ايدينا على خدينا ونندب على وتيرة واحدة، انما اردت ان اقول: هل تستحق هذه الدنيا كل هذا العناء؟ هل هناك خلود يستحق ان نرهن انفسنا من اجله؟ وكيف يكون المجد والخلود؟ ولماذا نسمع فقط باسماء اناس قدماء مازالوا بيننا كأنهم احياء؟ ولماذا البعض منا لازال لاهٍ؟
كيف نملأ بطوننا، وكيف نتوسد ركام قناعتنا وننام ولا نحس حتى بالذباب وهو يدور حولنا على شكل دوائر وكأنه يحدد قيمتنا في هذه الدنيا؟ ماذا فعلنا لغيرنا؟ وماذا سَنُورَث للاجيال الاتية؟ لا شيء، سوى مجموعة مشاكل معقدة هي كل ما سنتركه لهم!!
ما العمل اذن؟ كيف نخفف عن النفس عناء الحياة وغموض الحياة وآلام الحياة؟
في رأيي، ان يتخلى الانسان عن الاعتداد بما لديه من قوة عقل وفكر منصبة جلها في خدمة نزوات… ويفتح قلبه اكثر للحياة، فهناك حياة في التأمل بالطبيعة وجمالها، وهناك اجتهاد في الحصول على الصديق، فما كل من عرفته وتعاملت معه وضحكت معه وعشت معه بصديق. لأن الصديق الحقيقي هو المرآة التي ترى نصفك الثاني فيها، ويرتاح قلبك حين تحيا معه.
كن مسامحاً في كثير من الامور، وتحمل اذى الناس، وتذكر- انما انس القلوب الصفاء- ولا تخف كثيراً من الفقر والحاجة في المستقبل، فحياتك الحقيقية هي اللحظة هذه التي تعيشها الآن، وليست ماهو خافٍ في علم الغيب. واذا ما صعب عليك هذا الكلام فما عليك الا ان تعتزل الناس، ولكن في هذه الحالة لا تكن فارغاً لان في فراغك هذا وحشة لك وألماً.
لكن، هل هذه قيمنا كبشر؟
لا اعتقد، فما خلقنا الله الا من اجل هدف ورسالة سامية جدير بنا ان ندركها ونؤدي رسالة سبحانه تعالى في الارض.
[email protected]